الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الصنف الرابع : هم القائلون بالجمع بين الخلق ، والأمر ، والقدر ، والسبب .

فعندهم أن سر العبادة ، وغايتها مبني على معرفة حقيقة الإلهية ، ومعنى كونه سبحانه إلها ، وأن العبادة موجب الإلهية ، وأثرها ، ومقتضاها .

وارتباطها كارتباط متعلق الصفات بالصفات ، وكارتباط المعلوم بالعلم ، والمقدور بالقدرة ، والأصوات بالسمع ، والإحسان بالرحمة ، والعطاء بالجود .

فعندهم : من قام بمعرفتها على النحو الذي فسرناها به لغة وشرعا مصدرا ، وموردا ، استقام له معرفة حكمة العبادات ، وغايتها ، وعلم أنها هي الغاية التي خلقت لها العباد ، ولها أرسلت الرسل ، وأنزلت الكتب ، وخلقت الجنة والنار .

وقد صرح سبحانه بذلك في قوله : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [الذاريات : 59] .

فالعبادة هي التي ما أوجدت الخلائق كلها إلا لأجلها كما قال تعالى : أيحسب الإنسان أن يترك سدى [القيامة : 36] ؛ أي : هملا .

قال الشافعي -رضي الله عنه - : أي : لا يؤمر ، ولا ينهى ؟

وقال غيره : أي : لا يثاب ، ولا يعاقب على الأمر والنهي ، وهو طلب العبادة ، وإرادتها .

وحقيقة العبادة امتثالها ، ولهذا قال تعالى : ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا [آل عمران : 191] .

وقال سبحانه : وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق [الحجر : 85] .

وقال : وخلق الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت [الجاثية : 22] . [ ص: 327 ]

فأخبر -تبارك وتعالى - أنه خلق ذلك كله بالحق المتضمن أمره ، ونهيه ، وثوابه ، وعقابه ، فإذا كانت السماوات والأرض إنما خلقت لهذا ، وهو غاية الخلق ، فكيف يقال : لا غاية ، ولا حكمة مقصودة ؟ أو : إن ذلك لمجرد استئجار الأعمال ، حتى لا يتكرر عليهم الثواب بالمنة ؟ أو لمجرد استعداد النفوس للمعارف العقلية ، وارتباط لمخالفة العوائد ؟

وإذا تأمل اللبيب الفرق بين هذه الأقوال ، وبين ما دل عليه صريح الوحي من الله ذي الجلال ، علم أن الله تعالى إنما خلق الخلق لعبادته الجامعة لكمال محبته ، مع الخضوع له ، والانقياد لأمره .

فأصل العبادة محبة الله تعالى ، بل إفراده بالمحبة ، فلا يحب معه سواه .

وإنما يحب ما يحبه لأجله ، وفيه ، كما يحب أنبياءه ، ورسله ، وملائكته فيه ، ولأجله ؛ لأن محبتهم من تمام محبته تعالى ، وليست كمحبة من اتخذ من دونه أندادا يحبهم كحبه .

وإذا كانت المحبة له هي حقيقة عبوديته ، وسرها ، فهي إنما تتحقق باتباع أمره ، واجتناب نهيه .

فعند اتباع الأمر والنهي تتبين حقيقة العبودية ، والمحب .

ولهذا جعل سبحانه اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم علما عليها ، وشاهدا لها ؛ كما قال تعالى : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله [آل عمران : 31] ، فجعل اتباع رسوله مشروطا بمحبته لله تعالى ، وشرطا لمحبة الله لهم .

ووجود المشروط بدون تحقق شرطه ممتنع .

فعلم انتفاء المحبة عند انتفاء المتابعة للرسول ، ولا يكفي ذلك حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما .

ومتى كان عنده شيء أحب إليه منهما ، فهو الإشراك الذي لا يغفره الله تعالى . [ ص: 328 ]

وقال سبحانه : قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين [التوبة : 24] .

وكل من قدم قول غير الله على قول الله ، أو حكم به ، أو حاكم إليه ، فليس ممن أحبه .

لكن قد يشتبه الأمر على من يقدم قول أحد ، أو حكمه ، أو طاعته على قوله ظنا منه أنه لا يأمر ، ولا يحكم ، ولا يقول إلا ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيطيعه ، ويحاكم إليه ، ويتلقى أقواله لذلك، فهذا معذور إذا لم يقدر على غير ذلك.

وأما إذا قدر على الوصول إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وعرف أن غير من اتبعه أولى به مطلقا ، أو في بعض الأمور ؛ كمسألة معينة ، ولم يلتفت إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا إلى من أولى به ، فهذا يخاف عليه .

وكل ما يتعلل به من عدم العلم ، أو عدم الفهم ، أو عدم حصول آلة الفقه في الدين ، أو الاحتجاج بالأشباه والنظائر ، أو بأن ذلك المتقدم كان أعلم مني بمراده صلى الله عليه وسلم، فهي كلها تعللات لا تفيد .

هذا مع الإقرار بجواز الخطأ على غير المعصوم ، إلا أن ينازع في هذه القاعدة ، فتسقط مكالمته ، وهذا هو داخل تحت الوعيد .

فإن استحل مع ذلك سلب من خالفه ، وقرض عرضه ودينه بلسانه ، أو انتقل من هذا إلى عقوبته ، أو السعي في أذاه ، فهو من الظلمة المعتدين ، ونواب المفسدين . [ ص: 329 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية