الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وبيانه أن الزكاة إن غفل الإنسان عنها مثلا فهي في نفسها مخالفة للشهوة شديدة على النفس وكذا الصوم قاهر للقوى كاسر لسطوة الهوى الذي هو آلة للشيطان عدو الله فلا يبعد أن يحصل منها مقصود مع الغفلة ، وكذلك الحج أفعاله شاقة شديدة وفيه من المجاهدة ما يحصل به الإيلام كان القلب حاضرا مع أفعاله ، أو لم يكن ، أما الصلاة فليس فيها إلا ذكر وقراءة وركوع وسجود وقيام وقعود فأما الذكر ؛ فإنه مجاورة ومناجاة مع الله عز وجل فأما أن يكون المقصود منه كونه خطابا ومحاورة ، أو المقصود منه الحروف والأصوات امتحانا للسان بالعمل كما تمتحن المعدة والفرج بالإمساك في الصوم وكما يمتحن البدن بمشاق الحج ويمتحن بمشقة إخراج الزكاة ، واقتطاع المال المعشوق .

ولا شك أن هذا القسم باطل : فإن تحريك اللسان بالهذيان ما أخفه على الغافل فليس فيه امتحان من حيث إنه عمل بل ، المقصود الحروف من حيث إنه نطق ولا يكون ، نطقا ؛ إلا إذا أعرب عما في الضمير ولا يكون معربا إلا بحضور القلب فأي سؤال في قوله : اهدنا الصراط المستقيم إذا كان القلب غافلا وإذا لم يقصد كونه تضرعا ودعاء ، فأي مشقة في تحريك اللسان به مع الغفلة لا سيما بعد الاعتياد هذا حكم الأذكار بل أقول لو حلف الإنسان وقال : لأشكرن فلانا وأثني عليه وأسأله حاجة ثم جرت الألفاظ الدالة على هذه المعاني على لسانه في النوم لم يبر في يمينه ولو جرت على لسانه في ظلمة وذلك الإنسان حاضر وهو لا يعرف حضوره ولا يراه لا يصير بارا في يمينه إذ لا يكون كلامه خطابا ونطقا معه ما لم يكن هو حاضرا في قلبه فلو كانت تجري هذه الكلمات على لسانه وهو حاضر إلا أنه في بياض النهار غافل لكونه مستغرق الهم بفكر من الأفكار ولم يكن له قصد توجيه الخطاب إليه عند نطقه لم يصر بارا في يمينه .

ولا شك أن المقصود من القراءة والأذكار الحمد والثناء والتضرع والدعاء والمخاطب هو الله عز وجل وقلبه بحجاب الغفلة محجوب عنه فلا يراه ولا يشاهده بل هو غافل عن المخاطب ولسانه يتحرك بحكم العادة فما أبعد هذا عن المقصود بالصلاة التي شرعت لتصقيل القلب وتجديد ذكر الله عز وجل ورسوخ عقد الإيمان به هذا حكم القراءة والذكر .

وبالجملة ، فهذه الخاصية لا سبيل إلى إنكارها في النطق ، وتمييزها عن الفعل .

. وأما الركوع والسجود ، فالمقصود بهما التعظيم قطعا ، ولو جاز أن يكون معظما لله عز وجل بفعله وهو غافل عنه لجاز أن يكون معظما لصنم موضوع بين يديه وهو غافل عنه ، أو يكون معظما للحائط الذي بين يديه وهو غافل عنه ، وإذا خرج عن كونه تعظيما لم يبق إلا مجرد حركة الظهر والرأس وليس فيه من المشقة ما يقصد الامتحان به ثم يجعله عماد الدين والفاصل بين الكفر والإسلام ويقدم على الحج وسائر العبادات .

التالي السابق


(وبيانه أن الزكاة) التي هي إخراج المال عند استكمال نصابه وحولان الحول عليه للمستحقين، (إن غفل الإنسان عنها مثلا) ، أي: عن إخراج ما فرض عليه، (فهي في نفسها مخالفة للشهوة) وهي القوة التي بها ينزع إلى الشيء ولا يتمالك عنه (شديدة على النفس) ؛لأن النفس مجبولة على جمع المال وعدم نقصانه في الظاهر، (وكذا الصوم) ، وهو الإمساك عن مشتهيات النفس، (قاهر للقوى) النفسية (كاسر لسطوة الهوى) ، أي: ميل النفس إلى اللذائذ، (الذي هو آلة للشيطان عدو الله) ، وحبالة لصيده، (فلا يبعد أن يحصل منهما) ، أي: من الزكاة والصوم، (مقصود مع) وجود (الغفلة، وكذلك الحج) إلى بيت الله الحرام، (أفعاله شاقة شديدة) من مفارقة الأهل والأوطان وبذل الأموال، والتعري عن الملابس والسفر الطويل، وغير ذلك (وفيه من المجاهدة) والمكابدة (ما يحصل به الإيلام) ، والإتعاب للبدن، وفي نسخة: الابتلاء بدل الإيلام، (كان القلب حاضرا مع فعله، أو لم يكن، أما الصلاة فليس فيها إلا ذكر وقراءة وركوع وسجود وقيام وقعود) وبعض ذلك يخالف العادة المألوفة (فأما الذكر؛ فإنه محاورة) ، أي: مراجعة (ومناجاة) ، أي: مساررة (مع الله عز وجل) ، وهو لا يخلو (فأما أن يكون المقصود منه [ ص: 113 ] كونه خطابا ومحاورة، أو المقصود منه الحروف والأصوات امتحانا للسان بالعمل) من غير أن يكون اللسان معبرا عما في القلب، (كما تمتحن المعدة) ، بفتح الميم وكسر العين، وقد تكسر الميم وهي مقر الطعام والشراب، (والفرج بالإمساك) عن كل من ملذاتهما في الصوم، (وكما يمتحن البدن بمشاق الحج) ، أي: شدائده (ويمتحن القلب بمشقة إخراج الزكاة، واقتطاع المال المعشوق) ، أي: المحبوب إليه، والعشق فرط المحبة، (ولا شك أن هذا القسم باطل: فإن تحريك اللسان بالهذيان) بالتحريك هو خلط الكلام والتكلم بما لا ينبغي (وما أخفه على الغافل) وما أسرعه إليه، (فليس فيه امتحان من حيث إنه عمل، وليس المقصود النطق بالحروف من حيث إنه نطق، لكن لكونه نطقا نافعا) .

اعلم أن أصل النطق هي الأصوات المقطعة التي يظهرها الإنسان وتعيها الآذان، وهذه أول مراتبها، وله مرتبة ثانية وهي تمكن النفس الإنسانية من العبارة في الصور المجردة المنغرزة في عمله، المنفردة في عقله، المبرأة عن الأشكال، المعراة عن الأجسام، والمثال فيه تتصور حقائق الأشياء بأعيانها وذواتها المجردة في مرآة القلب، وتقدر النفس على العبارة عنها، ويتمكن الذهن من التفكر فيها، ويحيط العقل بباطنها وظاهرها، وإليه أشار المصنف بقوله: (ولا يكون نطقا نافعا؛ إلا إذا أعرب عما في الضمير) ، أي: القلب، (ولا يكون معربا) كذلك (إلا بحضور القلب) وفراغه من الشواغل، وتمكن الذهن بأسراره وإحاطة العقل بباطنه وظاهره .

(فأي سؤال في قوله: اهدنا الصراط المستقيم إذا كان القلب غافلا) عن معنى الصراط والاستقامة، ثم الهداية له، (وإذا لم يقصد كونه تضرعا ودعاء، فأي مشقة) ، وفي نسخة: منفعة (في حركة اللسان مع الغفلة لا سيما بعد الاعتياد) ، أي: بعد ما تعود عليه، (هذا حكم الأذكار) ، ثم زاد الكلام إيضاحا بقوله: (بل أقول لو حلف الإنسان وقال:) والله (لأشكرن فلانا) على جميله ومعروفه، (وأثني عليه) بما أسداه إلي، (وأسأله حاجة) دنيوية أو دينية، وأشار بذلك إلى الفاتحة، فإنها متضمنة على الحمد والشكر والثناء والطلب والدعاء، (ثم جرت الألفاظ الدالة على هذه المعاني على لسانه) ، وهو (في النوم لم يبر في يمينه) ، وهذا ظاهر، (ولو جرت) تلك الألفاظ (على لسانه في ظلمة) ، وفي نسخة في ظلمة الليل، (وذلك الإنسان) الذي قصده بالخطاب (حاضر) قريب منه، (وهو لا يعرف حضوره) ، وقربه (ولا يراه) لتمكن الظلمة بينه وبينه، (لا يصير بارا في يمينه) كذلك، (إذ لا يكون كلامه خطابا ونطقا معه ما لم يكن هو) ، أي: المخاطب بالفتح (حاضرا في قلبه) حضورا علميا (ولو جرت هذه الكلمات على لسانه وهو) أي: المخاطب (حاضر) عنده (إلا أنه في بياض النهار) بحيث يراه عيانا، (غافل عنه لكونه مستغرق الهم) ، أي: استولى عليه وصف الاهتمام (بفكر من الأفكار) الصارفة عنه، (ولم يكن له قصد توجيه الخطاب إليه عند نطقه) ، لصور تلك الحروف والكلمات (لم يصر بارا في يمينه) ، فهذه مراتب ثلاثة ضرب فيها المثل للمصلي إذا قام بين يدي الله -عز وجل- يناجيه ويخاطبه ويحاوره، فينطق بلسانه كلمات الفاتحة المتضمنة لما ذكر من الثناء والدعاء، وهو في مراتبه الثلاثة غير مؤد ما افترض الله عليه لا في حالة غفلته، ولا عند عدم حضور قلبه، ولا عند عدم القصد في الخطاب، والغفلة ضد للنطق النافع المعرب عما في القلب، (ولا شك في أن المقصود من القراءة والأذكار) التناجي بكل من (الحمد والثناء) لله عز وجل، (والتضرع) إليه بغاية الاستكانة، (والدعاء) أي: الطلب منه، وهذه كلها موجودة في الفاتحة، (والمخاطب) بذلك (هو الله -عز وجل- وقلبه) أي: المخاطب، بالكسر (بحجاب الغفلة محجوب عنه) ، أي: عن جلاله وكبريائه وعظمته، (فلا يراه ولا يشاهده) .

والمراد بالرؤية والمشاهدة هنا هو معرفته بأسمائه وصفاته، وفيما تتفاوت المراتب، فليس من يعلم أنه عالم قادر على الجملة كمن شاهد عجائب آياته في ملكوت السماء والأرض، واستغرق في دقائق الحكمة، واستوفى لطائف التدبير، وإما على سبيل الحقيقة فلا يهتز أحد لنيله إلا ردته سبحات [ ص: 114 ] الجلال إلى الحيرة، ولا يشرئب أحد لملاحظته إلا غطى الدهش طرفه، (بل هو غافل عن المخاطب) بما حجب به عنه، (ولسانه يتحرك) بتلك الألفاظ (بحكم العادة) ، لا بسر العبادة، (فما أبعد هذا عن) القبول وعن حصول، (المقصود بالصلاة التي شرعت لتصقيل القلب) وجلائه عن الكدورات النفسية والظلمات الوهمية، (وتجديد ذكر الله -عز وجل- ورسوخ عقد الإيمان به) ، وفي نسخة بذلك دل على ذلك الحديث الذي تقدم ذكره؛ إنما فرضت الصلاة وأمر بالحج والطواف، وأشعرت المناسك لإقامة ذكر الله تعالى، أي: فإذا لم يكن في قلبك للمذكور الذي هو المقصود والمبتغى عظمة ولا هيبة، فما قيمة ذكرك، كذا في القوت .

(هذا حكم) ، وفي نسخة: فهذه أحكام (القراءة والذكر بالجملة، فهذه الخاصية لا سبيل إلى إنكارها في النطق، وتمييزها عن الفعل .

وأما الركوع والسجود، فالمقصود بهما التعظيم) للمعبود (قطعا، ولو جاز أن يكون معظما لله تعالى بفعله وهو غافل عنه) ، أي: لو جاز تعظيم المعبود مع بقاء صفة الغفلة فيه (لجاز أن يكون معظما لصنم موضوع) بحائط (بين يديه وهو غافل عنه، أو يكون معظما للحائط الذي بين يديه وهو غافل عنه، وإذا خرج عن كونه تعظيما) لتمكن الذهول منه (لم يبق إلا مجرد حركة الظهر) بإحنائه في الركوع، (والرأس) بوضعه على الأرض في السجود، (وليس فيه من المشقة ما يقصد الامتحان به) ، ومجرد مخالفتهما للعادة لا يثبت أن يكون ذلك عبادة، (ثم يجعله) أي: مجموع ذلك (عماد الدين) ، أشار به إلى الحديث الذي تقدم ذكره: "الصلاة عماد الدين"، ويجعله أيضا (الفاصل بين الكفر والإسلام) ، أشار به إلى حديث جابر الذي أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه : "بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة". وفي رواية لمسلم: "أن بين الرجل" وذكر الكفر بعد الشرك من باب عطف العام على الخاص، إذ الشرك نوع من الكفر، وكرر بين تأكيدا، (ويقدم على الحج وسائر العبادات) حتى في الذكر والترتيب .




الخدمات العلمية