الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والجلوس للتشهد الأخير والتشهد الأخير والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والسلام الأول .

فأما نية الخروج فلا تجب وما عدا هذا فليس بواجب بل هي سنن وهيئات فيها وفي الفرائض .

التالي السابق


(و) التاسع (الجلوس للتشهد الأخير) ، وعبر عنه غيره بالقعود، وهما مترادفان. والعاشر (التشهد الأخير) نفسه، فالتشهد وقعوده إن عقبهما سلام فهما ركنان، وإلا فسنتان، ودليل الركنية قول ابن مسعود : "كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد: السلام على الله، السلام على عباده، السلام على جبريل، السلام على ميكائيل، السلام على فلان، فقال -صلى الله عليه وسلم-: لا تقولوا السلام على الله، فإن الله هو السلام، ولكن قولوا: التحيات لله". الحديث رواه الدارقطني والبيهقي وقالا: إسناده صحيح .

قال الخطيب في شرح المنهاج: والدلالة منه من وجهين؛ أحدهما: التعبير بالفرض، والثاني: الأمر به، والمراد فرضيته في جلوس آخر الصلاة .

قلت: وذكر ابن عبد البر في الاستذكار: لم يقل أحد في حديث ابن مسعود بهذا الإسناد ولا بغيره قبل أن يفرض التشهد إلا ابن عيينة. اهـ .

ثم إن ابن عيينة مدلس، وقد عنعن في السند، والأعمش أيضا، وإن عنعن لكن معه منصور، ثم إن الحديث لم يقيد بالأخير، والشافعي -رحمه الله- فرض الأخير، وجعل الأول سنة، وأيضا مذهب الشافعي أن مجموع ما توجه إليه هذا الأمر ليس بواجب، بل الواجب بعضه وهو:" التحيات لله، سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله كما تقدم آنفا، والزيادة على هذا زيادة عدل، وقد توجه إليها الأمر فيلزم الشافعي القول بها وإيجابها، فتأمل .

ثم قال الخطيب: ودليل السنة خبر الصحيحين: "أنه -صلى الله عليه وسلم- قام من ركعتين من الظهر، ولم يجلس، فلما قضى صلاته كبر وهو جالس، فسجد سجدتين قبل السلام، ثم تكلم". دل عدم تداركهما على عدم وجوبهما .

قلت: وهو صحيح إلا أنه ينقض عليه من موضع آخر، وهو أن الحديث المذكور دل على أن الصلاة تنقضي قبل التسليم وبدونه وإمامه لا يقول بذلك، وقد تقدمت الإشارة إليه، وقد يجاب عنه بأنه لا دلالة فيه؛ لأنه قال قبل السلام فيفيد أنه سلم بعد، وليس مذهبه إيقاع السجود خارج الصلاة، إذ هو من متمماتها، فالأولى أن يكون فيها كالخشوع والدعاء قبيل السلام، كذا أفاده صاحبنا العلامة علي بن عبد البر الونائي حفظه الله تعالى .

(و) الحادي عشر: (الصلاة فيه على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) ، وفي بعض النسخ: والصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو فرض عند الشافعي في التشهد الذي يعقبه سلام، وإن لم يكن للصلاة تشهد أول كما في صلاة الصبح وصلاة الجمعة، قالوا: وقد أجمع العلماء على أنها لا تجب في غير الصلاة، فيتعين وجوبها فيها، والقائل بوجوبها مرة في غيرها محجوج بإجماع من قبله، والدليل فيه قوله تعالى: صلوا عليه وحديث: "قد عرفنا كيف نسلم عليك، فكيف نصلي عليك؟ فقال: قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد". إلخ متفق عليه .

وفي رواية: "كيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا؟ فقال: قولوا".. إلخ، رواها الدارقطني وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه، وقال: إنه على شرط مسلم.

قلت: لكن في سند الدارقطني ابن إسحاق والحفاظ يتوقفون فيما ينفرد به كما قاله البيهقي، وقال [ ص: 102 ] ابن عبد البر في الاستذكار حجة أصحاب الشافعي في فرضية الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- في الصلاة ضعيفة، اهـ .

وكلام القاضي عياض في الشفاء في هذا البحث معروف، وقد خالفه من أئمة مذهبه العنبري والقشيري والخطابي، وقال الطحاوي: كالمذكورين لا أعلم للشافعي في هذا قدوة. وقال ابن المنذر: لا أجد الدلالة على ذلك .

قلت: والكلام عنه طويل الذيل، وقد أطال شراح الشفاء في الجواب عنه، وتصدى القطب الخيضري في الرد على القاضي بتأليف جمع فيه كلاما كثيرا، والحق أن الشافعي -رضي الله عنه- مجتهد مطلق ولا يلزمه الاقتداء بقول غيره من المجتهدين حتى يقال ليست له قدوة، بل هذه العبارة فيها إخلال بمقام الأدب معه، ولم يقل ما قال إلا بما ثبت عنده، وترجح بدليل صحيح ووافقه الأئمة مثل الإمام أحمد في إحدى روايتيه المشهورة، واختارها أكثر أصحابه وابن المواز من المالكية، ولا يضره مخالفة من ذكر ولا مخالفة من قبلهم، فإن المجتهد لا يعارض قوله بقول مجتهد آخر، كما هو معلوم، والله أعلم .

(و) الثاني عشر: (السلام الأول) لحديث علي: "تحريمها التكبير وتحليلها التسليم، قال القفال الكبير: والمعنى أن المصلي كان مشغولا عن الناس وقد أقبل عليهم، (فأما نية الخروج) عن الصلاة، (فلا تجب) على الأصح قياسا على سائر العبادات، أو لأن النية السابقة منسحبة على جميع الصلاة، ولكن تسن خروجا من الخلاف، والثاني تجب مع السلام ليكون الخروج كالدخول فيه، وعلى هذا يجب قرنها بالتسليمة الأولى، فإن قدمها عليها أو أخرها عنها عامدا بطلت صلاته .

(وما عدا هذا فليس بواجب بل هي) ، إما (سنن و) إما (هيئات فيها) ، أي: في السنن، (وفي الفرائض) ، واعلم أن المصنف ذكر الأركان في الوجيز أحد عشر: التكبير، والقراءة والقيام، والركوع، والاعتدال عنه، والسجود، والقعدة بين السجدتين مع الطمأنينة في الجميع، والتشهد الأخير، والقعود فيه، والصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-، والسلام، ثم قال: والنية بالشروط أشبه، وعدها صاحب القوت اثني عشر، هكذا: النية، وتكبيرة الإحرام، وقراءة سورة الحمد، والركوع، والطمأنينة فيه، والاعتدال قائما، والسجود، والطمأنينة فيه، والجلسة بين السجدتين، والتشهد الأخير، والصلاة على محمد -صلى الله عليه وسلم-، والسلام الأول، وعدها الرافعي في المحرر، وتبعه النووي في المنهاج ثلاثة عشر فزاد على ما في الإحياء ترتيب الأركان، ودليل وجوبه الاتباع كما في الأخبار الصحيحة مع خبر: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، وجعلها في التنبيه ثمانية عشر، فزاد: الطمأنينة في الركوع والاعتدال والسجود، والجلوس بين السجدتين، ونية الخروج من الصلاة، وجعلها في الروضة والتحقيق سبعة عشر، وأسقط نية الخروج؛ لأنها على الأصح لا تجب، وجعلها في الحاوي أربعة عشر فزاد الطمأنينة إلا أنه جعلها في الأركان الأربعة ركنا واحدا، وزاد ابن الوردي في بهجة الحاوي واحدا، وهذا تفصيله: النية والتكبيرة والقيام والقراءة والركوع والاعتدال قائما والسجود مرتين، والقعود بين السجدتين، والطمأنينة في محالها الأربعة، وفقد الصارف في كل الأركان، والتشهد الأخير، والقعود فيه والصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- والسلام الأول، والترتيب بين الأركان، فهذا تفصيل ما أجملناه آنفا .

وقد تقدم أن الخلاف بينهم لفظي، ولم يتعرضوا لعد الولاء ركنا، وصوره الرافعي تبعا للإمام بعدم تطويل الركن القصير، وابن الصلاح بعدم طول الفصل بعد سلامه ناسيا، ولم يعده الأكثرون ركنا لكونه كالجزء من الركن القصير، ولكونه أشبه بالمتروك. وقال النووي في التنقيح: الولاء والترتيب شرطان وهو أظهر من عدهما ركنين اهـ .

قال الخطيب: والمشهور عد الترتيب ركنا والولاء شرطا .



(فصل)

قال أصحابنا: الركن هو الجزء الذاتي الذي تتركب الماهية منه ومن غيره، ويقال لما يقوم به الشيء وهو جزء داخل ماهية الشيء، والفرض هنا ما ثبت توقف صحة الصلاة عليه بدليل قطعي من الكتاب والسنة والإجماع، فيشمل الشرط والركن، ففرائض الصلاة المعبر عنها بالأركان أيضا ثمانية: خمسة منها متفق عليه بين أئمتنا من غير اختلاف، وهي القيام والقراءة والركوع والسجود، والقعود الأخير مقدار التشهد .

وأما تكبيرة الافتتاح، وإن عدت مع الأركان في جميع الكتب لشدة اتصالها بها، لا لأنها ركن بل [ ص: 103 ] هي شرط لصحة الصلاة بإجماع أئمتنا، والاثنتان المختلف فيهما أولاهما: الخروج من الصلاة بصنعه فرض عند أبي حنيفة؛ خلافا لصاحبيه، ونقل أبو الحسن الكرخي أنه لم يرد فيه عن الإمام أبي حنيفة صريحا ما يدل على فرضيته، وإنما ألزمه أبو سعيد البردعي في مسائل رواها عن الإمام، ففهم منها تفقها أنه يقول بفرضيته، والثانية الطمأنينة في الركوع والسجود، ويعبر عنها عندنا بتعديل الأركان فرض عند أبي يوسف خلافا لهما .

وأما واجبات الصلاة، فهي ثمانية عشر: وحكم الواجب في الصلاة دخول النقص فيها بتركه ووجوب سجدة السهو بتركه سهوا وإعادتها بتركه عمدا، وسقوط الفرض ناقصا إن لم يسجد، ولم يعد الصلاة في تركه عمدا أو سهوا، وهذا تفصيلها: قراءة الفاتحة، وضم سورة أو ثلاث آيات وتعيين قراءة الفاتحة في الأوليين من الفرض وتقدم الفاتحة على السورة، وضم الأنف للجبهة في السجود ومراعاة الترتيب فيما بين السجدتين، والطمأنينة في الركوع والسجود والقعدة الأولى على الصحيح، والتشهد فيه في الصحيح، والتشهد في الثانية، والقيام إلى الركعة الثالثة من غير تراخ بعد قراءة التشهد، ولفظ السلام مرتين دون عليكم، وقنوت الوتر، وتكبيرات العيدين، وتعيين لفظ التكبير في افتتاح كل صلاة لا صلاة العيدين خاصة، وتكبيرة الركوع في ثانية العيدين، وجهر الإمام في الجهرية، والجهر في الجمعة والعيدين والتراويح والوتر في رمضان، والإسرار في السرية، ولو ترك السورة في أولى العشاءين قرأها في الأخريين مع الفاتحة جهرا على الأصح، وروى ابن سماعة عن أبي حنيفة أنه يجهر بالسورة لا الفاتحة، وروى هشام عن محمد أنه لا يجهر أصلا، ولو ترك الفاتحة في الأوليين لا يكررها في الأخريين، ويسجد للسهو، والله أعلم .




الخدمات العلمية