الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وهذا على ضربين : أحدهما : يتعلق بمصالح الدنيا ويحويه كتب الفقه والمتكفل به الفقهاء وهم علماء الدنيا .

والثاني ما يتعلق بمصالح الآخرة وهو علم أحوال القلب وأخلاقه المحمودة والمذمومة وما هو مرضي عند الله تعالى وما هو مكروه وهو الذي يحويه الشطر الأخير من هذا الكتاب أعني ، جملة كتاب إحياء علوم الدين ومنه العلم بما يترشح من القلب على الجوارح في عباداتها وعاداتها وهو الذي يحويه الشطر الأول من هذا الكتاب .

والضرب الثالث : المقدمات وهي التي تجري منه ، مجرى الآلات كعلم اللغة والنحو فإنهما آلة لعلم كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وليست اللغة والنحو من العلوم الشرعية في أنفسهما ولكن يلزم الخوض فيهما بسبب الشرع ؛ إذ جاءت هذه الشريعة بلغة العرب وكل شريعة لا تظهر إلا بلغة فيصير تعلم تلك اللغة آلة ومن الآلات علم كتابة الخط إلا أن ذلك ليس ضروريا إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أميا .

ولو تصور استقلال الحفظ بجميع ما يسمع لاستغنى عن الكتابة ، ولكنه صار بحكم العجز في الغالب ضروريا .

الضرب الرابع المتممات وذلك في علم القرآن فإنه ينقسم إلى ما يتعلق باللفظ كتعلم القراءات ومخارج الحروف وإلى ما يتعلق بالمعنى كالتفسير فإن اعتماده أيضا على النقل إذ : اللغة بمجردها لا تستقل به

التالي السابق


ومفهوم المخالفة: هو أن يكون حكم المسكوت عنه مخالفا، ويسمى دليل الخطاب .

(وهذا على ضربين: أحدهما: ما يتعلق بمصالح الدنيا) أي: التي تصلح به أمورها، ويعتدل نظامها (ويحويه) أي يجمعه (من الفقه) بتمامه (والمتكفل به) أي ببيانه وإتقانه وشرح ما أبهم فيه السادة (الفقهاء) المدرسون، وهم أصحاب الأساطين (وهم من علماء الدنيا) نظرا لما ذكرناه (والثاني ما يتعلق بالآخرة) أي بأمورها وأحوالها التي لا تعلق للدنيا بها (وهو علم أحوال القلب) وما يعتريه من اللمم الملكية والشيطانية (و) علم (أخلاقه المذمومة والمحمودة وما هو مرضي) مقبول (عند الله تعالى) كما يجب وكما ينبغي (وما هو مكروه) مسترذل (وهو الذي يحويه الشطر الأخير من هذا الكتاب، يعني جملة كتاب إحياء علوم الدين) فإنه تكفل ببيان ما ذكر على وجه التفصيل كما سيأتي .

(ومنه العلم بما يترشح من القلب) أي يفيض منه (على الجوارح) أي: الأعضاء (في عبادتها وعاداتها) وسائر حركاتها (وهو الذي يحويه الشطر الأول) من هذا الكتاب .

(الضرب الثالث: المقدمات، وهو الذي يجري مجرى الآلات) وتقدم أمام العلوم المقصودة بالذات؛ لارتباط لها بها، وانتفاع بها فيها، سواء توقفت عليها أم لا (تعلم اللغة) وهو علم باحث عن مدلولات جواهر المفردات وهيآتها الجزئية التي وضعت تلك الجواهر معها لتلك المدلولات بالوضع الشخصي، وعما حصل من تركيب كل جوهر، وهيآتها من حيث الوضع والدلالة على المعاني الجزئية (و) علم (النحو) وهو علم بقوانين تعرف بها أحوال التراكيب العربية من الدعوات والبناء وغيرهما (فإنهما) أي: كلا منهما (آلة) موصلة (لعلم كتاب الله وسنة [ ص: 149 ] رسوله) صلى الله عليه وسلم، فهما من المقدمات، ويجري مجراهما علم التصريف والاشتقاق .

(وليس اللغة والنحو من العلوم الشرعية في أنفسهما) أي في حد ذاتهما (ولكن لزوم الخوض فيهما) والاشتغال بهما (بسبب الشرع؛ إذ جاءت هذه الشريعة بلغة العرب) بخلاف غيرها من الشرائع التي تقدمت، فإنها باللغة السريانية (وكل شريعة) من الله تعالى (فلا تظهر إلا بلغة خاصة) أي لغة كانت (فيصير تعلم تلك اللغة آلة) موصلة لفهمها .

(ومن جملة الآلات علم كتابة الخط) وهو معرفة كيفية تصوير اللفظ بحروف هجائية، والحاجة إليه أكيدة؛ لأنه لا يظهر فائدة التخاطب إلا بالألفاظ وأحوالها (إلا أن ذلك ليس ضروريا) فقد يستغنى عن أحواله التي هي النقوش والحركات والمدات والنقط والشكل والتركيب وغير ذلك (إذ كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أميا) أي لا يحسن الكتابة، قيل: نسبة إلى الأم؛ لأن الكتابة مكتسبة فهو على ما ولدته من الجهل بالكتابة، وقيل: نسبة إلى أمة العرب؛ لأنه كان أكثرهم أميين، كذا في المصباح، ويروى: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب" أخرجه الشيخان من حديث ابن عمر، أراد أنهم على أصل ولادة أمهم لم يتعلموا الكتابة والحساب، فهم على جبلتهم الأولى .

وقيل له -صلى الله عليه وسلم- الأمي؛ لأن أمة العرب لم تكن تكتب ولا تحسب، وبعثه الله رسولا وهو لا يكتب ولا يقرأ من كتاب، كانت هذه الخلة إحدى آياته المعجزة؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- تلا عليهم كتاب الله منظوما تارة بعد أخرى بالنظم الذي أنزل عليه فلم يغيره، ولم يبدل ألفاظه، ففي ذلك أنزل الله تعالى: وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون .

قال ابن مردويه في تفسيره: حدثنا أحمد بن كامل، حدثنا محمد بن سعد، حدثنا أبي، حدثنا عمر، حدثنا أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: "كان نبي الله -صلى الله عليه وسلم- أميا لا يقرأ شيئا ولا يكتب".

وروي أيضا من رواية ابن لهيعة، عن عبد الله بن هبيرة، عن عبد الرحمن بن جبير، عن عبد الله بن عمرو بن العاصي، قال: "خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوما كالمودع، فقال: أنا محمد النبي الأمي، أنا محمد النبي الأمي" الحديث. وهكذا أخرجه أحمد أيضا .

وروى البخاري من حديث البراء في قصة صلح أهل مكة: "فأخذ الكتاب وليس يحسن يكتب" الحديث .

وروى ابن حبان والدارقطني والحاكم في المستدرك، والبيهقي من رواية محمد بن عبد الله بن زيد، عن أبي مسعود البدري، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث قال: "إذا أنتم صليتم علي فقولوا: اللهم صل على محمد النبي الأمي" الحديث .

قال الدارقطني: إسناده حسن، وقال الحاكم: هو حديث صحيح، وقال البيهقي في المعرفة: هذا إسناد صحيح .

وروى أحمد ومسلم والثلاثة من حديث أبي سعيد الأنصاري مثله، وقال الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث الرافعي: إن مما حرم عليه -صلى الله عليه وسلم- الخط والشعر، وإنما يتجه التحريم إن قلنا: إنه كان لا يحسنهما، ولكن يميز بين جيد الشعر ورديئه. وتمام البحث في شرحنا على القاموس .

(ولو تصور استقلال الحفظ بجميع ما يسمع) ويروى (لاستغني عن الكتابة والإنهاء، ولكنه صار بحكم العجز) عن ذلك (في الغالب ضروريا) فإنه بها تمام إفادة أحد المتخاطبين .

(والضرب الرابع مع المتممات) لتلك الأصول والفروع والآلات: قسم هذا الضرب على قسمين، منهما قسم يتعلق بالقرآن، وقسم يتعلق بالأخبار والآثار، ثم قسم كلا منهما إلى أقسام فقال: (فذلك في علم القرآن فإنه ينقسم إلى) ثلاثة أقسام، منها (ما يتعلق باللفظ) أي: بلفظ القرآن (كعلم القراءات) وهو علم يبحث فيه عن صور نظم كلام الله تعالى من حيث وجوه الاختلافات المتواترة الواصلة إلى حد الشهرة.

(و) علم (مخارج الحروف) وهو من فروع علم القراءة والتصريف (وإلى ما يتعلق بالمعنى) وهو القسم الثاني (كالتفسير) وهو علم باحث عن معنى نظم القرآن بحسب الطاقة البشرية، وبحسب ما تقتضيه القواعد العربية، ومبادؤه: العلوم العربية، وأصول الكلام، وأصول الفقه والجدل، وغير ذلك، والغرض منه معاني النظم، وفائدته حصول القدرة على استنباط الأحكام الشرعية على وجه الصحة، وموضوعه كلام الله سبحانه الذي هو منبع كل [ ص: 150 ] حكمة، ومعدن كل فضيلة، وغايته التوصل إلى فهم معاني القرآن، واستبناط حكمه؛ للفوز إلى السعادة الدنيوية والأخروية .

وشرف العلم وجلالته باعتبار شرف موضوعه وغايته، فهو أشرف العلوم، هكذا ذكره أبو الخير وابن صدر الدين (فإن اعتماده أيضا على النقل) بالإسناد الصحيح إلى أحد الأئمة المشهورين فيه على اختلاف الطبقات .

(إذا: اللغة بمجردها) أي: وحدها (لا تستقل به) فلا بد من النقل فيه، وللمفسرين طبقات، فمن الأولى علي وابن عباس وابن مسعود وأبي، ودونهم كأنس وأبي هريرة وابن عمر وابن عمرو وأبي موسى، ولكل هؤلاء طرق مشهورة .

أما ابن عباس: فمن الطرق الصحيحة إليه علي بن أبي طلحة عنه، وقيس بن مسلم، عن عطاء بن السائب عنه، وأوهى طرقه: ابن الكلبي والسري الصغير، وسليمان بن بشير الأزدي.

وطريق الضحاك بن مزاحم منقطعة؛ فإنه لم يلقه، ورواية بشير بن عمارة ضعيفة جدا .

وأما أبي بن كعب: فعنه نسخة كبيرة، رواها أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية عنه صحيحة .

ومن الطبقة الثانية أصحاب هؤلاء، فمن أصحاب ابن عباس: مجاهد بن جبر المكي، وسعيد بن جبير، وعطاء بن أبي رباح، وعكرمة وطاوس بن كيسان.

ومن أصحاب ابن مسعود: علقمة بن قيس، والأسود بن يزيد، وإبراهيم النخعي، والشعبي، ثم من بعدهم طبقة أتباعهم، وهم كثيرون، ومن بعدهم كذلك، ثم صنف من بعدهم قوم برعوا في العلوم، وملئوا كتبهم بما غلب على طبعهم من الفن، واقتصروا فيه على ما تمهروا فيه، كأن القرآن أنزل لأجل هذا العلم لا غير، مع أن فيه تبيان كل شيء .

وأما كلام الصوفية في القرآن فليس بتفسير كما حققه ابن الصلاح، وهذا العلم يستدعي التبحر في كل الفنون؛ فلذا قل أربابه، وانقرض خطابه، وقال بعضهم: تفسير القرآن على ثلاثة أقسام:

الأول: علم ما لا يطلع عليه الله أحدا من خلقه، وهذا لا يجوز لأحد الكلام فيه .

والثاني: ما اطلع عليه نبيه من أسراره، واختص به، فلا يجوز الكلام فيه إلا له -صلى الله عليه وسلم- أو لمن أذن له فيه، قيل: وأوائل السور من هذا القسم، وقيل: من الأول .

والثالث: ما اطلع عليه نبيه وأمره بتعليمه إياه، وهو على قسمين، منه ما لا يجوز الكلام فيه إلا بطريق السمع، كأسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، والقراءات، واللغات، وقصص الأمم، وأخبار ما هو كائن. ومنه ما يؤخذ بالنظر والاستنباط من الألفاظ، وهو قسمان: قسم اختلفوا في جوازه، وهو تأويل الآيات المتشابهات، وقسم اتفقوا عليه، وهو استنباط الأحكام الأصلية والفرعية والإعرابية؛ لأن بناءها على الأقيسة، وكذلك فنون البلاغة وضروب المواعظ، والحكم والأمثال والإشارات، لا يمنع استنباطها لمن له أهلية ذلك، وما عدا هذه الأمور هو التفسير بالرأي الذي نهي عنه، وهو على خمسة أقسام:

الأول: التفسير من غير حصول العلوم التي يجوز معها التفسير .

الثاني: تفسير المتشابه الذي لا يعلمه إلى الله سبحانه .

والثالث: التفسير المقرر لمذهبه الفاسد بأن يجعل المذهب أصلا والتفسير تابعا له، فيرد إليه بأي طريق أمكن وإن كان ضعيفا .

الرابع: التفسير بأن مراد الله كذا على القطع من غير دليل .

الخامس: التفسير بالاستحسان والهوى .




الخدمات العلمية