الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        فصل [في الخلاف فيمن أفطر جاهلا هل عليه كفارة]

                                                                                                                                                                                        اختلف في الجاهل فجعله ابن حبيب كالعامد، فقال في الذي يتناول فلقة حبة: إن كان ساهيا فلا كفارة عليه، وإن كان جاهلا أو عامدا كان عليه القضاء والكفارة.

                                                                                                                                                                                        والمعروف من المذهب أن الجاهل في حكم المتأول، ولا كفارة عليه; لأنه لم يقصد انتهاك صومه، ولو كان رجلا حديث عهد بالإسلام يظن أن الصيام هو الإمساك عن الأكل والشرب دون الجماع، لم تجب عليه كفارة إن جامع.

                                                                                                                                                                                        وقد قال مالك في من قدم من سفر ليلا فأصبح مفطرا يظن أنه لا يجزئه الصوم إلا أن يقدم نهارا، أو في من خرج يرعى غنما على ثلاثة أميال فأفطر ظنا منه أن ذلك سفر يبيح الفطر، وفي امرأة رأت الطهر ليلا فلم تغتسل حتى أصبحت [ ص: 793 ] فأفطرت؛ ظنا أنه لا يجزئها الصوم إلا أن تغتسل قبل الفجر-: لا كفارة على أحد منهم، وكل هؤلاء أفطروا على الجهل بموجب الحكم.

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا قالت: حيضتي اليوم، فأفطرت قبل أن تحيض، ثم حاضت في ذلك اليوم، فقال في المدونة: عليها الكفارة، ورآه من التأويل البعيد، وقال محمد بن عبد الحكم: لا كفارة عليها، وقال عبد الملك بن حبيب: لا كفارة على من أفطر بتأويل، إلا في التأويل البعيد كالذي يغتاب، أو يحتجم فتأول أنه أفطر، والذي يقول: اليوم تأتي حماي، والتي تقول: اليوم أحيض.

                                                                                                                                                                                        وقال ابن القاسم في الذي احتجم ثم أفطر متأولا: لا كفارة عليه. [ ص: 794 ]

                                                                                                                                                                                        قال الشيخ -رضي الله عنه-: أصل المذهب أن الكفارة إنما تجب على من قصد الفطر جرأة وانتهاكا، وإذا كان ذلك نظر إلى من أفطر بتأويل، فإن جاء مستفتيا، ولم يظهر عليه صدق فيما يدعيه، وأنه لم يفعل ذلك جرأة، فلا كفارة عليه، وإن ظهر عليه نظر فيما يدعيه، فإن كان مما يرى أن مثله يجهله صدق، وإن أتى بما لا يشبه لم يصدق وألزم الكفارة، وهذا فائدة قولهم: إن هذا ينوى، ولا ينوى الآخر، ويجبر على الكفارة، ولو كان إخراج الكفارة إليه إذا ادعى ما لا يشبه لم يكن للتفرقة وجه، وهذا الأصل في الحقوق التي لله سبحانه في الأموال فيمن كان لا يؤدي زكاته، أو وجبت عليه كفارة أو عتق عن ظهار، أو قتل، أو هدي، فامتنع من أداء ذلك أنه يجبر على إنفاذه، وقاله محمد بن المواز فيمن وجبت عليه كفارة فمات قبل إخراج ذلك : إنها تؤخذ من تركته إذا لم يفرط.

                                                                                                                                                                                        فإن قيل: الكفارات مختلف فيها، هل هي على الفور أو على التراخي؟ فكيف يجبر على إخراجها مع القول: إنها على التراخي؟ قيل: إنما يصح أن يؤخرها إذا كان معتقدا أنه يخرجها، فأما من علم منه جحودها، وأنه يقول: لا شيء علي. فلا يؤخر بها، وهذا في الحقوق التي تجب عليه لله سبحانه، ولم يوجبها على نفسه.

                                                                                                                                                                                        واختلف فيما تطوع بإيجابه على نفسه، فقال: مالي صدقة للمساكين في غير يمين، فقال ابن القاسم: لا يجبر على إنفاذ ذلك، وقال في كتاب الصدقة من كتاب محمد: يجبر، وبقية ما يتعلق بذلك مذكور في كتاب الهبات. [ ص: 795 ]

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية