الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        [ ص: 159 ] الفصل الثامن جهاد الكفار القتال الفاصل

        العقوبات التي جاءت بها الشريعة لمن عصى الله ورسوله نوعان : أحدهما : عقوبة المقدر عليه ، من الواحد والعدد كما تقدم .

        والثاني : عقاب الطائفة الممتنعة ، كالتي لا يقدر عليها إلا بقتال فاصل ، هذا هو جهاد الكفار أعداء الله ورسوله ، فكل من بلغه دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دين الله الذي بعثه به فلم يستجب له ، فإنه يجب قتاله { حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله } .

        وكان الله - لما بعث نبيه ، وأمره بدعوة الخلف إلى دينه لم يأذن في قتل أحد على ذلك ولا قتاله ، حتى هاجر إلى المدينة ، فأذن له وللمسلمين بقوله تعالى : { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من [ ص: 160 ] ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور } .

        ثم إنه بعد ذلك أوجب عليهم القتال بقوله : { كتب عليكم القتال وهو كره لكم ، وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ، وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون } وأكد الإيجاب ، وعظم أمر الجهاد ، في عامة السور المدنية ، وذم التاركين له ، ووصفهم بالنفاق ومرض القلوب ، فقال تعالى : { قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين } وقال تعالى : { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون } قال تعالى : { فإذا أنزلت سورة محكمة ، وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم طاعة وقول معروف فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم } .

        وهذا كثير في القرآن ، وكذلك تعظيمه وتعظيم [ ص: 161 ] أهله ، في سورة الصف التي يقول فيها : { يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين } .

        وكقوله تعالى : { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم } .

        وقوله تعالى : { من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم } .

        وقال تعالى : { ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون } [ ص: 162 ]

        فذكر ما يولده عن أعمالهم ، وما يباشرونه من الأعمال ، والأمر بالجهاد ، وذكر فضائله في الكتاب والسنة ، أكثر من أن يحصر ، ولهذا كان أفضل ما تطوع به الإنسان ، وكان باتفاق العلماء أفضل من الحج والعمرة ، ومن الصلاة التطوع ، والصوم التطوع ، كما دل عليه الكتاب والسنة ، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم : { رأس الأمر الإسلام ، وعموده الصلاة ، وذروة سنامه الجهاد } .

        وقال { إن في الجنة لمائة درجة ، ما بين الدرجة والدرجة ، كما بين السماء والأرض ، أعدها الله للمجاهدين في سبيله } متفق عليه .

        وقال { : من اغبر قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار } رواه البخاري

        وقال صلى الله عليه وسلم : [ ص: 163 ] { رباط يوم وليلة ، خير من صيام شهر وقيامه . وإن مات أجري عليه عمله الذي كان يعمله ، وأجري عليه رزقه ، وأمن الفتان } رواه مسلم .

        وفي السنن : { رباط يوم في سبيل الله ، خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل } ، وقال صلى الله عليه وسلم { عينان لا تمسهما النار : عين بكت من خشية الله ، وعين باتت تحرس في سبيل الله } قال الترمذي [ ص: 164 ] حديث حسن

        وفي مسند الإمام أحمد { حرس ليلة في سبيل الله ، أفضل من ألف ليلة يقام ليلها ، ويصام نهارها } .

        وفي الصحيحين : { أن رجلا قال : يا رسول الله ، أخبرني بشيء يعدل الجهاد في سبيل الله ، قال : لا تستطيع . قال : أخبرني . قال : هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تصوم ولا تفطر ، وتقوم ولا تفتر ؟ قال : لا . قال : فذلك الذي يعدل الجهاد } .

        وفي السنن أنه صلى الله عليه وسلم قال : { إن لكل أمة سياحة ، وسياحة أمتي الجهاد في سبيل الله } . [ ص: 165 ] وهذا باب واسع ، لم يرد في ثواب الأعمال وفضلها ، مثل ما ورد فيه ، فهو ظاهر عند الاعتبار ، فإن نفع الجهاد عام لفاعله ولغيره في الدين والدنيا ، ومشتمل على جميع أنواع العبادات الباطنة والظاهرة ، فإنه مشتمل من محبة الله - تعالى ، والإخلاص له ، والتوكل عليه ، وتسليم النفس والمال له ، والصبر والزهد ، وذكر الله وسائر أنواع الأعمال ، على ما لا يشتمل عليه عمل آخر .

        والقائم به من الشخص والأمة بين إحدى الحسنيين دائما ، إما النصر والظفر ، وإما الشهادة والجنة ، ثم إن الخلق لا بد لهم من محيا وممات ، ففيه استعمال محياهم ومماتهم في غاية سعادتهم في الدنيا والآخرة ، وفي تركه ذهاب السعادتين أو نقصهما ، فإن من الناس من يرغب في الأعمال الشديدة في الدين أو الدنيا ، مع قلة منفعتها ، فالجهاد أنفع فيهما من كل عمل شديد ، وقد يرغب في ترقية نفسه حتى يصادفه الموت ، فموت الشهيد أيسر من كل ميتة ، وهي أفضل الميتات .

        التالي السابق


        الخدمات العلمية