الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        باب في مواقيت الحج والعمرة ، والوقت الذي يحرم فيه الحاج

                                                                                                                                                                                        المواقيت خمسة : ذو الحليفة ، والجحفة ، ويلملم ، وقرن ، وذات عرق .

                                                                                                                                                                                        فذو الحليفة لأهل المدينة ، والجحفة لأهل الشام ومصر والمغرب ، ويلملم لأهل اليمن ، وقرن لأهل نجد ، وذات عرق لأهل العراق .

                                                                                                                                                                                        ومن أتى على أحد هذه المواقيت من غير أهله فمهله منه ، وليس له أن يؤخر عنهم إلا أهل الشام والمغرب إذا مروا على ذي الحليفة خاصة ، فلهم أن يؤخروا إلى الجحفة ؛ لأن ميقاتهم أمامهم ، ولهم إن لم يمروا بالجحفة أن يؤخروا إحرامهم ؛ ليحرموا إذا حاذوها . وكذلك كل من لم يمر بميقاته فمهله إذا حاذاه في بر أو بحر .

                                                                                                                                                                                        وقال ابن حبيب : إذا لم يكن مرور أهل الشام وأهل المغرب بالجحفة ، فلا رخصة لهم في ترك الإحرام من ذي الحليفة .

                                                                                                                                                                                        يريد : إذا لم يكن مرورهم على موضع يحاذي ميقاتهم .

                                                                                                                                                                                        وقال أبو قرة عن مالك فيمن كان من أهل المدينة ، وكان طريقه على غير طريق المدينة : فإنه يحرم إذا حاذى الجحفة ، ومن كان مسكنه أمام ميقات من هذه المواقيت فمهله من موضعه ، وليس له أن يتعداه لما بعد ، ولا عليه أن [ ص: 1158 ] يرجع إلى ما خلفه من الميقات ، سواء أراد حجا أو عمرة . ويفترق الجواب في أهل مكة وغيرهم ممن هو ساكن في الحرم ، فإهلاله بالحج من موضعه ، وبالعمرة من خارج الحرم .

                                                                                                                                                                                        والأصل في هذه الجملة : حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : "وقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام الجحفة ولأهل نجد قرنا ولأهل اليمن يلملم ، فهن لهم ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة ، ومن كان وراء ذلك فمن أهله ، وكذا حتى أهل مكة يهلون من مكة" . أخرجه البخاري ، ومسلم . ويخرج من عموم هذا الحديث إحرام من كان في الحرم بالعمرة ، فليس موضعه ميقاتا لها حتى يخرج إلى الحل ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر عائشة - رضي الله عنه - أن تخرج إلى التنعيم ، فتعتمر منها .

                                                                                                                                                                                        وقد اختلف في القارن من الحرم ، فمنعه مالك في المدونة ، وأجازه سحنون وإسماعيل القاضي ؛ لما كان المفرد بالحج ممنوعا من الطواف حتى يخرج إلى الحل ، ومنها عرفات . وكذلك المعتمر يقرن من الحرم ، ثم لا يعمل شيئا [ ص: 1159 ] حتى يرجع من عرفة ، إلا أن يحب أن يطوف قبل وقوف عرفة ، فإنه يطوف ولا يسعى إلا أن يخرج إلى الحل ، فيجوز له حينئذ أن يطوف ويسعى .

                                                                                                                                                                                        واختلف فيمن أفرد الحج من مكة ، ثم طاف وسعى قبل أن يخرج إلى عرفة ، هل يحتسب به ؟

                                                                                                                                                                                        فقال مالك في المدونة : إذا رجع من عرفة طاف وسعى ، فإن هو لم يفعل حتى رجع إلى بلده رأيت السعي الأول بين الصفا والمروة يجزئه وعليه الدم وذلك أيسر شأنه عندي .

                                                                                                                                                                                        وقال أبو الحسن ابن القصار : وقد روي عن مالك أنه إن كان قد طاف وسعى ، ثم فرغ من حجه- أجزأه .

                                                                                                                                                                                        وأجاز ذلك الشافعي وأبو حنيفة ؛ لأن الطواف بانفراده ليس من شرطه أن يؤتى به من الحل ، فيجمع فيه بين الحل والحرم ، وكذلك السعي بين الصفا والمروة ليس من شرطه أن يؤتى به من الحل . فقد قيل : إن سعيه مسعى هاجر بينهما ، حيث عطش إسماعيل عليه السلام .

                                                                                                                                                                                        وإذا كان ذلك ؛ كان الصواب أنه جائز حسبما روي عن مالك في أحد القولين . وقال مالك : يستحب للمعتمرين من أهل مكة أن يحرموا بالحج من المسجد الحرام .

                                                                                                                                                                                        وقال في كتاب محمد : ولا يحرم من بيته ، بل من جوف المسجد . قيل له : [ ص: 1160 ]

                                                                                                                                                                                        فمن عند باب المسجد ؟ قال : لا ، بل من جوف المسجد .

                                                                                                                                                                                        وأهل مكة وكل من بها من غير أهلها سواء ، وقال في المبسوط : إن شاء أهل أهل مكة من مكة ، ولا يخرج من الحرم .

                                                                                                                                                                                        وكل هذا أحسن أن يحرم من حيث شاء من مكة ، والاستحباب أن يكون من المسجد .

                                                                                                                                                                                        وقال مالك فيمن كان من أهل الآفاق ، ودخل مكة يريد العمرة ، ثم أراد أن يحرم بالحج وعليه نفس : أحب إلي أن يخرج إلى ميقاته ، فيحرم منه .

                                                                                                                                                                                        واستحب ابن القاسم لمن دخل مكة حلالا ، ثم أراد أن يحرم بالحج أن يخرج إلى الحل ، وعلى قول مالك يستحب له أن يخرج إلى ميقاته .

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية