الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وبالجملة : فذنب الموحد الكامل يفعل ما لا تفعله عبادة غيره .

والفاسق الموحد أفضل من المتقي المشرك ألف درجة .

والرعوي الخاطئ المذنب المقصر في الطاعة أعلى رتبة من الباغي المداري المداهن المتملق ؛ لأن هذا نادم على تقصيراته ، ومعاصيه ، وهو مغرور بكيده .

ولا أرجى من هذا الحديث في هذا الباب ؛ لأن فيه بشارة عظمى لأهل التوحيد الذين لا يشركون شيئا في السر ، والعلانية ، وهم عن الشرك أبعد ، وعلى مراحل شاسعة منه .

ولكن الشأن كل الشأن في انتهاء الإنسان عن الشرك بالرحمن ؛ فإنه أصعب الأمور ، والعقبة الكؤود في هذه الدهور ، ورب ناس يظنون أنهم موحدون ، وليسوا بمشركين ؛ لتركهم الإشراك في الظاهر ، وهم واقعون في شركه في الباطن كما قال تعالى : وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون .

لأن الاتصاف بتوحيد الربوبية ، والخالقية سهل ، يتصف به أكثر الخلق ؛ من المؤمن ، والكافر .

وأما الاتصاف بتوحيد الإلهية ، فأمر عسير لا يتصف به إلا من وفقه الله ، وأعطاه فهما صحيحا ، وقلبا سليما ، وفطرة إسلامية ؛ فإن الشرك أخفى من دبيب النمل ، وقد يتطرق في أفعال القلوب ، والجوارح ، والأعمال ، والنيات بحيث لا يشعر به ، ولا يدري ، ولا ينجو منه كل أحد إلا من حقق التوحيد ، وتمسك به ، وحقق الشرك ، وطرائقه ، وحقائقه .

ولا يبلغ العبد هذه الرتبة إلا بالاعتصام بكتاب الله سبحانه ، وبسنة رسوله المطهرة صلى الله عليه وسلم؛ فإن فيهما بيان ذلك، وليس بعد هذا البيان بيان ، ولا قرية بعد عبادان .

ومن ظن أن الاطلاع على الشرك وأنواعه ، يحصل بالاشتغال بغير هذين الأصلين من كلام الأحبار والرهبان ، لا سيما أهل الدنيا منهم ، فهو مغرور لا يهتدي إلى الحق سبيلا . [ ص: 401 ]


وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها ؟

قال في «فتح المجيد » : قوله : «ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا » شرط ثقيل في الوعد بحصول المغفرة ، وهو السلامة من الشرك كثيره وقليله ، وصغيره وكبيره ، حقيره وجليله .

ولا يسلم من ذلك إلا من سلمه الله ، ذلك هو القلب السليم كما قال سبحانه إلا من أتى الله بقلب سليم [الشعراء : 89] .

قال ابن رجب -رحمه الله - : من جاء مع التوحيد بقراب الأرض خطايا ، لقيه الله بقرابها مغفرة -إلى قوله : فإن كمل توحيد العبد وإخلاصه لله تعالى فيه ، وقام بشروط بقلبه ، ولسانه ، وجوارحه ، أو بقلبه ولسانه عند الموت ، أوجب ذلك مغفرة ، مع ما سلك من الذنوب كلها ، ومنعه من دخول النار بالكلية .

فمن تحقق بكلمة التوحيد قلبه ، أخرجت منه كل ما سوى الله محبة ، وتعظيما ، وإجلالا ، ومهابة ، وخشية ، وتوكلا ، وحينئذ تحرق ذنوبه وخطاياه كلها ، وإن كانت مثل زبد البحر .

قال العلامة ابن القيم في معنى هذا الحديث ما لفظه :

ويعفى لأهل التوحيد المحض الذي لا يشوبه الشرك ما لا يعفى لمن ليس كذلك، فلو لاقى الموحد الذي لم يشرك بالله شيئا ألبتة ربه بقراب الأرض خطايا ، أتاه الله بقرابها مغفرة .

ولا يحصل هذا لمن نقص توحيده ؛ فإن التوحيد الخالص هو الذي لا يشوبه شرك ، ولا يبقى معه ذنب ، ولو كانت قراب الأرض ، فالنجاسة عارضة ، والدافع لها قوي . انتهى .

التالي السابق


الخدمات العلمية