الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
من هو عبد الله الحقيقي؟

وإنما عبد الله: من يرضيه ما يرضي الله، ويسخطه ما يسخط الله، ويحب ما يحبه الله ورسوله، ويبغض ما يبغضه الله ورسوله، ويوالي أولياء الله، ويعادي أعداء الله، فهذا الذي استكمل الإيمان. انتهى ملخصا.

وقد تصدى صاحب «فتح المجيد» لشرح باقي هذا الحديث، فراجعه، فإنه ليس في ذكره هنا مزيد فائدة.

وقال تعالى: فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون [البقرة: 22] قال في «فتح المجيد»: الند: المثل والنظير، وجعل الند لله: هو صرف أنواع العبادة، أو شيء منها لغير الله؛ كحال عبدة الأوثان الذين يعتقدون فيهن، ورجوه أنه ينفعهم، ويدفع عنهم، ويشفع لهم، وهذه الآية في سياق قوله تعالى: يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون إلى قوله : فلا تجعلوا لله أندادا .

قال العماد «ابن كثير» في «تفسيره»: قال أبو العالية: لا تجعلوا لله عدلاء شركاء، وهكذا قال الربيع بن أنس، وقتادة، والسدي، وأبو مالك، وإسماعيل بن أبي خالد.

قال ابن عباس: لا تشركوا بالله شيئا من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر، وأنتم تعلمون أنه ربكم، لا يرزقكم غيره، وقد علمتم أن الذي يدعوكم الرسول إليه من توحيده هو الحق لا شك فيه. وكذا قال قتادة.

[ ص: 373 ] وعنه، وعن مجاهد: لا تجعلوا له أكفاء من الرجال تطيعونهم في معصية الله.

وقال ابن زيد: الأنداد: الآلهة التي جعلوها معه، وجعلوا لها مثل ما جعلوا له.

وعن ابن عباس: «أندادا»: أشباها. وعن مجاهد: وأنتم تعلمون أنه إله واحد في التوراة والإنجيل.

وفي معنى هذه الآية: حديث الحارث الأشعري في «مسند أحمد» عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بهن، وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، فكأنه أبطأ بهن، فأتاه عيسى -عليه السلام- فقال: إن الله أمرك بخمس كلمات أن تعمل بهن، وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، فإما أن تبلغهن، وإما أن أبلغهن.

فقال: يا أخي! إني أخشى إن سبقتني بهن أن أعذب أو يخسف بي.

فقال: فجمع يحيى بن زكريا بني إسرائيل في بيت المقدس حتى امتلأ المسجد، فقعد على الشرفات، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن، وآمركم أن تعملوا بهن:

أولاهن: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، فإن مثل من أشرك بالله، كمثل رجل اشترى عبدا من خالص ماله بورق، أو ذهب، ثم أسكنه دارا، فقال: اعمل، وارفع إلي، فجعل يعمل ويؤدي غلته إلى غير سيده، فأيكم يسره أن يكون عبده كذلك؟ وإن الله خلقكم ورزقكم، فاعبدوه ولا تشركوا به شيئا.

2 - وآمركم بالصلاة؛ فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده ما لم يلتفت، فإذا صليتم، فلا تلتفتوا.

3 - وآمركم بالصيام، فإن مثل ذلك كمثل رجل في عصابة معه صرة من مسك، كلهم يجدون ريح المسك، وإن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك.

[ ص: 374 ] 4 - وآمركم بالصدقة؛ فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو، فشدوا يده إلى عنقه، وقدموه ليضربوا عنقه، فقال لهم: هل لكم أن أفتدي نفسي منكم؟ فجعل يفتدي نفسه بالقليل والكثير حتى فك نفسه.

5 - وآمركم بذكر الله كثيرا؛ فإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو، سراعا في أثره، فأتى حصنا حصينا، فتحصن فيه، وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله».

قال: وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «وآمركم بخمس، الله أمرني بهن: (1) الجماعة (2) والسمع (3) والطاعة (4) والهجرة (5) والجهاد في سبيل الله ؛ فإنه من خرج عن الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، إلا أن يرجعه، ومن دعا بدعوى الجاهلية فهو من جثي جهنم».

قالوا: يا رسول الله! وإن صلى وصام؟ قال: «وإن صلى وصام» وزعم أنه مسلم، فادعوا المسلمين بأسمائهم، بل بما أسماهم الله -عز وجل- المسلمين، المؤمنين، عباد الله».


قال في «فتح المجيد»: وهذا حديث حسن. والشاهد منه في هذه قوله: «وإن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئا». انتهى.

قلت: والمراد بالجماعة في هذا الحديث: هي جماعة الصحابة، نهاهم عن أن يخرجوا من طريق هذه الجماعة قيد شبر؛ لأنها لم تكن إذ ذاك جماعة أخرى، ويدل له حديث: «ما أنا عليه وأصحابي».

وهذه الجماعة في الفرقة الناجية بنص النبي صلى الله عليه وسلم.

ونظيرها في هذا العصر، وبعد القرون الثلاثة المشهود لها بالخير، جماعة أهل السنة، وهم أصحاب الحديث؛ فإنهم سالكون مسالك الأصحاب والآل، ماشون على طريق السلف والصدر الأول.

ومن زعم أن المراد بالجماعة: جماعة أهل مذهب خاص، من مقلدي [ ص: 375 ] المذاهب الأربعة وغيرهم، فقد أبعد النجعة، وليس بيده دليل يصلح للالتفات إليه، والتعويل عليه.

ثم قال في «فتح المجيد»: وهذه الآية دالة على توحيد الله تعالى بالعبادة له وحده لا شريك له.

وقد استدل بها كثير من المفسرين على وجود الصانع، وهي دالة على ذلك بطريق الأولى. والآيات الدالة على هذا المرام في القرآن الكريم كثيرة جدا.

وسئل أبو نواس عن ذلك فأنشد:


تأمل في باب الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليك     عيون من لجين فاترات
بأحداق هي الذهب السبيك     على قضب الزبرجد شاهدات
بأن الله ليس له شريك

وقال ابن المعتز:


فيا عجبا كيف يعصى الإله     أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيء له آية     تدل على أنه واحد

وعن ابن عباس في الآية، قال: «الأنداد»: هو الشرك، أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن تقول: والله، وحياتك يا فلانة، وحياتي، وتقول: لولا كليبة هذا، لأتانا اللصوص، ما شاء الله وشئت.

وقول الرجل: لولا الله وفلان. لا تجعل فيها: فلان. هذا كله شرك. رواه ابن أبي حاتم.

بين -رضي الله عنه-: أن هذا كله من الشرك، وهو الواقع اليوم على ألسن كثير ممن لا يعرف التوحيد ولا الشرك.

[ ص: 376 ] فتنبه لهذه الأمور، فإنها من المنكرات العظيمة التي يجب النهي عنها، والتغليظ فيها؛ لكونها من أكبر الكبائر، ومن أبطل الباطلات.

هذا حبر الأمة وبحرها ينبه بالأدنى من الشرك على الأعلى منه.

التالي السابق


الخدمات العلمية