الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقال صلى الله عليه وسلم : إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي ويقول يا ويلاه أمر هذا بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت أنا بالسجود فعصيت فلي النار ويروى عن علي بن عبد الله بن عباس أنه كان يسجد في كل يوم ألف سجدة وكانوا يسمونه السجاد .

ويروى أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كان لا يسجد إلا على التراب .

وكان يوسف بن أسباط يقول : يا معشر الشباب بادروا بالصحة قبل المرض فما بقي أحد أحسده إلا رجل يتم ركوعه وسجوده وقد حيل بيني وبين ذلك .

وقال سعيد بن جبير ما آسى على شيء من الدنيا إلا على السجود .

وقال عقبة بن مسلم ما من خصلة في العبد أحب إلى الله عز وجل من رجل يحب لقاء الله عز وجل وما من ساعة العبد فيها أقرب إلى الله عز وجل منه حيث يخر ساجدا .

وقال أبو هريرة رضي الله عنه : أقرب ما يكون العبد إلى الله عز وجل إذا سجد فأكثروا الدعاء عند ذلك .

التالي السابق


(وقال صلى الله عليه وسلم: إذا قرأ ابن آدم السجدة) أي: آيتها (فسجد) سجود التلاوة، (اعتزل) أي: تباعد (الشيطان) أي: إبليس، فأل فيه عهدية (يبكي ويقول) حالان من فاعل اعتزل مترادفتان أو متداخلتان (يا ويلاه) .

وفي رواية: "يا ويله" وفي أخرى: "يا ويلي"، وفي أخرى: "يا ويلتنا"، ولمسلم : "يا ويلتا"، وألفه للندبة والتفجيع، أي: يا هلاكي ويا حزني احضر فهذا أوانك، جعل الويل منادى لكثرة حزنه وهول ما حصل له من الأمر الفظيع، (أمر هذا) وعند مسلم: "أمر ابن آدم" (بالسجود) هذا استئناف وجواب عمن سأل عن حاله (فسجد فله الجنة) بطاعته (وأمرت بالسجود فعصيت) ، وعند مسلم: "فأبيت" (فلي النار) أي: نار جهنم، وسجدة التلاوة واجبة عند أبي حنيفة، وعند الشافعي سنة بشروط، وهذا الحديث أخرجه أحمد ومسلم وابن ماجه عن أبي هريرة، ولم يخرجه البخاري .

(ويروى عن علي بن عبد الله بن عباس) بن عبد المطلب بن هاشم القرشي الهاشمي أبو محمد، ويقال أبو عبد الله، ويقال أبو الفضل، ويقال أبو الحسن المدني والد محمد، وعيسى وداود وسليمان وعبد الصمد وإسماعيل وصالح وعبد الله، وأمه زرعة بنت مشرح بن معد يكرب الكندي أحد الملوك الأربعة، قال ابن سعد : ولد ليلة قتل علي بن أبي طالب في شهر رمضان سنة أربعين، فسمي باسمه، وكان أصغر ولد أبيه سنا، وكان ثقة قليل الحديث، قال: وكان أجمل قرشي على وجه الأرض، وأوسمه وأكثر صلاة، وروى علي بن أبي حملة قال (إنه كان) أي: علي (يسجد في [ ص: 20 ] كل يوم ألف سجدة) قال: ودخلت عليه منزله بدمشق وكان آدم جسيما، فرأيت له مسجدا كبيرا في وجهه، وقال الزبير بن بكار في "أنساب قريش" وابن سعد في "الطبقات" أنهم (كانوا يسمونه السجاد) ؛لأجل كثرة صلاته، وله عقب، وفي ولده الخلافة، وقال مصعب بن عبد الله الزبيري : سمعت رجلا من أهل العلم يقول: إنما كان سبب عبادة علي أنه نظر إلى عبد الرحمن بن أبان بن عثمان فقال: والله لأنا أولى بهذا منه وأقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رحما، فتجرد للعبادة. وقالأبو حسان الزيادي: حدثني عدة من الفقهاء وأهل العلم أن عليا توفي بالحميمة من أرض البلقاء سنة تسع عشرة أو ثماني عشرة ومائة وهو ابن ثمان وسبعين سنة. روى له الجماعة إلا البخاري .

(ويروى أن عمر بن عبد العزيز ) الأموي (رحمه الله تعالى كان لا يسجد إلا على التراب) أي: من غير حائل؛ تواضعا منه لله عز وجل، ويفسر السيما في الآية بأثر التراب على الوجه من السجود على الأرض (وكان يوسف بن أسباط ) هو من رجال الرسالة والحلية، (يقول: يا معشر الشباب بادروا بالصحة قبل المرض) أي: اغتنموا أيام صحة الجسد قبل أن تعرض له الأمراض، (فما بقي أحد أحسده) أي: أغبطه، (إلا رجل يتم ركوعه وسجوده) في صلاته، (وقد حيل بيني وبين ذلك) قال ذلك لما كبرت سنه ودق عظمه، (وقال سعيد بن جبير) الوالبي مولاهم التابعي رحمه الله تعالى، تقدمت ترجمته، (ما آسى على شيء) أي: ما أحزن (من الدنيا) أي: من أمورها (إلا السجود) ، وقد ذكر صاحب الحلية بسنده إلى هلال بن يساف قال: دخل سعيد الكعبة فقرأ القرآن في ركعة، وذكر عن ورقاء أنه قال: كان سعيد يختم فيما بين المغرب والعشاء في شهر رمضان، ولما أخذه جماعة الحجاج وجدوه ساجدا يناجي بأعلى صوته (وقال عقبة بن مسلم) التجيبي إمام جامع مصر وقاصهم وشيخهم، روى عن عبد الله بن عمر وطائفة، وعنه حيوة بن شريح وابن لهيعة وغيره، وثقه البجلي، مات سنة 243 أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي (ما من خصلة) من خصال الخير (في العبد أحب إلى الله عز وجل من) خصلة (رجل يحب لقاء الله عز وجل) وهو علامة الإقبال على أمور الآخرة، وقد ورد: "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه"، (وما من ساعة) من ساعات الليل أو النهار (العبد فيها أقرب إلى الله عز وجل منه) أي: إلى رحمته وعفوه (حيث يخر ساجدا) لله تعالى في صلاته. قال المناوي نقلا عن الشيخ محيي الدين قدس سره قال: لما جعل الله الأرض لنا ذلولا نمشي في مناكبها، فهي تحت أقدامنا نطؤها بها وذلك غاية الذلة، فأمرنا أن نضع عليها أشرف ما عندنا، وهو الوجه، وأن نمرغه عليها جبرا لانكسارها، فاجتمع بالسجود وجه العبد ووجه الأرض فانجبر كسرها، وقد قال تعالى: أنا عند المنكسرة قلوبهم، فلذلك كان العبد في تلك الحالة أقرب إلى الله تعالى من سائر أحوال الصلاة اهـ .

(وقال أبو هريرة رضي الله عنه: أقرب ما يكون العبد إلى الله تعالى) أي: إلى رحمته (إذا سجد) ، أي: حالة سجوده، وقال الطيبي: التركيب من الإسناد المجازي، أسند القرب إلى الوقت وهو العبد مبالغة، والفضل عليه محذوف تقديره أن للعبد حالتين في العبادة: حالة كونه ساجدا لله تعالى، وحالة كونه ملتبسا بغير السجود، فهو في حالة سجوده أقرب إلى ربه من نفسه في غير تلك الحالة (فأكثروا الدعاء عند ذلك) أي: في السجود، لأنها حالة غاية التذلل، فهو مظنة الإجابة .

وفي رواية: "فاجتهدوا فيه في الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم". ثم أن سياق المصنف مشعر بأنه من قول أبي هريرة موقوف عليه، وقد أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي من حديثه رفعوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بلفظ: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء". فتأمل ذلك، والله أعلم .




الخدمات العلمية