الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والمقلد لجهله أخذ نوعا صحيحا من أنواع التقليد، واستدل به على النوع الباطل منه، لوجود القدر المشترك، وغفل عن القدر الفارق.

وهذا هو القياس الباطل، المتفق على ذمه، وهو أخو هذا التقليد الباطل، كلاهما في البطلان سواء.

وإذا جعل الله سبحانه خبر الصادق حجة، وشهادة العدل حجة، لم يكن متبع الحجة مقلدا، وإذا قيل: إنه مقلد للحجة، فحيهلا بهذا التقليد وأهله، وهل ندندن إلا حوله؟! والله المستعان.

الوجه السابع والسبعون: قولكم: منعتم من التقليد خشية وقوع المقلد في الخطأ، بأن يكون من يقلده مخطئا في فتواه، ثم أوجبتم عليه النظر والاستدلال في طلب الحق.

ولا ريب أن صوابه في تقليده لمن هو أعلم منه أقرب من اجتهاده هو لنفسه .

كمن أراد شراء سلعة لا خبرة له بها، فإنه إذا قلد عالما بتلك السلعة، خبيرا بها، أمينا، ناصحا، كان صوابه وحصول غرضه أقرب من اجتهاده لنفسه .

جوابه :- من وجوه :

أحدها: أنا منعنا التقليد طاعة لله ورسوله، والله منع منه، وذم أهله في كتابه، وأمر بتحكيمه وتحكيم رسوله، ورد ما تنازعت فيه الأمة إليه وإلى رسوله، وأخبر أن الحكم له وحده، ونهى أن يتخذ من دونه أو دون رسوله وليجة.

وأمر أن يعتصم بكتابه، ونهى أن يتخذ من دونه أولياء وأربابا يحل من اتخذهم ما أحلوه، ويحرم ما حرموه، وجعل من لا علم له بما أنزله على رسوله [ ص: 352 ] بمنزلة الأنعام، وأمر بطاعة أولي الأمر إذا كانت طاعتهم طاعة لرسوله، بأن يكونوا متبعين لأمره، مخبرين به، وأقسم بنفسه سبحانه أنا لا نؤمن حتى نحكم الرسول خاصة فيما شجر بيننا، لا نحكم غيره، ثم لا نجد في أنفسنا حرجا مما حكم به كما يجده المقلدون إذا جاء حكمه خلاف قول من قلدوه، وأن نسلم لحكمه تسليما كما يسلم المقلدون لأقوال من قلدوه، بل تسليما أعظم من تسليمهم وأكمل. والله المستعان، وذم من حاكم إلى غير الرسول.

وهذا كما أنه ثابت في حياته، فهو ثابت بعد مماته. فلو كان حيا بين أظهرنا، وتحاكمنا إلى غيره، لكنا من أهل الذم والوعيد.

فسنته، وما جاء به من الهدى ودين الحق، لم يمت، وإن فقد بين الأمة شخصه الكريم، فلم يفقد من بيننا سنته ودعوته وهديه .

والعلم والإيمان بحمد الله مكانهما، من ابتغاهما، وجدهما.

وقد ضمن الله سبحانه حفظ الذكر الذي أنزله على رسوله، فلا يزال محفوظا بحفظ الله، محميا بحمايته، يقوم حجة الله على العباد قرنا بعد قرن، إذ كان نبيهم آخر الأنبياء ولا نبي بعده.

فكان حفظه لدينه وما أنزله على رسوله مغنيا عن رسول آخر بعد خاتم الرسل.

والذي أوجبه الله سبحانه، وفرضه على الصحابة، من تلقي العلم والهدى من القرآن والسنة دون غيرهما، هو بعينه واجب على من بعدهم، وهو محكم لم ينسخ، ولا يتطرق إليه النسخ حتى ينسخ الله العالم ويطوي الدنيا .

وقد ذم الله تعالى من إذا دعي إلى ما أنزل الله وإلى رسوله، صد وأعرض، وحذره أن تصيبه مصيبة بإعراضه عن ذلك في قلبه ودينه ودنياه، وحذر من خالف عن أمره واتبع غيره، أن تصيبه فتنة، أو يصيبه عذاب أليم.

فالفتنة في قلبه، والعذاب الأليم في بدنه وروحه، وهما متلازمان .

[ ص: 353 ] فمن فتن في قلبه بإعراضه عما جاء به، ومخالفته له إلى غيره، أصيب بالعذاب الأليم ولا بد.

وأخبر سبحانه أنه إذا قضى أمرا على لسان رسوله، لم يكن لأحد من المؤمنين أن يختار من أمره غير ما قضاه، فلا خيرة بعد قضائه لمؤمن البتة.

ونحن نسأل المقلدين: هل يمكن أن يخفى عليه ذلك أنزلوه فوق منزلة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والصحابة كلهم، فليس أحد منهم إلا وقد خفي عليه بعض ما قضى الله ورسوله به .

فهذا الصديق أعلم الأمة به، خفي عليه ميراث الجدة، حتى أعلمه به محمد بن مسلمة، والمغيرة بن شعبة.

وخفي عليه أن الشهيد لا دية له حتى أعلمه به عمر، فرجع إلى قوله.

وخفي على عمر تيمم الجنب، فقال: لو بقي شهرا، لم يصل حتى يغتسل .

وخفي عليه دية الأصابع، فقضى في الإبهام والتي تليها بخمس وعشرين، حتى أخبر أن في كتابه إلى عمرو بن حزم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قضى فيها بعشر عشر، فترك قوله ورجع إليه.

وخفي عليه شأن الاستئذان حتى أخبره به أبو موسى وأبو سعيد الخدري، وخفي عليه توريث المرأة من دية زوجها، حتى كتب إليه الضحاك بن سفيان الكلابي وهو أعرابي من أهل البادية: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمره أن يورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها.

وخفي عليه حكم إملاص المرأة حتى سأل عنه فوجده عند المغيرة بن شعبة .

وخفي عليه أمر المجوس في الجزية حتى أخبره عبد الرحمن بن عوف: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، أخذها من مجوس هجر .

وخفي عليه سقوط طواف الوداع عن الحائض، فكان يردهن حتى يطهرن ثم [ ص: 354 ] يطفن، حتى بلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم- خلاف ذلك، فرجع عن قوله .

وخفي عليه التسوية بين دية الأصابع، وكان يفاضل بينها حتى بلغه السنة في السنة كذا، فرجع إليها .

وخفي عليه شأن متعة الحج، وكان ينهى عنها حتى وقف على أن النبي صلى الله عليه وسلم- أمر بها، فترك قوله وأمر بها.

وخفي عليه جواز التسمي بأسماء الأنبياء، فنهى عنه، حتى أخبره به طلحة : أن النبي صلى الله عليه وسلم- كناه: أبا محمد، فأمسك، ولم يتماد على النهي. هذا وأبو موسى ومحمد بن مسلمة وأبو أيوب من أشهر الصحابة، ولم يمر بباله - رضي الله عنه - أمر هو بين يديه حتى نهى عنه .

وكما خفي عليه قوله تعالى: إنك ميت وإنهم ميتون [الزمر: 30]، وقوله: وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم [آل عمران: 144]، حتى قال: والله! كأني ما سمعتها قط قبل وقتي هذا.

وكما خفي عليه حكم الزيادة في المهر على أمهر زوجات النبي صلى الله عليه وسلم- وبناته حتى ذكرته تلك المرأة بقوله تعالى: وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا [النساء: 20] فقال: كل أحد أفقه من عمر حتى النساء.

وكما خفي عليه أمر الجد والكلالة، وبعض أبواب الربا، فتمنى أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان عهد إليهم فيها عهدا.

وكما خفي عليه يوم الحديبية: أن وعد الله لنبيه وأصحابه بدخول مكة، مطلق لا يتعين لذاك العام، حتى بينه له النبي- صلى الله عليه وسلم-.

وكما خفي عليه جواز استدامة الطيب للمحرم، وتطيبه بعد النحر وقبل طواف الإفاضة، وقد صحت السنة بذلك.

وكما خفي عليه أمر القدوم على محل الطاعون أو الفرار منه، حتى أخبر بأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا سمعتم به بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع وأنتم بأرض فلا تخرجوا منها فرارا منه" .

[ ص: 355 ] هذا، وهو أعلم الأمة بعد الصديق على الإطلاق، وهو كما قال ابن مسعود: لو وضع علم عمر في كفة ميزان، وجعل أعلم أهل الأرض في كفة، لرجح علم عمر.

قال الأعمش: فذكرت ذلك لإبراهيم النخعي، فقال: والله! إني لأحسب عمر ذهب بتسعة أعشار العلم.

وخفي على عثمان بن عفان أقل مدة الحمل، حتى ذكره ابن عباس بقوله تعالى: وحمله وفصاله ثلاثون شهرا [الأحقاف: 15]، مع قوله: والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين [البقرة: 233] فرجع إلى ذلك.

وخفي على أبي موسى الأشعري، ميراث بنت الابن مع البنت السدس، حتى ذكر له أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورثها ذلك.

وخفي على ابن مسعود حكم المفوضة، وترددوا إليه فيها شهرا، فأفتاهم برأيه، ثم بلغه النص بمثل ما أفتى به.

وهذا باب لو تتبعناه، لجاء سفر كبير.

فنسأل حينئذ فرقة التقليد: هل يجوز أن يخفى على من قلدتموه بعض شأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما خفي ذلك على سادات الأمة أو لا؟

فإن قالوا: لا يخفى عليه، وقد خفي على الصحابة، مع قرب عهدهم، بلغوا في الغلو مبلغ مدعي العصمة في الأئمة .

وإن قالوا: بل يجوز أن يخفى عليهم، وهو الواقع، وهم مراتب في الخفاء في القلة والكثرة.

قلنا: فنحن نناشدكم الله الذي هو عند لسان كل قائل وقلبه، إذا قضى الله ورسوله أمرا خفي على من قلدتموه، هل يبقى لكم الخيرة بين قبول قوله ورده، أم تنقطع خيرتكم، وتوجبون العلم بما قضاه الله ورسوله، لا يجوز سواه؟

فأعدوا لهذا السؤال جوابا، وللجواب صوابا، فإن السؤال واقع، والجواب لازم.

[ ص: 356 ] والمقصود: أن هذا هو الذي منعنا من التقليد، فأين معكم حجة واحدة تقطع العذر، وتسوغ لكم ما ارتضيتموه لأنفسكم من التقليد؟

الوجه الثاني: أن قولكم: صواب المقلد في تقليده لمن هو أعلم منه أقرب من صوابه في اجتهاده، دعوى باطلة، فإنه إذا قلد من قد خالفه غيره ممن هو نظيره، أو أعلم منه، لم يدر على صواب هو من تقليده أو على خطأ، بل هو كما قال الشافعي: حاطب ليل.

إما أن يقع بيده عود أو أفعى تلدغه، وأما إذا بذل اجتهاده في معرفة الحق، فإنه بين أمرين:

إما أن يظفر فله أجران، وإما أن يخطئه فله أجر، فهو مصيب للأجر ولا بد.

بخلاف المقلد المتعصب ; فإنه إن أصاب، لم يؤجر، وإن أخطأ، لم يسلم من الإثم، فأين صواب الأعمى، من صواب البصير الباذل جهده؟!.

الوجه الثالث: أنه إنما يكون أقرب إلى الصواب إذا عرف أن الصواب مع من قلده دون غيره، وحينئذ فلا يكون مقلدا له، متبعا للحجة.

وأما إذا لم يعرف ذلك البتة، فمن أين لكم أنه أقرب إلى الصواب من باذل جهده ومستفرغ وسعه في طلب الحق؟!.

الوجه الرابع: أن الأقرب إلى الصواب عند تنازع العلماء، من امتثل أمر الله، فرد ما تنازعوا فيه إلى القرآن والسنة.

وأما من رد ما تنازعوا فيه إلى قول متبوعه دون غيره، فكيف يكون أقرب إلى الصواب؟!.

الوجه الخامس: أن المثال الذي مثلتم به، من أكبر الحجج عليكم.

فإن من أراد شراء سلعة، أو سلوك طريقة حين اختلف عليه اثنان أو أكثر، وكل منهم يأمره بخلاف ما يأمر به الآخر، فإنه لا يقدم على تقليد واحد منهم، بل يبقى مترددا، طالبا للصواب من أقوالهم.

فلو أقدم على قبول قول أحدهم مع مساواة الآخر له في المعرفة والنصيحة [ ص: 357 ] والديانة، أو كونه فوقه في ذلك، عد مخاطرا مذموما، ولم يمدح إن أصاب.

وقد جعل الله في فطر العقلاء في مثل هذا، أن يتوقف أحدهم، ويطلب ترجيح قول المختلفين عليه من خارج، حتى يستبين له الصواب، ولم يجعل في فطرهم الهجم على قبول قول واحد واطراح قول من عداه .

الوجه السابع والسبعون: أن نقول لطائفة المقلدين: هل تسوغون تقليد كل عالم من السلف والخلف، أم تقليد بعضهم دون بعض؟

فإن سوغتم تقليد الجميع، كان تسويغكم لتقليد من انتميتم إلى مذهبه، كتسويغكم لتقليد غيره سواء.

فكيف صارت أقوال هذا العالم مذهبا لكم تفتون وتقضون بها، وقد سوغتم من تقليد هذا ما سوغتم من تقليد الآخر؟

فكيف صار هذا صاحب مذهبكم دون هذا، وكيف استجزتم أن تردوا أقوال هذا، وتقلدوا أقوال هذا، وكلاهما عالم يسوغ اتباعه؟

فإن كانت أقواله من الدين، فكيف ساغ لكم دفع الدين؟ وإن لم تكن أقواله من الدين فكيف سوغتم تقليده؟ وهذا لا جواب لكم عنه، يوضحه.

الوجه الثامن والسبعون: أن من قلدتموه إذا روي عنه قولان وروايتان، سوغتم العمل بهما، وقلدتم مجتهدا له قولان، فيسوغ لنا الأخذ بهذا وهذا، وكان القولان جميعا مذهبا لكم، فهلا جعلتم قول نظيره من المجتهدين بمنزلة قوله الآخر، وجعلتم القولين جميعا مذهبا لكم، وربما كان قول نظيره، ومن هو أعلم منه، أرجح من قوله الآخر، وأقرب إلى الكتاب والسنة، يوضحه .

الوجه التاسع والسبعون: أنكم - معاشر المقلدين - إذا قال بعض أصحابكم ممن قلدتموه قولا خلاف قول المتبوع، أو خرجه على قول، جعلتموه وجها، وقضيتم، وأفتيتم به، وألزمتم بمقتضاه، فإذا قال الإمام الذي هو نظير متبوعكم، أو فوقه، قولا يخالفه، لم تلتفتوا إليه، ولم تعدوه شيئا.

[ ص: 358 ] ومعلوم أن واحدا من الأئمة، الذين هم نظير متبوعكم أجل من جميع أصحابه، من أولهم إلى آخرهم، فقدروا أسوأ التقادير أن يكون قوله بمنزلة وجه في مذهبكم.

فيا لله العجب! صار من أفتى أو حكم بقول واحد من مشايخ المذهب، أحق بالقبول ممن أفتى بقول الخلفاء الراشدين، وابن مسعود، وابن عباس، وأبي بن كعب، وأبي الدرداء، ومعاذ بن جبل؟!

وهذا من بركة التقليد عليكم، وتمام ذلك بـ

الوجه الثمانين: أنكم إن رمتم التخلص من هذه الخلطة، وقلتم: بل يسوغ تقليد بعضهم دون بعض، وقالت كل فرقة منكم: يسوغ ويجب تقليد من قلدناه دون غيره من الأئمة الذين هم مثله أو أعلم منه، كان أقل ما في ذلك معارضة قولكم بقول الفرقة الأخرى في ضرب هذه الأقوال بعضها ببعض.

ثم يقال: ما الذي جعل متبوعكم أولى بالتقليد من متبوع الفرقة الأخرى . وبأي كتاب، أو بأية سنة؟

وهل تقطعت الأمة أمرها بينها زبرا، وصار كل حزب بما لديهم فرحون إلا بهذا السبب؟!

فكل طائفة تدعو إلى متبوعها، وتنأى عن غيره، وتنهى عنه، وذلك مفض إلى التفريق بين الأمة، وجعل دين الله تابعا للتشهي والأغراض، وعرضة للاضطراب والاختلاف.

وهذا كله يدل على أن التقليد ليس من عند الله ; للاختلاف الكثير الذي فيه .

ويكفي في فساد هذا المذهب تناقض أصحابه، ومعارضة أقوالهم بعضها ببعض.

ولو لم يكن فيه من الشناعة إلا إيجابهم تقليد صاحبهم، وتحريمهم تقليد [ ص: 359 ] الواحد من أكابر الصحابة كما صرحوا به في كتبهم.

الوجه الحادي والثمانون: أن المقلدين حكموا على الله، قدرا وشرعا، بالحكم الباطل جهارا، المخالف لما أخبر به رسوله، فأخلوا الأرض من القائمين لله بحججه، وقالوا: لم يبق في الأرض عالم منذ الأعصار المتقدمة.

فقالت طائفة: ليس لأحد أن يختار بعد أبي حنيفة وأبي يوسف، وزفر، [و]ابن الهذيل، ومحمد بن الحسن، والحسن بن زياد اللؤلؤي، وهذا قول كثير من الحنفية.

وقال بكر بن العلاء القشيري المالكي: ليس لأحد أن يختار بعد المائتين من الهجرة.

وقال آخرون: ليس لأحد أن يختار بعد الأوزاعي، وسفيان الثوري، ووكيع بن الجراح، وعبد الله بن المبارك.

وقالت طائفة: ليس لأحد أن يختار بعد الشافعي .

واختلف المقلدون من أتباعه فيمن يؤخذ بقوله من المنتسبين إليه، ويكون له وجه يفتى ويحكم به، ومن ليس كذلك، وجعلوهم ثلاث مراتب:

1 - طائفة أصحاب الوجوه; كابن شريح، والقفال، وأبي حامد.

2 - وطائفة أصحاب احتمالات لأصحاب وجوه; كأبي المعالي.

3 - وطائفة ليسوا أصحاب وجوه ولا احتمالات; كأبي حامد وغيره .

واختلفوا، متى انسد باب الاجتهاد؟ على أقوال كثيرة، ما أنزل الله بها من سلطان، وعند هؤلاء أن الأرض قد خلت من قائم لله بحججه، ولم يبق فيها من يتكلم بالعلم، ولم يحل لأحد بعد أن ينظر في كتاب الله ولا سنة رسوله لأخذ الأحكام منها، ولا يقضي ويفتي بما فيها، حتى يعرضه على قول مقلده ومتبوعه، فإن وافقه، حكم به وأفتى به، وإلا رده ولم يقبله.

[ ص: 360 ] وهذه أقوال كما ترى قد بلغت من الفساد والبطلان والتناقض والقول على الله بلا علم، وإبطال حججه، والزهد في كتابه وسنة رسوله وتلقي الأحكام منهما مبلغها. ويأبى الله إلا أن يتم نوره، ويصدق قول رسوله: إنه لا تخلو الأرض من قائم لله بحجته، ولن تزال طائفة من أمته على محض الحق الذي بعثه به، وأنه لا يزال أن يبعث على رأس كل مائة سنة لهذه الأمة من يجدد لها دينها، ويكفي في فساد هذه الأقوال لأربابها. فإذا لم يكن لأحد أن يختار بعد من ذكرتم، فمن أين وقع لكم اختيار تقليدهم دون غيرهم؟

وكيف حرمتم تقليد من سواه، ورجحتموه على تقليد من سواه؟

فما الذي سوغ لكم هذا الاختيار الذي لا دليل عليه من كتاب، ولا سنة، ولا إجماع، ولا قياس، ولا قول صاحب، وحرمتم اختيار ما عليه الدليل من الكتاب والسنة، وأقوال الصحابة؟

ويقال لكم: فإذا كان لا يجوز الاختيار بعد المائتين عندك ولا عند غيرك، فمن أين يسوغ لك وأنت لم تولد إلا بعد المائتين بنحو ستين سنة أن تختار قول مالك، دون من هو أفضل منه من الصحابة والتابعين، أو من هو مثله من فقهاء الأمصار، أو ممن جاء بعده؟

وموجب هذا القول: أن أشهب، وابن الماجشون، ومطرف بن عبد الله، وأصبغ بن الفرج، وسحنون بن سعيد، وأحمد بن المعدل، ومن في طبقتهم من الفقهاء، كان لهم أن يختاروا إلى انسلاخ ذي الحجة من سنة مائتين.

فلما استهل هلال المحرم من سنة إحدى ومائتين، وغابت الشمس من تلك الليلة، حرم عليهم في الوقت بلا مهلة، ما كان مطلقا لهم من الاختيار .

ويقال للآخرين: أليس من المصائب، وعجائب الدنيا تجويزكم الاختيار والاجتهاد، والقول في دين الله بالرأي والقياس، لمن ذكرتم من أئمتكم، ثم لا تجيزون الاختيار والاجتهاد لحفاظ الإسلام، وأعلم الأمة بكتاب الله وسنة [ ص: 361 ] رسوله وأقوال الصحابة وفتاواهم; كأحمد بن حنبل، والشافعي، وإسحاق بن راهويه، ومحمد بن إسماعيل البخاري، وداود بن علي، ونظرائهم، على سعة علمهم بالسنن، ووقوفهم على الصحيح منها والسقيم، وتحريهم في معرفة أقوال الصحابة والتابعين، ودقة نظرهم، ولطف استخراجهم للدلائل؟!

ومن قال منهم بالقياس، فقياسه من أقرب القياس إلى الصواب، وأبعده عن الفساد، وأقربه إلى النصوص، مع شدة ورعهم، وما منحهم الله من محبة المؤمنين لهم، وتعظيم المسلمين علماءهم وعامتهم لهم.

فإن احتج كل فريق منهم بترجيح متبوعه بوجه من وجوه الترجيح، في تقدم زمان أو زهد أو ورع، أو لقاء شيوخ وأئمة، لم يلقهم من بعده أو فوقه، وأمكن غير هؤلاء كلهم أن يقولوا لهم جميعا قولكم هذا، إن لم تأنفوا من التناقض، يوجب عليكم أن تتركوا قول متبوعكم لقول من هو أقدم منه من الصحابة والتابعين، وأعلم وأورع، وأزهد، وأكثر اتباعا وأجل.

فأين أتباع ابن عباس، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، ومعاذ بن جبل، بل أتباع عمر، وعلي، من أتباع الأئمة المتأخرين في الكثرة والجلالة؟!!

وهذا أبو هريرة، قال البخاري: حمل العلم عنه ثمانمائة رجل، ما بين صاحب وتابع. وهذا زيد بن ثابت من جملة أصحاب عبد الله بن عباس .

وأين في أتباع الأئمة مثل عطاء، وطاوس، ومجاهد، وعكرمة، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وجابر بن زيد؟!

وأين في أتباعهم مثل السعيدين، والشعبي، ومسروق، وعلقمة، والأسود، وشريح؟!

وأين في أتباعهم مثل نافع، وسالم، والقاسم، وعروة، وخارجة بن زيد، وسليمان بن يسار، وأبي بكر بن عبد الرحمن؟!

فما الذي جعل الأئمة بأتباعهم أسعد من هؤلاء بأتباعهم؟

ولكن أولئك وأتباعهم على قدر عصرهم، فعظمتهم، وجلالتهم، وكبرتهم [ ص: 362 ] منع المتأخرين من الاقتداء بهم، وقالوا بلسان قالهم وحالهم: هؤلاء كبار علينا، لسنا من رسومهم، كما صرحوا وشهدوا على أنفسهم، فإن أقدارهم تتقاصر عن تلقي العلم من القرآن والسنة.

وقالوا: لسنا أهلا لذلك، لا لقصور الكتاب والسنة، ولكن لعجزنا نحن وقصورنا، فاكتفينا بمن هو أعلم بهما منا.

فيقال لهم: فلم تنكرون على من اقتدى بهما وحكمهما وتحاكم إليهما، وعرض أقوال العلماء عليهما، فما وافقهما قبله، وما خالفهما رده؟

فهب أنكم لم تصلوا إلى هذا العنقود، فلم تنكرون على من وصل إليه وذاق حلاوته؟

وكيف تحجرتم الواسع من فضل الله، الذي ليس على عقول العالمين ولا اقتراحاتهم؟!

وهم وإن كانوا في عصركم ونشأوا معكم، وبينكم وبينهم نسب قريب، فالله يمن على من يشاء من عباده .

وقد أنكر الله سبحانه على من رد النبوة بأن الله صرفها عن عظماء القرى، ومن رؤسائها، وأعطاها لمن ليس كذلك بقوله: أهم يقسمون رحمت ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمت ربك خير مما يجمعون [الزخرف: 32].

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم-: "مثل أمتي كالمطر، لا يدرى أوله خير أم آخره" .

وقد أخبر الله سبحانه عن السابقين بأنهم ثلة من الأولين وقليل من الآخرين .

وأخبر سبحانه أنه بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ، ثم قال: وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم ، ثم أخبر أن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم .

[ ص: 363 ] وقد أطلنا الكلام في القياس والتقليد، وذكرنا من مأخذهما وحجج أصحابهما، وما لهم وما عليهم من المنقول والمعقول، ما لا يجده الناظر في كتاب من كتب القوم، من أولها إلى آخرها، ولا يظفر به في غير هذا الكتاب أبدا، وذلك بحول الله وقوته، ومعونته وفتحه، فله الحمد والمنة.

وما كان فيه من صواب، فمن الله، هو المان به، وما كان فيه من خطأ، فمني ومن الشيطان، وليس الله ورسوله ودينه في شيء منه، وبالله التوفيق.

التالي السابق


الخدمات العلمية