الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ونحن الآن نذكر من أحوال فقهاء الإسلام ما تعلم به أن ما ذكرناه ليس طعنا فيهم بل هو طعن فيمن أظهر الاقتداء بهم منتحلا مذاهبهم وهو مخالف لهم في أعمالهم وسيرهم فالفقهاء الذين هم زعماء الفقه وقادة الخلق أعني الذين كثر أتباعهم في المذاهب خمسة الشافعي ، ومالك ، وأحمد بن حنبل وأبو حنيفة ، وسفيان الثوري رحمهم الله تعالى .

وكل واحد منهم كان عابدا وزاهدا وعالما بعلوم الآخرة وفقيها في مصالح الخلق في الدنيا ومريدا بفقهه وجه الله تعالى فهذه خمس خصال اتبعهم فقهاء العصر من جملتها على خصلة واحدة وهي التشمير والمبالغة في تفاريع الفقه لأن الخصال الأربع لا تصلح إلا للآخرة وهذه الخصلة الواحدة تصلح للدنيا والآخرة إن أريد بها الآخرة قل صلاحها . للدنيا شمروا لها وادعوا بها مشابهة أولئك الأئمة وهيهات أن تقاس الملائكة بالحدادين فلنورد الآن من أحوالهم ما يدل على هذه الخصال الأربع فإن معرفتهم بالفقه ظاهرة .

أما الإمام الشافعي رحمه الله فيدل على أنه كان عابدا ما روي أنه كان يقسم الليل ثلاثة أجزاء : ثلثا للعلم وثلثا للعبادة وثلثا للنوم قال الربيع كان الشافعي رحمه الله يختم القرآن في رمضان ستين مرة كل ذلك في الصلاة وكان البويطي أحد أصحابه يختم القرآن في رمضان في كل يوم مرة وقال الحسن الكرابيسي بت مع الشافعي غير ليلة فكان يصلي نحوا من ثلث الليل فما رأيته يزيد على خمسين آية فإذا أكثر فمائة آية وكان لا يمر بآية رحمة إلا سأل الله لنفسه ولجميع المسلمين والمؤمنين ولا يمر بآية عذاب إلا تعوذ فيها وسأل النجاة لنفسه وللمؤمنين وكأنما جمع له الرجاء والخوف معا فانظر كيف يدل اقتصاره على خمسين آية على تبحره في أسرار القرآن وتدبره فيها وقال الشافعي رحمه الله ما شبعت منذ ست عشرة سنة لأن الشبع يثقل البدن ويقسي القلب ويزيل الفطنة ويجلب النوم ويضعف صاحبه عن العبادة فانظر إلى حكمته في ذكر آفات الشبع ثم في جده في العبادة إذ طرح الشبع لأجلها ورأس التعبد تقليل الطعام وقال الشافعي رحمه الله ما حلفت بالله تعالى لا صادقا ولا كاذبا قط فانظر إلى حرمته وتوقيره لله تعالى ودلالة ذلك على علمه بجلال الله سبحانه .

وسئل الشافعي رضي الله عنه عن مسألة فسكت فقيل له ألا تجيب رحمك الله فقال : حتى أدري الفضل في سكوتي أو في جوابي فانظر في مراقبته للسانه مع أنه أشد الأعضاء تسلطا على الفقهاء وأعصاها على الضبط والقهر وبه يستبين أنه كان لا يتكلم ولا يسكت لا لنيل الفضل وطلب الثواب .

وقال أحمد بن يحيى بن الوزير خرج الشافعي رحمه الله تعالى يوما من سوق القناديل فتبعناه فإذا رجل يسفه على رجل من أهل العلم فالتفت الشافعي إلينا وقال نزهوا أسماعكم عن استماع الخنا كما تنزهون ألسنتكم عن النطق به ، فإن المستمع شريك القائل وإن السفيه لينظر إلى أخبث شيء في إنائه فيحرص أن يفرغه في أوعيتكم ولو ردت كلمة السفيه لسعد رادها كما شقي بها قائلها .

وقال الشافعي رضي الله عنه كتب حكيم إلى حكيم قد أوتيت علما فلا تدنس علمك بظلمة الذنوب فتبقى في الظلمة يوم يسعى أهل العلم بنور علمهم .

وأما زهده رضي الله عنه فقد قال الشافعي رحمه الله : من ادعى أنه جمع بين حب الدنيا وحب خالقها في قلبه فقد كذب .

وقال الحميدي خرج الشافعي رحمه الله إلى اليمن مع بعض الولاة فانصرف إلى مكة بعشرة آلاف درهم فضرب له خباء ، في موضع خارجا من مكة فكان الناس يأتونه فما برح من موضعه ذلك حتى فرقها كلها وخرج من الحمام مرة فأعطى الحمامي مالا كثيرا وسقط سوطه من يده مرة فرفعه ، إنسان إليه فأعطاه جزاء عليه خمسين دينارا .

التالي السابق


(ونحن الآن نورد من أحوال فقهاء الإسلام) المشهورين بتقليد مذاهبهم (ما يعلم به أن ما ذكرناه ليس طعنا فيهم) ولا ازدراء بشأنهم (بل هو طعن فيمن أظهر الاقتداء بمذاهبهم) والاتباع لأقوالهم (منتحلا) أي منتسبا (مذهبهم وهو) مع ذلك مخالف (لهم في عملهم وسيرتهم) أي: طريقتهم (فالفقهاء) السادة (الذين هم زعماء الفقه) أي رؤساؤه (وقادة الخلق) بهم يقتدون (أعني الذين كثر أتباعهم) ومقلدوهم (في المذاهب خمسة) المشهور منهم (الآن) أربعة لا غير (الشافعي، ومالك، وأبو حنيفة، وأحمد بن حنبل، وسفيان الثوري رحمهم الله تعالى) وكان مذهب سفيان باقيا إلى القرن الخامس، وكان من ينتحله موجودا إلى زمان المصنف، وكان من مشاهير من كان على مذهبه أبو عبد الله الحسين بن محمد بن الحسين الدينوري، وأبو محمد عبد الرحمن بن محمد بن الحسين الدوي، الثوريان، الأخير راوي سنن النسائي عن أبي نصر الكسار، توفي سنة إحدى وخمسمائة، وأما الآن فلم يبق من تقيد مذهبه أو يعتزي إليه (وكل واحد منهم كان) متصفا بهذه الأوصاف الخمسة كان (عابدا) أي عاملا بعلمه (وزاهدا) في الدنيا (وعالما بعلوم الآخرة وفقيها في مصالح الخلق في الدنيا ومريدا بفقهه وجه الله تعالى فهذه خمس خصال) وهي العبادة والزهد والعلم الأخروي والعلم الدنيوي وحسن النية في الأخير (اتبعهم فقهاء الفرق على كثرتهم من جملتها) أي: من جملة تلك الخصال الخمس (على خصلة واحدة وهي التشمير) بذل الجهد (والمبالغة في) حفظ (تفاريع الفقه) بأنواعها (لأن الخصال الأربعة) وهي العبادة والزهد والعلم الأخروي وحسن النية (لا تصلح إلا للآخرة وهذه الخصلة الواحدة تصلح للدنيا والآخرة وإن أريد بها الآخرة) إذ الأعمال بالنية (قل صلاحها) ولياقتها (بالدنيا) ومتاعها (تشمروا لها) واجتهدوا في تحصيلها (وادعوا بها مشابهة أولئك الأئمة) في سائر أحوالهم (وهيهات) أي: بعيد ذلك (فلا يقاس الملائكة) وفي بعض النسخ: الملوك (بالحدادين) وشتان ما بينهما لبعد ما بين المنزلتين (فلنورد من أحوالهم) وأخبارهم (ما يدل على هذه الخصال الأربعة) المذكورة (فإن معرفتهم بالفقه) الظاهر (ظاهرة) فلا يحتاج إلى إيراد أدلة لذلك (أما الشافعي رضي الله عنه) هو الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن [ ص: 192 ] المطلب بن عبد مناف بن قصي يجتمع مع رسول الله -صلى الله عليه- في عبد مناف وجده شافع الذي ينسب إليه له رؤية للنبي -صلى الله عليه وسلم- ذكره جماعة من الصحابة، وأبوه السائب أسر يوم بدر ففدى نفسه، ثم أسلم، وكان يشبه النبي -صلى الله عليه وسلم- وأما عثمان ولد شافع فعاش إلى خلافة السفاح، وأما أم الإمام الشافعي فالصحيح أنها أزدية، وقيل: هاشمية، واسمها فاطمة بنت عبد الله بن الحسن بن الحسن، ولم يثبت هذا، ولد بغزة سنة خمسين ومائة، وحمل إلى مكة وهو ابن سنتين، وقيل: بعسقلان والجمع بينهما ممكن، وقال ابن طيش الذي عليه مجموع الروايات أنه ولد بغزة، ثم حمل منها إلى عسقلان، ثم إلى مكة فنشأ بها، وروى ابن أبي حاتم أنه ولد باليمن، قال الذهبي: وهو خطأ ولعله أراد بالولادة النشأة، وأما شيوخه الذين حمل عنهم العلم بالحرمين واليمن والعراق ومصر فكثيرون، أوردهم الحافظ ابن حجر في توالي التأنيس، والقطب الخيضري في الألمعية، وكذا من أخذ عنه فيهم كثرة أوردهم التاج السبكي في طبقاته الكبرى، والخيضري، وابن كثير وغيرهم، وقال الربيع أقام الشافعي بمصر أربع سنين فأملى ألفا وخمسمائة ورقة وخرج كتاب الأم ألفي ورقة وكتاب السنن وأشياء كثيرة كلها في مدة أربع سنين وتوفي سنة أربع ومائتين - رضي الله عنه- قلت: وأما المسند المنسوب إليه فمن تخريجأبي عمرو محمد بن جعفر بن مطر النيسابوري الأصم عن الربيع، عنه، والسنن المنسوب إليه، فمن تخريج الحافظ أبي جعفر الطحاوي عن خاله المزني عنه، وكل منهما من مسموعاتنا بحمد الله تعالى، ومن مصنفات الإمام: الرسالة الكبيرة في أصول الفقه، قال أبو ثور: كتب عبد الرحمن بن مهدي إلى الشافعي وهو شاب أن يضع له كتابا فيه معاني القرآن ويجمع قبول الأخبار فيه، وحجة الإجماع وبيان الناسخ والمنسوخ من القرآن والسنة فوضع له كتاب الرسالة (فيدل على كونه عابدا) وهي الخصلة الأولى من الخصال الأربعة (ما روي أنه كان) كثير الصلاة بالليل (يقسم الليل ثلاثة أجزاء: ثلثا للعلم وثلثا للصلاة وثلثا للنوم) رواه البيهقي عن الحاكم، حدثني أبو بكر محمد بن محمد البغدادي، حدثنا أبو الحسن علي بن قرير عن الربيع، فذكره بلفظ: كان قد قسم الليل ثلاثة أجزاء: فثلثه الأول للاشتغال، والثاني للصلاة والثالث ينامه ليقوم إلى صلاة الفجر نشيطا .

(وقال الربيع) ابن سليمان بن عبد الجبار بن كامل المرادي مولاهم أبو محمد المؤذن صاحب الشافعي، وراوية كتبه ولد سنة 174، واتصل بخدمة الشافعي، وحمل عنه الكثير، وحدث عنه به، وروى عنه أبو داود والنسائي وابن ماجه وأبو زرعة الرازي وأبو حاتم وابنه وزكريا الساجي وأبو جعفر الطحاوي، وأبو بكر بن زياد النيسابوري، وأبو العباس الأصم، وآخرون، وآخرهم أبو الفوارس المسندي.

وروى عنه الترمذي بالإجازة، وكان مؤذنا بجامع مصر، وكان الشافعي يحبه كثيرا، ويميل إليه، قال الخليلي في الإرشاد: ثقة متفق عليه، توفي يوم الاثنين لإحدى وعشرين ليلة خلت من شوال سنة 220 قال: (كان الشافعي يختم القرآن في كل شهر رمضان ستين مرة كل ذلك في الصلاة) روى ذلك ابن أبي حاتم، حدثنا الربيع بن سليمان المرادي المصري، قال: كان الشافعي يختم القرآن في رمضان ستين مرة، كل ذلك في صلاة .

وروى الخطيب البغدادي عن علي بن الحسن القاضي عن أبي بكر محمد بن إسحاق بن إبراهيم الصفار، عن عبد الله بن محمد بن جعفر القزويني، عن الربيع، قال: كان الشافعي كثير التلاوة للقرآن ولا سيما في شهر رمضان، كان يقرأ في اليوم والليلة ختمتين وفيما عداه في كل يوم وليلة ختمة، وقال البيهقي: أخبرنا عبد الرحمن السلمي، سمعت علي بن عمر الحافظ، سمعت أبا بكر النيسابوري، سمعت الربيع، قال: كان الشافعي يختم في كل شهر ثلاثين ختمة، وفي رمضان ستين ختمة سوى ما يقرأ في الصلاة (وكان) أبو يعقوب يوسف بن يحيى (البويطي) المصري (أحد أصحابه) المصريين منسوب إلى بويط كزبير قرية بصعيد مصر، كان إماما جليلا عابدا زاهدا، متهجدا تاليا سريع الدمعة، روى عنه وعن عبد الله بن وهب، وعنه الربيع المرادي، وهو رفيقه، وإبراهيم الحربي ومحمد بن إسماعيل الترمذي وأبو حاتم، وقال صدوق، مات [ ص: 193 ] سنة 231 في سجن بغداد، في القيد (يختم القرآن في كل يوم مرة) تبعا لأستاذه وقد نقل في مناقب البويطي، أنه كان كثير التلاوة للقرآن لا يمر به يوم ولا ليلة غالبا، حتى يختم مع اشتغاله بالفتوى، ثم إن للسلف عادات مختلفة في القدر الذي يختمون فيه أنهم في كل شهر ختمة وآخرون في كل جمعة وآخرون في كل يوم وليلة وآخرون في كل ركعة، أورد ذلك النووي في الأذكار، وسيأتي ما يتعلق بذلك في آداب تلاوة القرآن من هذا الكتاب (وقال) أبو علي (الحسين بن علي بن يزيد) الكرابيسي كان إماما جليلا تفقه أولا على مذهب أهل الرأي ثم للشافعي ولازمه واختص به وسمع منه الحديث، ومن غيره وله مصنفات إلا أن أحمد بن حنبل، كان يتكلم فيه بسبب مسألة اللفظ وهو أيضا كان يتكلم في أحمد فتجنب الناس الأخذ عنه لهذا السبب مات سنة 245 قال: (بت عند) وفي بعض النسخ: مع (الشافعي غير ليلة) وثبت في بعض الروايات التصريح بثمانين ليلة (فكان يصلي نحوا من ثلث الليل) وفي رواية نحو ثلث الليل (فما رأيته) وفي رواية: وما رأيته (يزيد على خمسين آية) أي: من القرآن في الصلاة (فإذا أكثر فمائة) آية (فكان لا يمر بآية رحمة إلا سأل الله لنفسه ولجميع المؤمنين) وفي رواية وللمؤمنين أجمعين (ولا) يمر (بآية عذاب إلا تعوذ بالله منه) أي: من العذاب، وفي غالب النسخ منها (وسأل النجاة لنفسه وللمؤمنين) أجمعين وفي بعض النسخ ولجميع المؤمنين (فكأنه جمع له الرجاء والرهبة) رواه زكريا الزاجي في مناقب الشافعي حدثني محمد بن إسماعيل، حدثنا حسين بن علي الكرابيسي، قال: بت مع الشافعي، فكان يصلي فذكره، وقال الحافظ ابن كثير بعد إيراده قول الكرابيسي، ما نصه: هكذا يكون تمام العبادة أن يجمع الرغبة والرهبة، كما صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه كان إذا مر بآية رحمة وقف، فسأل، وإذا مر بآية عذاب وقف وتعوذ، وقال تعالى: أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه . اهـ .

(فانظر كيف يدل اقتصاره على خمسين آية) خاصة (على تبحره) وسعته (في معرفة أسرار القرآن وتدبره فيها) أي في معانيها (وقال الشافعي) فيما رواه ابن أبي حاتم، حدثنا الربيع، قال: قال الشافعي -رضي الله عنه- (ما شبعت منذ ست عشرة سنة) إلا شبعة أطرحها يعني فطرحتها (لأن الشبع يثقل البدن) أي لامتلاء العروق بالطعام والشراب (ويقسي القلب) أي يغلظه (ويزيل الفطنة) ومنه قول الحكماء البطنة تذهب الفطنة (ويجلب النوم) أي لارتخاء العروق (ويضعف صاحبه عن العبادة) قال المصنف (فانظر إلى حكمته في ذكر آفات الشبع) الخمسة (ثم في جده) وتشمره (للعبادة إذ طرح الشبع لأجله و) قد قالوا (رأس التعبد) وملاكه (تقليل الطعام) وإفراغ الجوف منه (وقال الشافعي) فيما رواه عنه حرملة بن يحيى (ما حلفت بالله تعالى لا صادقا ولا كاذبا قط) رواه هكذا الزبير بن عبد الواحد الأسدأباذي سمعت إبراهيم بن الحسن الصوفي يقول: سمعت حرملة يقول: سمعت الشافعي يقول: فذكره إلا أنه ليس فيه قط، ورواه الربيع أيضا عنه فزاد بعد قوله: ولا كاذبا جادا ولا هازلا .

ويروى عن الربيع عنه قال: ما كذبت قط ولا حلفت بالله لا صادقا ولا كاذبا، ولا تركت غسل الجمعة في حر ولا برد ولا سفر ولا غيره .

(فانظر إلى حرمته وتوقيره) أي: تعظيمه (لله تعالى) حيث لم يحلف به قط (ودلالة ذلك على علمه بجلال الله) وعظمته (وسئل الشافعي) يوما ( عن مسألة فسكت) ولم يجب (فقيل له ألا تجيب رحمك الله فقال: حتى أدري الفضل في سكوتي أو في الجواب) وهكذا كان شأن الأئمة يسكتون عن جملة من المسائل، ويكلون علمها إلى الله تعالى (فانظر إلى مراقبته) أي: محافظته (للسانه) بعدم النطق (مع أنه) أي: اللسان (أشد الأعضاء تسلطا على الفقهاء وأعصاها على الضبط والقهر) ومنه ما ورد في الحديث وهل يكب الناس على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم، وفي الأحاديث التي لا طرق لها: من حفظ ما بين لقلقه وذبذبه دخل الجنة .

(وبه تستبين أنه كان لا يتكلم ولا يسكت إلا لنيل الفضل وطلب الثواب) من الله تعالى (وقال) أبو عبد الله (أحمد بن سبط) يحيى بن (الوزير) بن سليمان بن المهاجر السجيني المصري الحافظ النحوي [ ص: 194 ] مولاهم أحد الأئمة، روى عن عبد الله بن وهب، وشعيب بن الليث، وأصبغ بن الفرج، وعنه النسائي، وقال: ثقة، وأبو بكر بن أبي داود ولد سنة 171 وصحب الشافعي وتفقه له، مات في سجن أحمد بن محمد بن المدير، لست خلون من شوال سنة 351 (خرج الشافعي يوما من سوق القناديل) وكان بالقرب من جامع عمرو بمصر تباع فيه القناديل وبإحدى أزقته، ولد ابن الجواني النسابة وقد اندثر رسمه الآن (فتبعناه فإذا رجل يسفه على رجل من أهل العلم) أي يشتمه (فالتفت الشافعي إلينا فقال نزهوا أسماعكم عن استماع الخنى) أي: الفحش من الكلام (كما تنزهون ألسنتكم عن النطق به، فإن المستمع شريك القائل وإن السفيه لينظر إلى أخبث شيء في وعائه) أي في قلبه (فيحرص أن يفرغه في أوعيتكم) أي في قلوبكم (ولو ردت كلمة السفيه لسعد رادها كما يشقى قائلها بها) وإلى هذا نظر ابن المنير فقال: وأجاد :

الأذن كالوردة مفتوحة فلا تمرن عليها الخنى فإنه أنتن من جيفة
فاحرص على الوردة أن تنتنا

(وقال الشافعي كتب حكيم إلى حكيم) يا هذا (قد أوتيت علما) بالله تعالى (فلا تدنس عملك بظلمة الذنوب) لأن معاصي الله تعالى لها ظلمات فلا يستقر النور مع تلك الظلمات لكونهما ضدين (فتبقى في الظلمة يوم يسعى أهل العلم بنور علمهم) وذلك يوم العرض بين يدي الله تعالى فيفوز المقربون بأنصبائهم، ونور علمهم يدلهم إلى طريق الجنة، وأهل الذنوب يحتارون في ذنوبهم، فلا يهتدون سبيلا وأورده الدينوري في المجالسة فقال: حدثنا محمد بن عبد العزيز قال: سمعت أبي يقول: سمعت ابن السماك يقول: كتب رجل إلى أخ: له يا أخي، إنك قد أوتيت علما فلا تطفئ نور علمك بظلمة الذنوب، فتبقى في الظلمة يوم يسعى أهل العلم بنور علمهم. اهـ. فهذا الذي ذكره متعلق بعبادته رضي الله عنه. (وأما زهده) وهي الخصلة الثانية من الخصال الأربع (فقد قال الشافعي: من ادعى أنه جمع بين حب الدنيا وبين خالقها في قلبه فقد كذب) أي: لأنهما ضدان لا يجتمعان إذا نزل أحدهما بالقلب ارتحل الآخر عنه (وقال) أبو بكر عبد الله بن الزبير بن عيسى القرشي الأسدي (الحميدي) المكي منسوب إلى جده حميد بن زهير بن الحارث بن أسد، روى عن الشافعي وتفقه عليه، وذهب معه إلى مصر وعن سفيان بن عيينة والداروردي وفضيل بن عياض ووكيع وعنه البخاري ومحمد بن يحيى الذهلي وأبو زرعة وأبو حاتم الرازيان توفي بمكة في سنة 319 .

(خرج الشافعي إلى اليمن مع بعض الولاة) تقدم أنه نشأ باليمن وولي نجران وبها بنو الحارث، وموالي ثقيف فشكوه إلى الخليفة فطلبه، فدخل بغداد لأجل هذه الشكاية، واجتمع حينئذ بمحمد بن الحسن ثم رجع إلى اليمن (وانصرف إلى مكة بعشرة آلاف درهم فضرب خباءه، في موضع خارج من مكة فكان الناس يأتونه فما برح من موضعه حتى فرقها كلها) وقد اختلف في قول الحميدي، هذا فقال ابن عساكر، أخبرنا أبو الحسن القرظي، حدثنا أبو نصر الخطيب، حدثنا أبو بكر بن الحديد، أخبرنا محمد بن بشر البكري، سمعت الربيع يقول: سمعت الحميدي يقول: قدم علينا الشافعي من صنعاء فضربت له الخيمة، معه عشرة آلاف دينار فجاء قوم وسألوه، فما قلعت الخيمة ومعه منها شيء، ثم روى من طريق أبي جعفر الترمذي عن الربيع، عن الحميدي قال: قدم الشافعي بثلاثة آلاف دينار فدخل عليه بنو عمه وغيرهم فجعل يعطيهم حتى قام وليس معه شيء، وقال البيهقي: أخبرنا الحاكم، سمعت أبا العباس محمد بن يعقوب الأصم، سمعت الربيع بن سليمان يقول: سمعت الحميدي يقول: قدم الشافعي من صنعاء إلى مكة بعشرة آلاف دينار في منديل فضرب خباءه في موضع خارجا عن مكة، وكان الناس يأتونه فيه فما برحت حتى ذهبت كلها، قال البيهقي، وقال غيره عن الربيع في هذه الحكاية وفرق المال كله في قريش ثم دخل مكة، قلت: وروى ابن خزيمة عن الربيع بمثل رواية البيهقي الأولى، وفيه معه عشرون ألف دينار، وفيه وأقام حتى فرقها، وقال الزبير بن عبد الواحد الأسدأباذي، وأخبرني أبو محمد البستي السجستاني فيما كتب إلي قال: حدثني أبو ثور قال: أراد الشافعي أن يخرج إلى مكة [ ص: 195 ] ومعه مال فقلت له وقلما كان يمسك الشيء من سماحته ينبغي أن تشتري بهذا المال ضيعة تكون لك ولولدك من بعدك فخرج ثم قدم علينا فسألته عن ذلك المال، ما فعل به فقال: ما وجدت بمكة ضيعة يمكنني أن أشتريها لمعرفتي بأصلها، أكثرها قد وقفت، ولكن قد بنيت بمنى مضربا يكون لأصحابنا إذا حجوا ينزلون فيه، ورواه أبو عبد الله محمد بن أحمد غنجال الحافظ البخاري، حدثنا خلف بن محمد، حدثنا إبراهيم بن محمود بن حمزة، حدثني داود بن علي بن خلف، حدثني إبراهيم بن خالد الكلبي، يعني أبا ثور الشافعي بهذا وزاد بعد قوله: ينزلون فيه، قال: فكأني اهتممت فأنشد الشافعي قول ابن أبي حازم

إذا أصبحت عندي قوت يوم فخل الهم عني يا سعيد
ولم تخطر هموم غد ببالي لأن غدا له رزق جديد
أسلم إن أراد الله أمرا وأترك ما أريد لما يريد
وما لإرادتي وجه إذا ما أراد الله لي ما لا أريد

(وخرج من الحمام مرة فأعطى الحمامي مالا كثيرا) قال ابن أبي حاتم، حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم، حدثنا محمد بن روح، حدثنا الزبير بن سليمان القرشي عن الشافعي، قال خرج هرثمة فأقرأني سلام أمير المؤمنين هارون، وقال قد أمر لك بخمسة آلاف دينار، قال: فحمل إليه المال فدعا الحجام فأخذ من شعره، فأعطاه خمسين دينارا، ثم أخذ رقاعا فصر من تلك الدنانير صررا ففرقها في القرشيين الذين هم في الحضرة، ومن هم بمكة حتى ما رجع إلى بيته إلا بأقل من مائة دينار، وقال ابن عساكر: قرأت بخط أبي الحسين الرازي عن الزبير بن عبد الواحد الأسدأباذي، حدثني أحمد بن مروان، حدثنا عبد الرحمن بن محمد الحنفي، قال سمعت أبي يقول: قال خرجنا من بغداد مع الشافعي نريد مصر فدخلنا حران، وكان قد طال شعره، فدعا حجاما فأخذ من شعره فوهب له خمسين دينارا (وسقط سوطه من يده، فدفعه له إنسان فأعطى جزاء عليه خمسين دينارا) قال البيهقي: أخبرنا الحاكم، أخبرنا نصر بن محمد، حدثنا أبو علي الحسن بن حبيب بن عبد الملك بدمشق، قال سمعت الربيع بن سليمان يقول: رأيت الشافعي راكب حمار فمر على سوق الحدادين فسقط سوطه من يده فوثب غلام من الحدادين فأخذ السوط، ومسحه بكمه وناوله فقال الشافعي لغلامه ادفع تلك الدنانير التي معك إلى هذا الفتى، قال الربيع: قلت: لا أدري كانت تسعة دنانير أو سبعة دنانير .




الخدمات العلمية