الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأن يرفع يديه مع تكبيرة الركوع .

التالي السابق


(و) من سنن الركوع (أن يرفع يديه مع تكبيرة الركوع) ، ونصه في "الوجيز": إلى ابتداء الركوع خلافا لأبي حنيفة، قال الرافعي : لنا ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا كبر، وإذا ركع، وإذا رفع رأسه من الركوع".

قلت: أخرجه الشيخان .

قال العراقي في "شرح التقريب": ورفع اليدين في المواطن الثلاثة قال به أكثر العلماء من السلف والخلف. قال ابن المنذر: روينا ذلك عن ابن عمر وابن عباس، وأبي سعيد الخدري وابن الزبير وأنس بن مالك، وقال الحسن البصري: "كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعون أيديهم إذا كبروا وإذا ركعوا، وإذا رفعوا رؤوسهم من الركوع، كأنها المراويح". وروي ذلك عن جماعة من التابعين ومن بعدهم، ومن قول الليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور، وحكاه ابن وهب عن مالك اهـ .

وقد حكاه عن مالك أيضا أبو مصعب وأشهب، والوليد بن مسلم، وسعيد بن أبي مريم، وجزم به الترمذي عن مالك، وقال: البخاري يروى عن عدة من أهل الحجاز والعراق والشأم والبصرة ذلك، منهم: سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح، ومجاهد، والقاسم بن محمد، وسالم، وعمر بن عبد العزيز، والنعمان بن أبي عياش، والحسن، وابن سيرين، وطاوس ومكحول، وعبد الله بن دينار، ونافع، وعبيد الله بن عمر، والحسن بن مسلم، وقيس بن سعد وغيرهم اهـ .

وقال البيهقي : قد رويناه عن أبي قلابة وأبي الزبير، ثم عن الأوزاعي، ومالك والليث بن سعد وابن عيينة، ثم عن الشافعي، ويحيى القطان وعبد الرحمن بن مهدي وعبد الله بن المبارك، ويحيى بن يحيى وأحمدبن حنبل، وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي، وعدة كثيرة من أهل الآثار بالبلدان، وقالت طائفة: لا يرفع يديه فيما سوى الافتتاح، وهو قول سفيان الثوري وأبي حنيفة وأصحابه والحسن بن صالح بن حي، وهو رواية ابن القاسم عن مالك، قال ابن عبد البر: وتعلق بهذه الرواية عن مالك أكثر [ ص: 54 ] المالكيين، وقال الشيخ تقي الدين في "شرح العمدة": وهو المشهور من مذهب مالك، والمعمول به عند المتأخرين منهم اهـ .

وقال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم: لم يرو أحد عن مالك مثل رواية ابن القاسم في رفع اليدين، قال محمد: والذي آخذ به أن أرفع على حديث ابن عمر ، وروى ابن أبي شيبة في مصنفه الرفع في تكبيرة الإحرام فقط، عن علي وابن مسعود والأسود وعلقمة والشعبي وإبراهيم النخعي وخيثمة، وقيس بن أبي حازم، وأبي إسحاق السبيعي، وحكاه عن أصحاب علي وابن مسعود، وحكاه الطحاوي عن عمر، وذكر ابن بطال أنه لم يختلف عنه في ذلك، وهو عجيب، فإن المشهور عنه الرفع في المواطن الثلاثة، هو آخر أقواله وأصحها، والمعروف من عمل الصحابة، ومذهب كافة العلماء إلا من ذكر اهـ .

وكذا قال الخطابي أنه قول مالك في آخر أمره .

وقال محمد بن نصر المروزي: لا نعلم مصرا من الأمصار تركوا بإجماعهم رفع اليدين عند الخفض والرفع في الصلاة إلا أهل الكوفة، وكلهم لا يرفع إلا في الإحرام. وقال ابن عبد البر: لم يرو عن أحد من الصحابة ترك الرفع عند كل خفض ورفع ممن لم يختلف عنه فيه إلا ابن مسعود وحده؛ وروى الكوفيون عن علي مثل ذلك، وروى المدنيون عنه الرفع من حديث عبيد الله بن أبي رافع اهـ .

وذكر عثمان بن سعيد الدارمي أن الطريق عن علي في ترك الرفع واهية؛ وقال الشافعي في رواية الزعفراني عنه: ولا يثبت عن علي وابن مسعود، ولو كان ثابتا عنهما لا يبعد أن يكون رآهما مرة أغفلا رفع اليدين، ولو قال قائل: ذهب عنهما حفظ ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وحفظه ابن عمر لكانت له الحجة اهـ .

وروى البيهقي في سننه عن وكيع قال: صليت في مسجد الكوفة، فإذا أبو حنيفة قائم يصلي، وابن المبارك إلى جنبه يصلي، فإذا عبد الله يرفع يديه كلما ركع وكلما رفع، وأبو حنيفة لا يرفع، فلما فرغوا من الصلاة قال أبو حنيفة لعبد الله: يا أبا عبد الرحمن رأيتك تكثر رفع اليدين، أردت أن تطير؟ فقال له عبد الله: يا أبا حنيفة، قد رأيتك ترفع يديك حين افتتحت الصلاة، فأردت أن تطير؟ فسكت أبو حنيفة، قال وكيع: فما رأيت جوابا أخصر من جواب عبد الله لأبي حنيفة .

وروى البيهقي أيضا عن سفيان بن عيينة قال: اجتمع الأوزاعي والثوري بمنى، فقال الأوزاعي للثوري: لم لا ترفع يديك في خفض الركوع ورفعه؟ فقال الثوري: حدثنا يزيد بن أبي زياد، فقال الأوزاعي : أروي لك عن الزهري عن سالم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وتعارضني بيزيد بن أبي زياد، ويزيد رجل ضعيف الحديث، حديثه مخالف للسنة؟ قال: فاحمار وجه سفيان، فقال الأوزاعي : كأنك كرهت ما قلت؟ قال الثوري: نعم، فقال الأوزاعي : قم بنا إلى المقام نلتعن أينا على الحق، قال: فتبسم الثوري لما رأى الأوزاعي قد احتد. إلى هنا كله كلام العراقي في "شرح التقريب"، ونحن نتكلم معه بإنصاف في أكثر ما نقله عن الأئمة فأقول: حديث ابن عمر الذي يحتج به في رفع اليدين في المواطن الثلاث قد وجدت فيه زيادة، رواها البخاري من رواية عبد الأعلى، عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر : "وإذا قام من الركعتين رفع يديه" ويرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال أبو داود: الصحيح قول ابن عمر ليس بمرفوع، ورجح الدارقطني الرفع، فقال: إنه أشبه بالصواب، ويوافقه أيضا قوله في حديث أبي حميد الساعدي في عشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم: "ثم إذا قام من الركعتين كبر ورفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه كما كبر عند افتتاح الصلاة، رواه أبو داود والترمذي وابن حبان في صحيحه وغيرهم، وقال الخطابي: هو حديث صحيح، وقد قال به جماعة من أهل الحديث، ولم يذكره الشافعي، والقول به لازم على أصله في قول الزيادات، ومثله قول ابن خزيمة : فما لزم خصمه من القول بزيادة الرفع عند الركوع والرفع منه، لزمه مثله من القول بزيادة الرفع عند القيام من الركعتين، والحجة واحدة. وقد أشار إلى ذلك ابن دقيق العيد في "شرح العمدة"، وأخرجه البيهقي أيضا من طريق شعبة عن الحكم: رأيت طاوس يكبر، فرفع يديه حذو منكبيه، وعند ركوعه وعند رفع رأسه من الركوع، فسألت رجلا من أصحابه فقال: إنه يحدث [ ص: 55 ] به عن ابن عمر عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، قلت: قال في "الأم": كذا رواه آدم وابن عبد الجبار المروزي عن شعبة، ووهما فيه، والمحفوظ عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الرواية ترجع إلى مجهول، وهو الرجل الذي من أصحاب طاوس حدث الحكم، فإن كانت قد رويت من وجه آخر على هذا الوجه عن عمر، وإلا فالمجهول لا تقوم به حجة، وفي "الخلافيات" للبيهقي: ورواه غندر عن شعبة، ولم يذكر في إسناده عمر، على أنه قد روي عن ابن عمر خلاف ذلك، قال ابن أبي شيبة في "المصنف": حدثنا أبو بكر بن عياش عن حصين عن مجاهد، قال: "ما رأيت ابن عمر يرفع يديه إلا في أول ما يفتتح به الصلاة". وهذا سند صحيح، وقول محمد بن نصر المروزي: وروى المدنيون الرفع عن علي من حديث عبيد الله بن أبي رافع عنه .

قلت: أخرجه البيهقي من طريق عبد الرحمن بن أبي الزناد عن موسى بن عقبة عن عبد الله بن الفضل عن عبد الرحمن الأعرج، عن عبيد الله بن أبي رافع عن علي، وابن أبي الزناد، قال ابن حنبل: مضطرب الحديث، وقال هو وأبو حاتم: لا يحتج به، وقال الغلاس: تركه ابن مهدي، ثم في هذا الحديث أيضا زيادة، وهي الرفع عند القيام من السجدتين، فيلزم أيضا الشافعي أن يقول به على تقدير صحة الحديث، وهو لا يرى ذلك، وقد رواه ابن جريج عن موسى بن عقبة، وليس فيه الرفع عند الركوع والرفع منه، كما أخرجه البيهقي أيضا في "السنن"، ولا نسبة بين ابن جريج وابن أبي الزناد، وأخرجه مسلم من حديث الماجشون عن الأعرج بسنده هذا، وليس فيه أيضا الرفع عند الركوع والرفع منه، وقد روى أبو بكر النهشلي عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن علي أنه كان يرفع يديه في التكبيرة الأولى من الصلاة، ثم لا يرفع في شيء منها.

قال البيهقي : قال الدارمي: فهذا روي من هذا الطريق الواهي، وقد روى الأعرج عن عبيد الله بن أبي رافع عن علي بخلاف ذلك، فليس الظن بعلي أنه يختار فعله على فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن ليس أبو بكر النهشلي ممن يحتج بروايته، أو تثبت به سنة لم يأت بها غيره .

قلت: كيف يكون هذا الطريق واهيا، ورجاله ثقات؟ فقد رواه عن النهشلي جماعة من الثقات: ابن مهدي، وأحمد بن يونس وغيرهما، وأخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" عن وكيع عن النهشلي، والنهشلي أخرج له مسلم والترمذي والنسائي وغيرهم، ووثقه ابن حنبل وابن معين، وقال أبو حاتم: شيخ صالح يكتب حديثه، ذكره ابن أبي حاتم، وقال الذهبي في كتابه: رجل صالح تكلم فيه ابن حبان بلا وجه، وعاصم وأبوه ثقتان، وقال الطحاوي في كتابه "الرد على الكرابيسي": الصحيح مما كان عليه علي بعد النبي صلى الله عليه وسلم ترك الرفع في شيء من الصلاة غير التكبيرة الأولى، فكيف يكون هذا الطريق واهيا؟ بل الذي روي من الطريق الواهي هو ما رواه ابن أبي الزناد عن عبيد الله بن أبي رافع عن علي، كما تقدم الكلام عليه، وقوله: فليس الظن بعلي. . إلخ؛ لخصمه أن يعكسه ويجعل فعله بعد النبي صلى الله عليه وسلم دليلا على نسخ ما تقدم؛ إذ لا يظن به أنه يخالف فعله عليه السلام إلا بعد ثبوت نسخه عنده، وبالجملة ليس هذا نظر المحدث، ولذا قال الطحاوي: وصح عن علي ترك الرفع في غير التكبيرة الأولى، فاستحال أن يفعل ذلك بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا بعد ثبوت نسخ الحديث عنده، وقوله في رد قول ابن بطال حين ذكر فيمن لم يختلف عنه في الرفع عند الإحرام فقط، عمر بن الخطاب: وهو عجيب، إلخ .

فقلت: قال ابن أبي شيبة في "المصنف": حدثنا يحيى بن آدم عن حسن بن عياش عن عبد الملك بن أبجر عن الزبير بن عدي عن إبراهيم عن الأسود قال: صليت مع عمر، فلم يرفع يديه في شيء من صلاته إلا حين افتتح الصلاة، ورأيت الشعبي وإبراهيم، وأبا إسحاق لا يرفعون أيديهم إلا حين يفتتحون الصلاة، وهذا السند صحيح على شرط مسلم، وقال الطحاوي: ثبت ذلك عن عمر. وقوله: وروى البيهقي في سننه عن وكيع قال: صليت في مسجد الكوفة... إلى آخر القصة .

قلت: في سند هذه الحكاية جماعة يحتاج إلى النظر في أمرهم، وقوله عن البيهقي أيضا: اجتمع سفيان الثوري والأوزاعي بمنى... إلى آخر القصة، وفيها: فقال [ ص: 56 ] الثوري: حدثنا يزيد بن أبي زياد.

قلت: يشير بذلك إلى ما حدثه يزيد المذكور عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن البراء رضي الله عنه: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة رفع يديه"، قال سفيان: ثم قدمت الكوفة فسمعته يحدث بهذا وزاد فيه: "ثم لا يعود"، فظننت أنهم لقنوه، قال ابن عدي في "الكامل": رواه هشيم وشريك وجماعة معهما عن يزيد بإسناده، وقالوا فيه: ثم لم يعد، وأخرجه الدارقطني كذلك من رواية إسماعيل بن زكريا عن يزيد، وأخرجه البيهقي في "الخلافيات" من طريق النضر بن شميل عن إسرائيل عن يزيد، ووافق يزيد على روايته عيسى بن أبي ليلى والحكم بن عيينة، كلاهما عن عبد الرحمن بن أبي ليلى.

ومما يحتج به في المقام حديث ابن مسعود الذي رواه الثوري عن عاصم بن كليب عن عبد الرحمن بن الأسود عن علقمة، عن ابن مسعود، وفيه: "فلم يرفع يديه إلا مرة واحدة". وقد اعترضوا عليه من ثلاثة أوجه، أحدها: أن ابن المبارك قال: لم يثبت عندي. الثاني: أن المنذري ذكر قول ابن المبارك، ثم قال: وقال غيره: لم يسمع عبد الرحمن من علقمة. الثالث: قال الحاكم: عاصم لم يخرج حديثه في الصحيح، والجواب عن الثلاثة: أن عدم ثبوته عند ابن المبارك معارض بثبوته عند غيره، فإن ابن حزم صححه في "المحلى"، وحسنه الترمذي وقال: به يقول غير واحد من أهل العلم من الصحابة والتابعين، وهو قول سفيان وأهل الكوفة، وقال الطحاوي: وهذا مما لا اختلاف عن ابن مسعود فيه، وقال صاحب الإمام ما ملخصه: عدم ثبوته عند ابن المبارك لا يمنع من اعتبار حال رجاله، ومداره على عاصم، وهو ثقة، وعبد الرحمن بن الأسود تابعي أخرج له مسلم في مواضع من كتابه، ووثقه ابن معين، وعلقمة لا يسأل عنه لشهرته والاتفاق على الاحتجاج به، وقول المنذري "وقال غيره: لم يسمع عبد الرحمن من علقمة" عجيب، فإنه تعليل بقول رجل مجهول شهد على النفي، مع أن ابن أبي حاتم لم يذكر في كتابه في المراسيل أن روايته عن علقمة مرسلة، ولو كانت كذلك لكان من شرطه ذكرها، وقال في كتاب "الجرح": وروى عن علقمة، ولم يذكر أنه مرسل، وقال ابن حبان في كتاب "الثقات": كان سنه سن إبراهيم النخعي، فما المانع من سماعه عن علقمة مع الاتفاق على سماع النخعي منه؟ وبعد هذا فقد صرح أبو بكر الخطيب في كتاب "المتفق والمفترق" أنه سمع من علقمة، وقول الحاكم "عاصم لم يخرج حديثه في الصحيح" إن أراد هذا الحديث فليس ذلك بعلة، إذ لو كان علة لفسد عليه كتابه "المستدرك"، وإن أراد لم يخرج له حديث في الصحيح فذاك أولا: ليس بعلة أيضا، إذ ليس شرط الصحيحين التخريج عن كل عدل، وقد أخرج هو في "المستدرك" عن جماعة لم يخرج لهم في الصحيح، وثانيا: ليس الأمر كذلك، فقد خرج له مسلم في غير موضع، والحاصل أن رجال هذا الحديث على شرط مسلم .

وقد روى أيضا محمد بن جابر عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم، عن علقمة، عن ابن مسعود : "صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فلم يرفعوا أيديهم إلا عند افتتاح الصلاة". وقد حكى البيهقي عن الدارقطني أنه قال: تفرد به محمد بن جابر، وكان ضعيفا، وغير حماد يرويه عن إبراهيم مرسلا عن عبد الله من فعله غير مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الصواب .

قلت: ذكر ابن عدي أن إسحاق -يعني ابن أبي إسرائيل- كان يفضل محمد بن جابر على جماعة شيوخ هم أفضل منه وأوثق، وقد روى عنه من الكبار، مثل: أيوب وابن عون وهشام بن حسام، والسفيانين وشعبة وغيرهم، ولولا أنه في ذلك المحل لم يرو عنه مثل هؤلاء الذين هو دونهم. وقال الغلاس: صدوق، وأدخله ابن حبان في الثقات. وحماد بن أبي سليمان روى له الجماعة إلا البخاري، ووثقه يحيى القطان والعجلي، وقال شعبة: كان صدوق اللسان، وإذا تعارض الوصل مع الإرسال، والرفع مع الوقف فالحكم عند أكثرهم للواصل والرافع؛ لأنهما زادا، وزيادة الثقة مقبولة، ومن هنا تعلم أن ما رواه الزعفراني عن الشافعي من أنه لا يثبت الرفع عن علي وابن مسعود .. إلخ، فيه نظر، والمثبت مقدم على النافي، وقال ابن أبي شيبة في "المصنف": حدثنا وكيع عن مسعر عن أبي معشر -أظنه [ ص: 57 ] زياد بن كليب التميمي- عن إبراهيم عن عبد الله أنه كان يرفع يديه في أول ما يفتتح، ثم لا يرفعهما، وهذا سند صحيح، وقال أيضا: حدثنا وكيع وأبو أسامة عن شعبة عن أبي إسحاق قال: كان أصحاب عبد الله وأصحاب علي لا يرفعون أيديهم إلا في افتتاح الصلاة، قال وكيع: ثم لا يعودون، وهذا أيضا سند صحيح جليل، ففي اتفاق أصحابهما على ذلك ما يدل على أن مذهبهما كان كذلك، وبه تعلم أن قول من نسب ابن مسعود إلى النسيان في رفع اليدين دعوى لا دليل عليها، ولا طريق إلى معرفة أن ابن مسعود علم ذلك ثم نسيه، والأدب في مثل هذا الذي نسبه فيه إلى النسيان أن يقال لم يبلغه، وكذا قولهم قد صح رفع اليدين عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عن الخلفاء الراشدين ثم عن الصحابة والتابعين مناقش فيه، فقد صح عن أبي بكر وعمر وعلي خلاف ذلك كما تقدمت الإشارة إليه، والذي روي في الرفع عن عمر في سنده مقال، ولم أجد أحدا ذكر عثمان في جملة من كان يرفع يديه في الركوع والرفع منه، ثم في الصحابة من قصر الرفع على تكبيرة الافتتاح كما تقدم ذكرهم، وكذا جماعة من التابعين منهم الأسود وعلقمة وإبراهيم وخيثمة وقيس بن أبي حازم والشعبي، وأبو إسحاق وغيرهم، روى ذلك كله ابن أبي شيبة في "المصنف" بأسانيد جياد، وروى ذلك أيضا عن أصحاب علي وابن مسعود بسند صحيح وناهيك بهم، وقد ذكر ذلك، ثم إن الحكاية التي ساقها في اجتماع الثوري مع الأوزاعي بمنى،

وما قاله الأوزاعي أخرجها البيهقي من طريق محمد بن سعيد الطبري: حدثنا سليمان بن داود الشاذكوني، سمعت سفيان بن عيينة يقول: فساقها .

قلت: محمد بن سعيد هذا لا يدرى من هو، والشاذكوني قال الرازي ليس بشيء، متروك الحديث، وقال البخاري : هذا عندي أضعف من كل ضعيف، وقال ابن معين: ليس بشيء، وقال مرة: كان يكذب، ويضع الحديث، وقد أخرج هذه القصة الحافظ أبو محمد الحارثي في مسند الإمام على غير الوجه الذي ذكره البيهقي؛ حيث روى عن الشاذكوني عن سفيان بن عيينة أنه اجتمع أبو حنيفة والأوزاعي في دار الحناطين بمكة، فقال الأوزاعي لأبي حنيفة : ما بالكم لا ترفعون أيديكم في الصلاة عند الركوع وعند الرفع منه؟ فقال أبو حنيفة : لأجل أنه لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه شيء، فقال الأوزاعي : كيف لم يصح، وقد حدثني الزهري، عن سالم عن أبيه أنه صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة، وعند الركوع وعند الرفع منه، فقال أبو حنيفة : حدثنا حماد عن إبراهيم عن علقمة والأسود عن ابن مسعود "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يرفع يديه إلا عند افتتاح الصلاة، ثم لا يعود لشيء من ذلك". فقال الأوزاعي : أحدثك عن الزهري عن سالم عن أبيه، وتقول: حدثني حماد عن إبراهيم؟ فقال: أبو حنيفة : كان حماد أفقه من الزهري، وكان إبراهيم أفقه من سالم، وعلقمة ليس بدون ابن عمر في الفقه، وإن كانت لابن عمر صحبة، وله فضل صحبة، فالأسود له فضل كبير، وعبد الله عبد الله، فسكت الأوزاعي اهـ .

فرجح الإمام بفقه الراوي كما رجح الأوزاعي بعلو الإسناد، وهو المذهب المنصور، والله أعلم .



(تنبيه) :

الذي دل عليه حديث الباب فعل الرفع في المواطن الثلاثة، ولا دلالة فيه على وجوب ذلك، ولا استحبابه، فإن الفعل محتمل لهما، والأكثرون على الاستحباب، وقال ابن عبد البر: كل من رأى الرفع وعمل به من العلماء لا يبطل صلاة من لم يرفع، إلا الحميدي وبعض أصحاب داود، ورواية عن الأوزاعي قال: وهو شذوذ عن الجمهور وخطأ لا يلتفت إليه، وبعضهم لا يستحب الرفع عند تكبيرة الإحرام، وهو رواية عن مالك حكاها عنه ابن شعبان وابن خويز منداد، وابن القصار، لكنها رواية شاذة لا معول عليها، والله أعلم .



(تنبيه) :

آخر: قال أصحابنا: لا ترفع الأيدي إلا في سبعة مواضع يجمعها قولك: فقعس صمعج، فالفاء لافتتاح الصلاة، والقاف للقنوت في الوتر، والعين لزوائد التكبيرات في العيدين، وعند معاينة الكعبة، فإنه يسن رفعهما مبسوطتين نحو السماء، والسين لاستلام الحجر الأسود، والصاد للصفا حين يقوم عليه، والميم للمروة حين يقوم عليه، والعين لعرفة حين يقف بها، وكذا المزدلفة، والجيم للجمرة الأولى والوسطى [ ص: 58 ] بعد رميهما، لما أخرج الطبراني من حديث ابن عباس رفعه: "لا ترفع الأيدي إلا في سبعة مواطن: حين يفتتح الصلاة، وحين يدخل المسجد الحرام، فينظر البيت، وحين يقوم على الصفا، وحين يقوم على المروة، وحين يقوم مع الناس عشية عرفة، وبجمع، والمقامين حين يرى الجمرة، وقد رواه الحاكم والبيهقي بغير أداة حصر بعدد، فيكون قرينة على عدم إرادته، فيجوز أن يزاد عليه غيره بدليل .



(تنبيه آخر)

قال ابن الهمام: اعلم أن الآثار عن الصحابة، والطرق عنه صلى الله عليه وسلم كثيرة جدا، والكلام فيها واسع، والقدر المتحقق بعد ذلك كله ثبوت رواية كل من الأمرين عنه: الرفع عند الركوع وعدمه، فيحتاج إلى الترجيح لقيام المعارض، ويترجح ما صرنا إليه بأنه قد علم أنه كانت أقوال مباحة في الصلاة، وأفعال من جنس هذا الرفع، وقد علم نسخها، فلا يبعد أن يكون هو أيضا مشمولا بالنسخ، خصوصا ما يعارضه ثبوتا لا مرد له بخلاف عدمه، فإنه لا يتطرق إليه عدم احتمال الشرعية اهـ .

وفي هذا إشارة إلى الرد على من ذهب من بعض العلماء من المتأخرين من بطلان الصلاة بالرفع عند الركوع، ومما يرده لزوما اتفاق الأئمة على رفع الأيدي في تكبيرات الزوائد، إذ لو كان الرفع مبطلا للصلاة لأبطل صلاة العيدين؛ لأنه لا وجه لتخصيص إبطاله ما سوى العيدين، لكنه مكروه، والله أعلم .



(تنبيه) : آخر

قول المصنف: "وأن يرفع يديه مع تكبيرة الركوع" هكذا هو في "القوت" وغيره، وفي "المنهاج": "ويكبر في ابتداء هويه للركوع، ويرفع يديه كإحرامه"، قال شارحه: قضية كلامه أن الرفع هنا كالرفع للإحرام، وأن الهوي مقارن للرفع، والأول ظاهر، والثاني ممنوع، فقد قال في "المجموع": قال أصحابنا: ويبتدئ التكبير قائما ويرفع يديه، ويكون ابتداء رفعه وهو قائم مع ابتداء التكبير، فإذا حاذى كفاه منكبيه انحنى، وفي "البيان" وغيره نحوه، قال في "المهمات": وهذا هو الصواب، وقال في "الإقليد": لأن الرفع حال الانحناء متعذر أو متعسر، والله أعلم، ثم نعود إلى حل ألفاظ الكتاب .

قال الرافعي : ويبتدئ به في أثناء الهوي، وهل يمده؟ فيه قولان؛ القديم، وبه قال أبو حنيفة : لا يمده، بل يحذف؛ لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "التكبير جزم"، أي: لا يمد، ولأنه لو حاول المد لم يأمن أن يجعل المد على غير موضعه، فيتغير المعنى، مثل أن يجعله على الهمزة فيصير استفهاما. والجديد: نعم، وإليه أشار المصنف بقوله:




الخدمات العلمية