الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        باب في صفة الاستبراء

                                                                                                                                                                                        ومن المدونة قال مالك في المستحاضة: (تستبرأ بثلاثة أشهر)، إلا أن تشك فيرفع بها إلى تسعة أشهر، قال: وكذلك التي رفعت حيضتها بمنزلة واحدة. قال ابن القاسم: لأن استبراءها عنده إنما كانت حيضة، فلما رفعت هذه حيضتها أو استحيضت هذه، كانت بمنزلة واحدة لا حيض لها، إلا أن مالكا قال في المستحاضة تكون في عدة من طلاق أو موت؛ إذا جاءها دم لا تشك فيه أنه دم حيض للونه وتغيره -يعرف النساء رائحته- تكف عن الصلاة، فهذه الأمة المستبرأة المستحاضة كذلك، إن جاءها دم لا تشك فيه أنه دم حيضة، رأيت ذلك استبراء.

                                                                                                                                                                                        قال الشيخ -رحمه الله-: اختلف في الأمة المستحاضة في ثلاثة مواضع:

                                                                                                                                                                                        أحدها: هل تستبرئ بثلاثة أشهر أو تسعة أشهر؟ [ ص: 4491 ] والثاني: إذا كانت ممن ترى الحيض، هل تبرئها حيضة أو ثلاثة أشهر؟

                                                                                                                                                                                        والثالث: إذا كانت غير مستحاضة استبرئت بحيضة ثم تمادت استحاضة، فقال في المدونة: تستبرأ المستحاضة بثلاثة أشهر، وقال في كتاب محمد: تستبرأ بتسعة أشهر. والأول أصوب; لأن الله -عز وجل- جعل الثلاثة الأشهر دليلا على البراءة، والتسعة أمدا للوضع، فإذا تبين عند انقضاء أمد الطهور أنه لا حمل بها، لم يجب أن تنتظر أمد الوضع، فإذا استرابت بحس بطن، لم تبرأ بالثلاثة الأشهر قولا واحدا وانتظرت أمد الوضع، وهي تسعة أشهر إلا أن تذهب الريبة قبل ذلك، أو تتحقق فتنتظر الوضع وإن بعد سنين.

                                                                                                                                                                                        ومن اشترى أمة مستحاضة وهي من العلي، كانت في المواضعة تلك الأشهر الثلاث، وكانت نفقتها هي على بائعها، فإن ظهر حمل رد به; لأن المشتري دخل على عيب الاستحاضة ولم يدخل على عيب الحمل، [ ص: 4492 ] وكذلك إذا استرابت بحس بطن ورفعت إلى تسعة أشهر، فإن له أن يردها ولا يلزمه الصبر إلى أمد الوضع، وهو تسعة أشهر.

                                                                                                                                                                                        واختلف في المستحاضة ترى الحيض، فقال في المدونة: تجزئها الحيضة في الاستبراء، وكذلك المعتدة ترى الحيض تبرأ بثلاث حيض ولا تنتظر السنة. وروى عنه ابن وهب: أن ذلك الدم لا تعتد به من العدة ولا من الاستبراء في أقرائها، إلا أنها لا تصلي.

                                                                                                                                                                                        والأول أحسن; لأن ذلك حيضة حقيقة، فيسقط به الضمان عن البائع وتحل به المعتدة; لأن الاستحاضة لا حكم لها في براءة الرحم، وقد كان استبراؤها إذا لم تر حيضا بثلاثة أشهر على غير حكم المستحاضة إذا عدمت الدم، فإذا رأت الحيض كان دليلا على براءتها من الحمل. وكذلك الحرة تكون في عدة من طلاق وهي مستحاضة فترى الحيض، أنها تبرأ بالثلاث حيض، لقول النبي- صلى الله عليه وسلم- في المستحاضة: "إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة". فسلم أن ذلك حيض وأن [ ص: 4493 ] له أحكام الحيض وللاتفاق من قول مالك وأصحابه أنها تدع الصلاة، ولا يصح معه صوم وتحرم فيه على زوجها، ويجبر على رجعتها إذا طلق فيه.

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا حاضت ثم استحيضت، فقال أشهب: هي من المشتري ولا ترد به، وقال في الواضحة: إن للمشتري أن يرد به، وموضع الخلاف إذا كانت في يد البائع أو في يد غيره وهي محبوسة بالثمن; لأنها تصير بعد بانقضاء الحيضة كالعبد، أو الثوب يحبس بالثمن. فعلى القول أن مصيبته من البائع، تكون مصيبة هذه من بائعها حتى يقبضها المشتري. وعلى القول أن مصيبة العبد أو الثوب من المشتري بالعقد تكون مصيبة هذه إذا خرجت من الحيضة من المشتري، إلا أن تكون استحاضتها في أول ما رأت الدم وقبل أن يمضي لها قدر حيضة، فتكون من البائع، أو تشك في أول ذلك: هل ذلك حيض أو استحاضة؟

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية