الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل في رد الشرك العادي

في إطلاق لفظ العبد والأمة ونحوها وصنع التصاوير

عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يقول أحدكم: عبدي وأمتي، كلكم عبيد الله، وكل نسائكم إماء الله، ولكن ليقل: غلامي وجاريتي، وفتاي وفتاتي، ولا يقل العبد: ربي، ولكن ليقل: سيدي» - وفي رواية: «ليقل: سيدي ومولاي».

[ ص: 203 ] وفي رواية: «ولا يقل العبد لسيده: مولاي ؛ فإن مولاكم الله» رواه مسلم.

قال بعض أهل العلم: معناه: لا يقول مملوك لسيده: إنك مالكي؛ لأن مالك الكل هو الله تعالى وحده لا شريك له.

ولا يقول السيد لمملوكه: إنك عبدي، وأنت أمتي ؛ لأن هذا شأن الله.

وكلهم عبيده وإماؤه، ليس أحد بمالك أحدا، ولا أحد عبدا لأحد.

والحديث دل على النهي عن مثل هذه المحاورة فيما بينهم، مع وجود الملك فيما بين السيد والمملوك، فضلا عن أن يصير عبدا لأحد كذبا ومجازا، فيسمى مثلا بـ: عبد النبي، وعبد الرسول، وعبد السلطان، وأمة فلان.

ويقول في مخاطبة أهل الفضل: يا مالك! يا رازق! يا رب! يا مربي المحب ! ونحوها.

كما يقال بالفارسية مثلا: بنده حضور، وبندكان عالي، وبرستار خاص، وآشنابرست، وغريب برور، وخداوند خدالكأن.

ومثل ذلك أن يقول لأحد: إنك مالك مالي وروحي، وإني في يدك، افعل ما شئت.

فهذا كله كذب محض، وشرك بحت ينبغي الفرار منه، ومن أتى به، فقد ثبت عليه الشرك - نعوذ بالله منه.

ولكن هذا الشرك قد عم وطم في هذا الزمان الأخير، إلى غاية لا يتقي منه فقير ولا أمير إلا من رحمه الله.

وجرت عادة الكتاب بتحرير مثل هذه الألفاظ الشركية البدعية في ألقاب الأمراء والملوك، وآدابهم في الطروس والتوقيعات والخطابيات. اللهم غفرا.

والحديث فيه: دلالة على النهي عن استعمال لفظ العبد، والأمة، والرب [ ص: 204 ] ورخصة في قول لفظ: الغلام، والجارية، والفتى.

وهذه الألفاظ المنهي عنها، وإن كانت تطلق لغة، لكن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنها؛ تحقيقا للتوحيد، لما فيها من التشريك في اللفظ ؛ لأن الله تعالى هو رب العباد وسيدهم، ومولاهم جميعا.

فإذا أطلق هذا على غيره، فكأن المطلق عليه شاركه في هذا الاسم، فنهى عنه لذلك، وإن لم يقصد بذلك التشريك في الربوبية، والسيادة، والولاية التي هي أوصاف الله تعالى حقيقة.

وإنما المعنى: أن هذا مالك له، فيطلق عليه اللفظ بهذا الاعتبار.

فالنهي عنه حسما لمادة الشرك بين الخالق والمخلوق، وتحقيقا لإخلاص التوحيد المطلوب، وتبعيدا عما يوهم الإشراك، ولو في اللفظ والعبارة.

وهذا من محاسن مقاصد الشريعة الحقة، والملة الصادقة ؛ لما فيه من تعظيم الرب، وإبعاده عن مشابهة الخلق، وتنزيهه عن التمثيل.

فأرشدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما يقوم مقام هذه الألفاظ، وهو ما تقدم.

قال تعالى: إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا [مريم: 93]، ففي إطلاق هذه الألفاظ على غير المعبود بحق، تشريك في اللفظ، وفي العادة الجارية فيما بينهم، فنهاهم عن ذلك ؛ تعظيما له سبحانه، وأدبا معه تعالى، وبعدا عن روائح الشرك وشوائب الكراهة، وأرشد إلى القول بفتاي وفتاتي وغلامي.

وهذا من باب حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جانب التوحيد وجنابه.

فقد بلغ أمته كل ما لهم فيه نفع، ونهاهم عن كل ما فيه نقص في الدين، ونقص لتوحيد رب العالمين، فلا خير إلا ودلهم عليه، ولا شر إلا حذرهم منه.

والظاهر من الحديث: أن النهي عن إطلاق لفظ «السيد»، و «المولى» متأخر عن جوازه ومقدم عليه.

[ ص: 205 ] وورود لفظ «الغلام» فيه مشعر بجواز إطلاقه، وعلى هذا يصح أن يقال :هذا، أو ذلك غلام لي أو له.

وإنما نهى بعض أهل العلم عن تسمية الصبيان بمثل غلام فلان ؛ كغلام علي، وغلام محيي الدين، وغلام رسول، وغلام النبي ؛ لكون لفظ الغلام عندهم، وفي اعتقادهم بمعنى: العبد.

ولا عبرة بالمباني، إنما العبرة بالمعاني، ولا تتبدل الحقائق بتبديل الأسماء، بل الحكم الحكم.

ومثاله: أن الخمر حرام، فإن سماه أحد: كرما، لا يحل بإطلاق هذا الاسم عليه، وكذا الربا محرمة، وقد يسميها بعض المحتالين منافع، فهذا لا يحللها أبدا، وإن تبدل الاسم والرسم .

نعم يجوز مثل هذا الاستعمال في قوم ليس عندهم معناه العبد مثلا، بل يفهمون منه المعنى اللغوي، ويطلقونه عليه.

فتأمل في ذلك تجده كلاما نفيسا فارقا بين الاستعمال الحق والإطلاق الباطل.

وعن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله» متفق عليه.

الإطراء: هو المبالغة في المدح، والغلو في الثناء، ومجاوزة الحد في الوصف، والكذب فيه. قاله ابن الأثير.

التالي السابق


الخدمات العلمية