الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فضيلة المكتوبة .

قال الله تعالى إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا وقال صلى الله عليه وسلم : " خمس صلوات كتبهن الله " على العباد ، فمن جاء بهن ولم يضيع منهن شيئا استخفافا بحقهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد : إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة وقال صلى الله عليه وسلم : مثل الصلوات الخمس كمثل نهر عذب غمر بباب أحدكم يقتحم فيه كل يوم خمس مرات ، فما ترون ذلك يبقي من درنه ؟ قالوا : لا شيء ، قال صلى الله عليه وسلم : فإن الصلوات الخمس تذهب الذنوب كما يذهب الماء الدرن وقال صلى الله عليه وسلم : " إن الصلوات كفارة لما بينهن ما اجتنبت الكبائر " وقال صلى الله عليه وسلم : بيننا وبين المنافقين شهود العتمة والصبح لا يستطيعونهما وقال صلى الله عليه وسلم : " من لقي الله وهو مضيع للصلاة لم يعبإ الله بشيء من حسناته وقال صلى الله عليه وسلم : " الصلاة عماد الدين ، فمن تركها فقد هدم الدين " .

التالي السابق


(فضيلة المكتوبة) :

اعلم أن الصلاة فريضة ثابتة بالكتاب والسنة، أما الكتاب فإنه (قال الله تعالى) : أقيموا الصلاة ، وقال أيضا: وقوموا لله قانتين ، وقال أيضا: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ، وقال أيضا: فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون الآية، وقال أيضا: ( إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ) ، أي: فرضا مؤقتا، أي: محدودا بأوقات لا يجوز إخراجها عنها في شيء من الأحوال، ولما كانت هذه الآية ظاهرة الدلالة على المراد، اقتصر عليها المصنف، (و) أما السنة فإنه (قال صلى الله عليه وسلم: "خمس صلوات كتبهن الله") ، أي: فرضهن (على العباد، فمن جاء بهن ولم يضيع منهن شيئا استخفافا بحقهن) قال الباجي: احترز عن السهو، وقال ابن عبد البر : تضييعها أن لا يقيم حدودها، (كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة) ، أي: مع السابقين، أو من غير تقدم عذاب (ومن لم يأت بهن) على الوجه المطلوب شرعا، (فليس له عند الله عهد: إن شاء عذبه) ، عدلا (وإن شاء أدخله الجنة) برحمته فضلا. أخرجه مالك وأحمد وأبو داود والنسائي، وابن حبان والحاكم عن عبادة بن الصامت . قال الزين العراقي : وصححه ابن عبد البر، ورواه أبو داود أيضا بلفظ آخر يقاربه: "خمس صلوات افترضهن الله عز وجل، من أحسن وضوأهن وصلاهن لوقتهن، وأتم ركوعهن وخشوعهن كان له على الله أن يغفر له، ومن لم يفعل، فليس له على الله عهد: إن شاء غفر له وإن شاء عذبه". وأخرجه البيهقي كذلك، وعزاه الصدر المناوي في تخريج أحاديث المصابيح إلى الترمذي والنسائي أيضا .

(وقال صلى الله عليه وسلم: مثل الصلوات الخمس) المكتوبة، (كمثل نهر) ، هكذا هو بزيادة الكاف على "مثل"، و"نهر" بفتح الهاء وسكونها، (عذب) ، أي: طيب لا ملوحة فيه، (غمر) بفتح فسكون، أي: الكثير الماء، (بباب أحدكم) ، إشارة إلى سهولته وقرب تناوله، (يقتحم فيه) ، أي: يدخل فيه، (كل يوم خمس مرات، فما ترون ذلك يبقي) ، بضم أوله وكسر ثالثه (من درنه؟) ، أي: وسخه، (قالوا: لا شيء، قال صلى الله عليه وسلم: فإن الصلوات الخمس تذهب الذنوب) ، أي: الصغار، (كما يذهب الماء الدرن) . أخرجه الإمام أحمد وعبد بن حميد، والدارمي ومسلم، وابن حبان والرامهرمزي من حديث جابر ولفظه: "مثل الصلوات الخمس المكتوبة كمثل نهر جار عذب على باب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات، فما يبقي ذلك من الدنس؟". وعند البخاري ومسلم نحوه، وكذا محمد بن نصر من حديث أبي هريرة، زاد البخاري : "فذلك مثل الصلاة"، وهو جواب لشرط محذوف، أي: إذا علمتم ذلك، وأخرجه أبو يعلى عن أنس والطبراني عن أبي أمامة، وعند الرامهرمزي من حديث أبي هريرة: "مثل الصلوات الخمس مثل رجل على بابه نهر جار غمر يغتسل منه كل يوم خمس مرات، فماذا يبقى من درنه؟" .

قال المناوي في شرح الجامع: وفائدة التمثيل التأكيد، وجعل المعقول كالمحسوس، حيث شبه المذنب المحافظ على الخمس بحال مغتسل في نهر كل يوم خمسا، بجامع أن كلا منهما يزيل الأقذار، وخص النهر بالتمثيل لمناسبته لتمكين حق الصلاة ووجوبها؛ لأن النهر لغة ما أخذ لمجراه محلا ممكنا، وفيه فضل الصلاة لأول وقتها؛ لأن الاغتسال في أول اليوم أقوى وأبلغ في النظافة. (وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الصلوات كفارة لما بينهن من الصغائر ما اجتنبت الكبائر") . والذي أخرجه أبو نعيم في الحلية من حديث أنس : "الصلوات الخمس كفارة لما بينهن ما اجتنبت الكبائر، [ ص: 9 ] والجمعة إلى الجمعة وزيادة ثلاثة أيام"، وعند أحمد ومسلم في الطهارة، والترمذي في الصلاة عن أبي هريرة بلفظ: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر". ولكن الترمذي لم يذكر رمضان، وقال النووي في شرح مسلم: معناه أن الذنوب كلها تغفر إلا الكبائر فلا تغفر، لا أن الذنوب تغفر ما لم تكن كبيرة، فإن كانت لا تغفر صغائره، ثم كل من المذكورات صالح للتكفير، فإن لم تكن له صغائر كتبت له حسنات ورفع له درجات، (وقال صلى الله عليه وسلم: بيننا وبين المنافقين شهود) ، أي: حضور، (العتمة) ، أي: صلاة العشاء في جماعة، (و) حضور صلاة (الصبح) ، فإنهم (لا يستطيعونهما) ، أي: تثقلان عليهم، أخرجه مالك في الموطأ من رواية سعيد بن المسيب مرسلا، قاله العراقي.

(وقال صلى الله عليه وسلم: "من لقي الله وهو مضيع للصلاة) بعدم إقامة أركانها، (لم يعبأ الله بشيء من حسناته) .

قال العراقي: لم أجده هكذا، وفي معناه حديث: "أول ما يحاسب به العبد الصلاة" وفيه: "فإن فسدت فسد سائر عمله". رواه الطبراني في الأوسط من حديث أنس اهـ .

قلت: ورواه أيضا الضياء في "المختارة" عن أنس بلفظ: "أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت صلح له سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله، وعند النسائي عن ابن مسعود : "أول ما يحاسب به العبد الصلاة، وأول ما يقضى بين الناس في الدماء".

(وقال صلى الله عليه وسلم: "الصلاة عماد الدين، فمن تركها فقد هدم الدين") . قال العراقي: أخرجه البيهقي في "الشعب" بسند ضعيف من حديث عمر، قال الحاكم: عكرمة لم يسمع من عمر، قال: وأراه ابن عمر، ولم يقف عليه ابن الصلاح، فقال في "مشكل الوسيط": إنه غير معروف .

قلت: وقول النووي في التنقيح حديث منكر باطل، رده الحافظ ابن حجر وشنع عليه، ثم إن الذي خرجه البيهقي في "الشعب" هي الجملة الأولى فقط .

وأما قوله: فمن تركها، إلخ، فلم أره؛ وعند الديلمي عن علي : "الصلاة عماد الإيمان، والجهاد سنام العمل، والزكاة بين ذلك". ورواه التيمي في "الترغيب" بلفظ: "الصلاة عماد الإسلام"؛ وأخرج أبو نعيم الفضل بن دكين شيخ البخاري في كتاب الصلاة عن حبيب بن سليم، عن بلال بن يحيى قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأل عن الصلاة، فقال: الصلاة عمود الدين، وهو مرسل، ورجاله ثقات، وله طرق أخرى بينها الزيلعي في تخريج أحاديث "الكشاف"، وتبعه السيوطي في "حاشية البيضاوي" .



(تنبيه) :

يوجد في كتب أصحابنا الحنفية هذا الحديث بزيادة جملة أخرى وهي: "فمن أقامها فقد أقام الدين". وبهذه الزيادة يفهم وجه الشبه بين الصلاة والعماد، أي: الإقامة بالإقامة، والهدم بالترك كما أن الخيمة تقام بإقامة عمدها وتهدم بترك إقامته، وكان هذا هو السر في عدم مجيء الأمر بالصلاة غالبا، إلا بلفظ الإقامة في الكتاب والسنة بخلاف غيره من الأوامر على ما لا يخفى، والله أعلم .




الخدمات العلمية