الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        فصل [في الوضوء]

                                                                                                                                                                                        الوضوء في أعداده على ثلاثة أقسام: فرض، وفضيلة، وممنوع تارة، وتارة مستحب.

                                                                                                                                                                                        فالفرض واحدة، والفضيلة اثنتان، تمام الثلاثة، والممنوع الرابعة إذا أتى بها عقيب الثالثة أو بعد ذلك وقبل الصلاة بذلك الوضوء، فإن كان قد صلى به صلاة كان تجديد الطهارة لكل صلاة يصليها بعد ذلك، وإن لم تنتقض طهارته- فضيلة.

                                                                                                                                                                                        فإن توضأ في الأولى ثلاثا فلما صلى، جدد الطهارة لصلاة أخرى بثلاث ، فصارت بإضافتها إلى الأولى ستا جاز ذلك، فمنع الرابعة; لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " فمن زاد على الثلاث فقد أساء وتعدى وظلم" ، وجاز ذلك لصلاة أخرى; لحديث أنس قال: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم -يتوضأ عند كل صلاة. قيل له: فكيف كنتم تصنعون؟ قال: كان يجزئ أحدنا وضوؤه ما لم يحدث" . أخرجه " البخاري ومسلم . [ ص: 9 ]

                                                                                                                                                                                        وأجاز مالك في المدونة أن يتوضأ مرة إذا أسبغ . وقال أيضا: لا أحب الواحدة إلا من العالم ، وقال في سماع أشهب: الوضوء مرتان مرتان، وثلاث ثلاث، وقيل له: فالواحدة؟ قال: لا . وقال في " مختصر ابن عبد الحكم" : لا أحب أن ينقص من اثنتين إذا عمتا .

                                                                                                                                                                                        وهذا احتياط وحماية; لأن العامي إذا رأى من يقتدى به يتوضأ مرة مرة، فعل مثل ذلك وقد لا يحسن الإسباغ بمرة فيوقعه فيما لا تجزئ الصلاة به، وإن لم يسبغ في الأولى وأسبغ في الثانية، كان بعض الثانية فرضا وهو إسباغ ما عجز عن الأولى وبعضها فضيلة وهو ما تكرر منها على الموضع الذي أسبغ أولا، وله أن يأتي برابعة يخص بها الموضع الذي عجز عنه أول مرة، ولا يعم في الرابعة فيدخل في النهي.

                                                                                                                                                                                        والفرض في الغسل من الجنابة والحيض والنفاس مرة واحدة ، ولا فضيلة في تكراره عقيب الغسل، ولا عند كل صلاة، وهو في ذلك بخلاف الوضوء، إلا ما وردت به السنة في الاغتسال للجمعة والعيدين، وما قيل في [ ص: 10 ] الاغتسال للإحرام ولدخول مكة ولوقوف عرفة .

                                                                                                                                                                                        فالفرض للغسل والوضوء مرة مرة; لقول الله -عز وجل-: يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم [المائدة: 6] ، وقوله: فاطهروا . . . حتى تغتسلوا . . . حتى يطهرن ، فورد الأمر في جميع ذلك على صيغة واحدة، فلم يلزم بمجرد الأمر -لقوله تعالى في الغسل والطهر- إلا مرة واحدة، وكذلك الوضوء.

                                                                                                                                                                                        وقد أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - على السائل عن الحج: هل هو في كل عام ؟ فأخبر أن الفرض مرة ، وأنه كان يكتفى في ذلك بما ورد فيه عن السؤال، والرجوع في ذلك إلى إخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الأمر يقتضي فعل مرة واحدة، أولى من الاحتجاج بقول من أنكر عليه سؤاله، وأخبره أن سؤاله وقع غير موقعه.

                                                                                                                                                                                        وأما ما قيل: إن الفرض في الوضوء كان لكل صلاة ثم نسخ في فتح مكة- فغلط; لحديث أنس قال: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ لكل صلاة" ، وإن أمته كانت على خلاف ذلك تلتزم الواجب فتصلي الصلوات بوضوء واحد، وأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك للفضيلة، وإنما سأله عمر عن مخالفته لعادته ، ولحديث سويد [ ص: 11 ] ابن النعمان " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى وهو بالصهباء العصر والمغرب بوضوء واحد، وذلك في غزوة خيبر" ، وهي سنة ست وقيل: سنة سبع، وفتح مكة كان في سنة ثمان، وهو حديث صحيح، رواه مالك في " الموطأ" وأدخله " البخاري ومسلم في صحيحيهما ، فبان بهذين الحديثين أن الفرض لم يكن قبل الفتح لكل صلاة.

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية