الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال بعض أهل العلم: ومن العجب إبطالهم هذه الصلاة، وتصحيحهم الصلاة بقراءة مدهامتان [الرحمن: 64] بالفارسية، ثم يركع قدر نفس، ثم يرفع قدر حد السيف، أو لا يرفع، بل يخر كما هو ساجدا، ولا يضع على الأرض يديه ولا رجليه، وإن أمكن ألا يضع ركبتيه، صح ذلك، ولا جبهته، بل يكفيه وضع رأس أنفه، كقدر نفس واحد، ثم يجلس مقدار التشهد، ثم يفعل فعلا ينافي الصلاة من فساء، أو ضراط، أو ضحك، أو نحو ذلك.

واحتجوا على تحريم وطء المسبية والمملوكة قبل الاستبراء بقول النبي صلى الله عليه وسلم- : "لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة" .

ثم خالفوا صريحه، فقالوا: إن أعتقها زوجها، وقد وطئها البارحة، حل للزوج أن يطأها الليلة.

واحتجوا في ثبوت الحضانة للخالة بخبر بنت حمزة، وأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قضى بها لخالتها.

ثم خالفوه، فقالوا: لو تزوجت الخالة بغير محرم للبنت ; كابن عمها، سقطت الحضانة.

واحتجوا على المنع من التفريق بين الأخوين بحديث علي - رضي الله عنه -، في نهيه عن التفريق بينهما، ثم خالفوه، فقالوا: لا يرد المبيع إذا وقع كذلك، وفي الحديث الأمر برده .

[ ص: 295 ] واحتجوا على جريان القصاص بين المسلم والذمي، بخبر روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أقاد يهوديا من مسلم لطمه .

ثم خالفوه فقالوا: لا قود في اللطمة والضربة، لا بين المسلمين، ولا بين مسلم وكافر.

واحتجوا على أنه لا قصاص بين العبد وسيده بقوله صلى الله عليه وسلم-: "من لطم عبده، فهو حر" .

ثم خالفوه فقالوا: لا يعتق بذلك.

واحتجوا أيضا بالحديث الذي فيه: "من مثل بعبده، عتق عليه" ، فقالوا: لم يوجب عليه القود، ثم قالوا: لا يعتق عليه.

واحتجوا بحديث عمرو بن شعيب: "في العين نصف الدية" ، ثم خالفوه في عدة مواضع منه :

منها: وفي العين العائمة السادة لموضعها ثلث الدية.

ومنها: قوله: "في السن السوداء ثلث الدية" .

واحتجوا على جواز تفضيل بعض الأولاد على بعض، بحديث النعمان بن بشير، وفيه: "أشهد على هذا غيري" ، ثم خالفوه صريحا، فإن في الحديث نفسه: "إن هذا لا يصلح" ; وفي لفظ: "إني لا أشهد على جور" ، فقالوا: بل هذا يصلح، وليس بجور، ولكل أحد أن يشهد عليه.

واحتجوا على أن النجاسة تزول بغير الماء من المائعات بحديث: "إذا وطئ أحدكم الأذى بنعليه، فإن التراب لهما طهور" .

ثم خالفوه فقالوا: لو وطئ العذرة بخفيه، لم يطهرهما التراب.

واحتجوا على جواز المسح على الجبيرة بحديث صاحب الشجة .

ثم خالفوه صريحا، فقالوا: لا يجمع بين الماء والتراب، بل إما أن يقتصر على غسل الصحيح إن كان أكثر، ولا يتيمم، وإما أن يقتصر على التيمم إن كان الجريح أكثر، ولا يغسل الصحيح.

[ ص: 296 ] واحتجوا على جواز تولية أمراء، أو حكام، أو متولين مرتين، واحدا بعد واحد، بقول النبي صلى الله عليه وسلم-: "أميركم زيد، فإن قتل، فعبد الله بن رواحة، فإن قتل، فجعفر" .

ثم خالفوا الحديث نفسه، فقالوا: لا يصح تعليق الولاية بالشرط.

ونحن نشهد بالله: أن هذه الولاية من أصح ولاية على وجه الأرض، وأنها أصح من كل ولاياتهم، من أولها إلى آخرها.

واحتجوا على تضمين المتلف ما أتلفه، ويملك هو ما أتلفه بحديث القصعة التي كسرتها إحدى أمهات المؤمنين، فرد النبي صلى الله عليه وسلم- على صاحبة القصعة نظيرها .

ثم خالفوه جهارا، فقالوا: إنما يضمن بالدراهم والدنانير، ولا يضمن بالمثل.

واحتجوا على ذلك أيضا بخبر الشاة التي ذبحت بغير إذن صاحبها، وأن النبي صلى الله عليه وسلم- لم يردها على صاحبها.

ثم خالفوه صريحا; فإن النبي صلى الله عليه وسلم- لم يملكها الذابح، بل أمر بإطعامها الأسارى .

واحتجوا في سقوط القطع بسرقة الفواكه وما يسرع إليه الفساد، بخبر: "لا قطع في ثمر ولا كثر" .

ثم خالفوا الحديث نفسه في عدة مواضع:

أحدها: أن فيه: "فإذا آواه إلى الجرين، ففيه القطع" ، وعندهم: لا قطع فيما آواه إلى الجرين، أو لم يؤوه.

الثاني: أنه قال: "إذا بلغ ثمن المجن" ، وفي "الصحيح" أن ثمن "المجن" كان ثلاثة دراهم، وعندهم لا يقطع في هذا القدر .

الثالث: أنهم قالوا: ليس الجرين حرزا، فلو سرق منه ثمرا يابسا، ولم يكن هناك حافظ، لم يقطع.

[ ص: 297 ] واحتجوا في مسألة الآبق يأتي به الرجل: أن له أربعين درهما بخبر فيه: " من جاء بآبق من خارج الحرم، فله عشرة دراهم، أو دينار" .

وخالفوه جهرة، فأوجبوا أربعين.

واحتجوا على خيار الشفعة على الفور بحديث ابن البيلماني: "الشفعة كحل العقال، ولا شفعة لصغير، ولا لغائب، ومن مثل به، فهو حر" .

فخالفوا جميع ذلك إلا قوله: الشفعة كحل العقال.

واحتجوا على امتناع القود بين الأب والابن، والسيد والعبد، بحديث: "لا يقاد والد بولده، ولا سيد بعبده" .

وخالفوا الحديث نفسه، فإن تمامه "من مثل بعبده، فهو حر" .

واحتجوا على أن الولد يلحق بصاحب الفراش دون الزاني، بحديث ابن وليدة زمعة، وفيه: "الولد للفراش" .

ثم خالفوا الحديث نفسه صريحا، فقالوا: الأمة لا تكون فراشا، وإنما كان هذا القضاء في أمة.

ومن العجب أنهم قالوا: إذا عقد على أمه وابنته وأخته، ووطئها، لم يحد; للشبهة، وصارت فراشا بهذا العقد الباطل المحرم، وأم ولده وسريته التي يطؤها ليلا ونهارا، ليست فراشا له.

ومن العجائب أنهم احتجوا على جواز صوم رمضان بنية ينشئها من النهار قبل الزوال، بحديث عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم- كان يدخل عليها، فيقول: "هل من غذاء؟" فتقول: لا، فيقول: "فإني صائم" .

ثم قالوا: لو فعل ذلك في صوم التطوع، لم يصح صومه. والحديث إنما هو في التطوع نفسه .

واحتجوا على المنع من بيع المدبر ; بأنه قد انعقد فيه سبب الحرية، وفي بيعه إبطال لذلك .

[ ص: 298 ] وأجابوا عن بيع النبي -صلى الله عليه وسلم- المدبر ; بأنه باع خدمته.

ثم قالوا: لا يجوز بيع خدمة المدبر أيضا.

واحتجوا على إيجاب الشفعة في الأراضي والأشجار التابعة لها; بقوله : قضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالشفعة في كل شرك، في ربعة أو حائط .

ثم خالفوا نص الحديث نفسه، فإن فيه: ولا يحل له أن يبيع قبل إذنه، ويحل له أن يتحيل لإسقاط الشفعة، وإن باع بعد إذن شريكه، فهو أحق أيضا بالشفعة، ولا أثر للاستئذان ولا لعدمه.

واحتجوا على المنع من بيع الزيت بالزيتون إلا بعد العلم بأن ما في الزيتون من الزيت أقل من الزيت المفرد، بالحديث الذي فيه النهي عن بيع اللحم بالحيوان.

ثم خالفوه نفسه، فقالوا: يجوز بيع اللحم بالحيوان من نوعه وغير نوعه .

واحتجوا على أن عطية المريض المنجزة كالوصية، لا تنفذ إلا في الثلث، بحديث ابن عمران بن حصين: أن رجلا أعتق ستة مملوكين عند موته، لا مال له سواهم، فجزأهم النبي صلى الله عليه وسلم- ثلاثة أجزاء، وأقرع بينهم، فأعتق اثنين، وأرق أربعة.

ثم خالفوه في موضعين، فقالوا: لا يقرع بينهم البتة، ويعتق من كل واحد سدسه، وهذا كثير جدا .

والمقصود أن التقليد حكم عليكم بذلك، وقادكم إليه قهرا.

ولو حكمتم الدليل على التقليد، لم تقعوا في مثل هذا. فإن هذه الأحاديث، إن كانت حقا، وجب الانقياد لها والأخذ بما فيها .

وإن لم تكن صحيحة، لم يؤخذ شيء مما فيها، فإما أن تصح ويؤخذ بها فيما وافق قول المتبوع، وتضعف، أو ترد إذا خالفت قوله، أو تؤول. فهذا من أعظم الخطأ والتناقض.

[ ص: 299 ] فإن قلتم: عارض ما خالفناه منها، ما هو أقوى منه، ولم يعارض ما وافقناه منها ما يوجب العدول عنه واطراحه.

قيل: لا تخلو هذه الأحاديث وأمثالها أن تكون منسوخة، أو محكمة.

فإن كانت منسوخة، لم يحتج بمنسوخ البتة، وإن كانت محكمة، لم يجز مخالفة شيء منها البتة.

فإن قيل: هي منسوخة فيما خالفناها فيه، ومحكمة فيما وافقناها فيه.

قيل: هذا - مع أنه ظاهر البطلان - يتضمن لما لا علم لمدعيه به، قائل ما لا دليل عليه .

فأقل ما فيه أن معارضا لو قلب عليه هذه الدعوى بمثلها سواء، لكانت دعواه من جنس دعواه، ولم يكن بينهما فرق، ولا فرق وكلاهما مع ما لا يمكنه إثباته.

فالواجب اتباع سنن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، وتحكيمها، والتحاكم إليها، حتى يقوم الدليل القاطع على نسخ المنسوخ منها، أو تجمع الأمة على العمل بخلاف شيء منها، وهذا الثاني محال قطعا.

فإن الأمة - ولله الحمد - لم تجمع على ترك العمل بسنة واحدة إلا سنة ظاهرة النسخ، معلوم للأمة ناسخها، وحينئذ يتعين العمل بالناسخ دون المنسوخ .

وإما أن يترك السنن لقول أحد من الناس، فلا، كائنا من كان، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية