الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
زمان تدوين الحديث وسبب اجتهاد الأئمة

بيان ذلك: أن زمان تدوين الحديث في الأمهات الست كان قريبا من زمان الأئمة الأربعة المجتهدين رضي الله عنهم.

وإنما ألجأ المجتهدين إلى الاجتهاد عدم تدوين السنة في ذلك الوقت. ومع ذلك اجتهادهم قليل بالنسبة إلى ما نسب إليهم من المذاهب في الأحكام.

هذا الإمام الأعظم أبو حنيفة الكوفي -رضي الله عنه- ليس له كتاب في الفقه، إلا ما يقال: إن الفقه الأكبر منه، وهو في العقائد، لا في الفروع، وإلا [ ص: 249 ] «مسنده» وهو في الحديث، لا في الفقه، مع أنه ليس من جمعه، وفيه ما فيه.

وهذا الإمام مالك عالم المدينة -رضي الله عنه- له كتاب «الموطأ» وهو في الحديث لا في الفقه المصطلح عليه اليوم.

وكتابه هذا كتاب قديم مبارك، صحيح غاية الصحة، عال في السند نهاية العلو، وأخباره وآثاره مضمونة في الصحيح وغيره.

وقد وصى مسند الوقت الشيخ أحمد المحدث الدهلوي في بعض مؤلفاته بالعمل به في هذه الدورة الأخيرة، وقال: إن رضاء الحق أن يعمل به، ويترك ما دونه من التفريعات والتخريجات.

وهذا الإمام محمد بن إدريس الشافعي -رضي الله عنه- ليس له كتاب مستقل في علم الفروع، وكتابه «الأم» و«رسالته» في أصول الفقه.

وكان -رضي الله عنه- لا يجتهد إذا وجد الحديث. وكان يقول للإمام أحمد: أنت أجمع للحديث منا، فإذا وجدت كلاما لي ورد الحديث بخلافه فأخبرني أذهب إليه.

وظهر في متبعيه مجتهدون كثيرون في كل عصر وقطر إلى الآن. ومذهبه أقرب المذاهب بمفاهيم الحديث والقرآن.

وهذا إمام أهل السنة بالإجماع، من مخالف ومؤالف أحمد بن حنبل -رضي الله عنه- لم يكتب حرفا واحدا في الفتاوى والفروع. وإن جمع من فتاواه نحو من ثلاثين مجلدا.

وكان فتواه الحديث والقرآن فقط، وكان شديد الاتباع، رأس المحدثين، ونبراس المتقين، ولولاه لم تبق السنة وأهلها في الدنيا، وحوادثه مشهورة مذكورة في كتب الطبقات وتراجمه.

[ ص: 250 ] نعم له «مسند» كبير يقال: إن فيه أربعين ألف حديث. فهو كتاب من كتب السنة.

والكلام هنا في تدوين الرأي على خلاف الحديث.

وقد ظهر في أتباعه من لا نظير لهم في الأمة؛ علما، وعقلا، وزهدا، وتقوى، وطاعة. ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

قال في الترجمة: ومن أقوى الحجج، وأسنى البراهين على علو مقام هذا الإمام الأجل الأكرم، ورفعة مكانه، وقوة مذهبه واجتهاده: أن شيخ الشيوخ، قدوة الأولياء، وقطب الأقطاب، وفرد الأحباب الشيخ محيي الدين عبد القادر الجيلاني -رضي الله عنه وأرضاه- حامل لمذهبه، تابع لأقواله.

قال في «بهجة الأسرار» في مناقبه: وكان يفتي على مذهب الشافعي، وأحمد بن حنبل.

ومن هنا يظهر أنه كان له اجتهاد، ويوافق أحد المذهبين، والمشهور المقرر أنه كان على المذهب الحنبلي. وثبت ذكره، ووقع اسمه في الحنابلة. والله أعلم. انتهى.

وأقول: لو ثبت كونه -رحمه الله تعالى- مجتهدا، ولعل الأمر كذلك، فموافقة اجتهاده بالمذهبين المذكورين اللذين مبناهما على اتباع الحديث والكتاب من محاسن الاتفاق، وعدم موافقته بمذهب الحنفية والمالكية في غالب الأحوال من غرائب الآفاق.

ولعل من هنا قال من قال من أهل السلوك: إنه لم يكن في أهل الرأي ولي لله، ولم يتفق ذلك فيهم. والله أعلم.

التالي السابق


الخدمات العلمية