الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وروى أبو هريرة أنه صلى الله عليه وسلم فقد ناسا في بعض الصلوات فقال : لقد هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس ثم أخالف إلى رجال يتخلفون عنها فأحرق عليهم بيوتهم وفي رواية أخرى : ثم أخالف إلى رجال يتخلفون عنها فآمر بهم فتحرق عليهم بيوتهم بحزم الحطب ولو علم أحدهم أنه يجد عظما سمينا أو مرماتين لشهدها ، يعني صلاة العشاء .

وقال عثمان رضي الله عنه مرفوعا من شهد العشاء فكأنما قام نصف ليلة ، ومن شهد الصبح فكأنما قام ليلة وقال صلى الله عليه وسلم : من صلى صلاة في جماعة فقد ملأ نحره عبادة وقال سعيد بن المسيب ما أذن مؤذن منذ عشرين سنة إلا وأنا في المسجد .

وقال محمد بن واسع ما أشتهي من الدنيا إلا ثلاثة : أخا إن تعوجت قومني ، وقوتا من الرزق عفوا من غير تبعة ، وصلاة في جماعة يرفع عني سهوها ويكتب لي فضلها .

وروي أن أبا عبيدة بن الجراح أم قوما مرة فلما انصرف قال ما زال الشيطان بي آنفا حتى أريت أن لي فضلا عن غيري ، لا أؤم أبدا .

وقال الحسن : لا تصلوا خلف رجل لا يختلف إلى العلماء .

وقال النخعي مثل الذي يؤم الناس بغير علم مثل الذي يكيل الماء في البحر ، لا يدري زيادته من نقصانه ، وقال حاتم الأصم فاتتني الصلاة في الجماعة فعزاني أبو إسحاق البخاري وحده ولو مات لي ولد لعزاني أكثر من عشر آلاف لأن مصيبة الدين أهون عند الناس من مصيبة الدنيا .

التالي السابق


(وروى أبو هريرة ) رضي الله عنه (أنه صلى الله عليه وسلم فقد ناسا في بعض الصلوات) ، كذا في رواية مسلم، قيل: الصبح، وقيل: العشاء، وقيل: الجمعة .

وفي رواية: العشاء أو الفجر، ولا تعارض؛ لإمكان التعدد، (فقال: لقد هممت) ، وعند البخاري : "والذي نفسي بيده، لقد هممت، هو جواب القسم أكده باللام وقد، أي: عزمت (أن آمر) بالمد وضم الميم (رجلا يصلي بالناس ثم أخالف) المشتغلين بالصلاة قاصدا (إلى رجال) لم يخرجوا إلى الصلاة، وخرج به النساء والصبيان والخناثى (فأحرق عليهم) بالتشديد للتكثير والمبالغة، (بيوتهم) ، أي: منازلهم بالنار عقوبة لهم، وبهذا استدل الإمام أحمد ومن قال: أن الجماعة فرض عين، ويشعر له ترجمة البخاري لهذا الحديث: باب وجوب صلاة الجماعة؛ لأنها لو كانت سنة لم يهدد تاركها بالتحريق، ولو كانت فرض كفاية لكان قيامه عليه السلام ومن معه بها كافيا، وإلى ذلك ذهب عطاء والأوزاعي وجماعة من محدثي الشافعية كابن خزيمة وابن حبان وابن المنذر، لكنها ليست بشرط في صحة الصلاة كما مر عن المجموع، وقال أبو حنيفة ومالك : هي سنة مؤكدة، وهو وجه عند الشافعية لمواظبته صلى الله عليه وسلم عليها .

وفي شرح "المجمع": أكثر مشايخ الحنفية على أنه واجب، وتسميتها سنة؛ لأنه ثابت بالسنة اهـ .

وظاهر نص الشافعي أنها فرض كفاية، وعليه جمهور أصحابه المتقدمين، وصححه النووي في "المنهاج" كأصل "الروضة"، وبه قال المالكية، واختاره الطحاوي والكرخي وغيرهما من الحنفية .

(وفي رواية أخرى: ثم أخالف إلى رجال يتخلفون عنها) ، وعن أحمد ومسلم من حديث ابن مسعود : يتخلفون عن الجمعة، (فآمر بهم فتحرق عليهم) بيوتهم (بحزم الحطب) ، وعند البخاري من حديث أبي هريرة: "لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلا فيؤم الناس، ثم أخالف إلى الرجال فأحرق عليهم بيوتهم". وعنده في فضل صلاة العشاء: "لقد هممت أن آمر المؤذن فيقيم، ثم آمر رجلا يؤم الناس، ثم آخذ شعلا من نار فأحرق من لا يخرج إلى الصلاة بعد".

(ولو علم أحدهم) ، أي: المتخلفين، (أنه يجد عظما سمينا لشهدها، يعني صلاة العشاء) . ونص البخاري : "والذي نفسي بيده، لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقا سمينا أو مرماتين حسنتين لشهدها". والعرق بفتح فسكون: العظم الذي عليه بقية لحم، والمعنى: أنه لو علم أنه يحضر الصلاة يجد نفعا دنيويا، وإن كان خسيسا حقيرا لحضرها لقصور همته عن الله تعالى، ولا يحضرها لما لها من المثوبات الأخروية، فهو وصف بالحرص على الشيء الحقير من مطعوم أو ملعوب به، مع التفريط فيما يحصل به رفيع الدرجات ومنازل الكرامات، ووصف العرق [ ص: 15 ] بالسمن والمرماة بالحسن؛ ليكون ثم باعث نفساني على تحصيلهما، وهذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم والنسائي من طريق أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة، وأخرجه مسلم أيضا عن ابن مسعود، وأخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة بلفظ: "ثم آتي قوما يصلون في بيوتهم ليست بهم علة" (وقال عثمان) بن عفان رضي الله عنه فيما روي عنه (مرفوعا) ، أي: رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من شهد العشاء) ، أي: صلاتها مع جماعة، فالمضاف محذوف، (فكأنما قام نصف ليلة، ومن شهد الفجر) ، أي: صلاتها مع جماعة، (فكأنما قام ليلة) ، رواه مسلم.

قال العراقي: قال الترمذي : وروي عن عثمان موقوفا اهـ .

قلت: أخرج البيهقي في "السنن" من حديثه مرفوعا: "من شهد العشاء في جماعة كان له قيام ليلة"، وروي أيضا: "من شهد صلاة الصبح محتسبا فكأنما قام الليلة، ومن شهد صلاة العشاء فكأنما قام نصف الليل". وهذا قد رواه مالك عنه موقوفا، وهو الذي أشار إليه الترمذي، وعند عبد الرزاق وأبي داود والترمذي وابن حبان من حديثه بلفظ: "من صلى العشاء في جماعة كان كقيام نصف ليلة، ومن صلى العشاء والفجر في جماعة، كان كقيام ليلة". وعن ابن حبان وحده من حديثه: "من صلى العشاء والغداة في جماعة، فكأنما قام الليل".

وأخرج أحمد ومسلم والبيهقي من حديثه: "من صلى العشاء في جماعة، فكأنما قام نصف ليلة، ومن صلى الصبح في جماعة، فكأنما صلى الليل كله، وأخرج الطبراني في "الكبير" من حديثه: "من صلى الأخيرة في جماعة، فكأنما صلى الليل كله، ومن صلى الغداة في جماعة، فكأنما صلى النهار كله" .

(وقال صلى الله عليه وسلم: من صلى صلاة في جماعة فقد ملأ نحره عبادة) .

قال العراقي: لم أره مرفوعا، وإنما هو من قول سعيد بن المسيب، رواه محمد بن نصر في كتاب الصلاة اهـ .

قلت: ووجدت في "العوارف" ما نصه: "ومن أقام الصلوات الخمس في جماعة، فقد ملأ البر والبحر عبادة". (وقال سعيد بن المسيب ) التابعي رحمه الله تعالى: (ما أذن مؤذن منذ عشرين سنة إلا وأنا في المسجد) ، أي: أبادر الأذان فأدخل المسجد قبل الوقت، وظاهر سياقه أنه في أوقات الصلوات كلها، وفي "القوت" ما نصه: "وقال سعيد بن المسيب " منذ أربعين سنة ما فاتتني تكبيرة الإحرام في جماعة، وكان يسمي جماعة المسجد، وعن عبد الرزاق قال: "منذ أربعين سنة ما سمعت الأذان إلا وأنا في المسجد" (وقال محمد بن واسع) الأزدي البصري أبو بكر الزاهد، عن أنس ومطرف بن الشخير والحسن، وعنه الحمادان وهمام، ثقة كبير الشأن توفي سنة 127، أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي: (ما أشتهي من الدنيا إلا ثلاثة: أخا) في الله (إن تعوجت قومني، وقوتا من الرزق عفوا) ، أي: حلالا، (بغير تبعة، وصلاة في جماعة يرفع عني سهوها) ، أي: بحضور القلب، (ويكتب لي فضلها) لم أجده في "الحلية" في ترجمته، وقد جاء في المرفوع من حديث حذيفة بن اليمان ما هو قريب من ذلك قال: "سيأتي عليكم زمان لا يكون فيه شيء أعز من ثلاثة: درهم حلال، أو أخ يستأنس به، أو سنة يعمل بها". وفي أول "القوت": وقال بعض السلف: أفضل الأشياء ثلاثة: عمل بسنة، ودرهم من حلال، وصلاة في جماعة. (وروي أن أبا عبيدة) عامر بن عبد الله (بن الجراح) بن هلال بن أهيب القرشي الفهري رضي الله عنه، أحد العشرة المبشرة، وأمين هذه الأمة، مات في طاعون عمواس سنة ثماني عشرة، وهو ابن ثمان وخمسين سنة، روى له الجماعة (أم قوما) ، أي: صلى بهم (مرة) إماما (فلما انصرف) من الصلاة (قال) لأصحابه (ما زال الشيطان بي آنفا) ، أي: في صلاتي، (حتى رأيت) في نفسي (أن لي فضلا على غيري، لا أؤم أبدا) ، خاف من مداخلة العجب في نفسه، والترفع على إخوانه واستمرار ذلك فيه، فترك الإمامة، ومناسبة هذا القول مع الفصل صلاته في جماعة إماما، ويقرب من ذلك ما رواه صاحب "الفوارق" أنه روى عن أبي عمرو بن العلاء أنه قدم للإمامة، فقال: لا أصلح، فلما ألحوا عليه كبر، فغشي عليه، فقدموا إماما آخر، فلما أفاق سئل عن ذلك فقال: لما قلت: استووا، هتف بي هاتف: هل استويت أنت مع الله قط؟

(وقال الحسن:) هو البصري (لا تصلوا خلف رجل لا يختلف إلى العلماء) ، في مسألتهم لأمر دينه وما يتعلق بصلاته صلاحا وفسادا، (وقال النخعي) هو إبراهيم بن يزيد الفقيه كما هو المتبادر عند الإطلاق، أو الأسود بن يزيد الفقيه وهو [ ص: 16 ] خال إبراهيم، (مثل الذي يؤم الناس بغير علم مثل الذي يكيل الماء في البحر، لا يدري زيادته من نقصانه، وقال حاتم الأصم) ، تقدمت ترجمته في كتاب العلم، (فاتتني الجماعة) أي: الصلاة، معها مرة (فعزاني أبو إسحاق البخاري ) وهو أحمد بن إسحاق بن الحصين بن جابر بن جندل السلمي المطوعي السرماري، أحد فرسان الإسلام، وكان زاهدا ثقة، روى عنه البخاري (وحده) ، أي: ليس معه أحد، (ولو مات لي ولد لعزاني) فيه (أكثر من عشرة آلاف) نفس، وذلك (لأن مصيبة الدين أهون عند الناس من مصيبة الدنيا) ، وفوت الجماعة أمر خفي لا يكاد يطلع عليه إلا من لازمه أو كان مكاشفا؛ فلذا لم يعزه إلا أبو إسحاق، بخلاف موت الأولاد فإنه مبني على الشهرة، والناس تابعون لها .




الخدمات العلمية