الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والزم الخشوع للقلب فإن الخلاص عن الالتفات باطنا وظاهرا ثمرة الخشوع .

ومهما خشع الباطن خشع الظاهر قال صلى الله عليه وسلم : وقد رأى رجلا مصليا يعبث بلحيته ، أما هذا لو خشع قلبه لخشعت جوارحه فإن الرعية بحكم الراعي .

ولهذا ورد في الدعاء : اللهم أصلح الراعي والرعية وهو ، القلب والجوارح .

وكان الصديق رضي الله عنه في صلاته كأنه وتد وابن الزبير رضي الله عنه كأنه عود .

وبعضهم كان يسكن في ركوعه بحيث تقع العصافير عليه كأنه جماد وكل ذلك يقتضيه الطبع بين يدي من يعظم من أبناء الدنيا فكيف لا يتقاضاه بين يدي ملك الملوك عند من يعرف ملك الملوك وكل من يطمئن بين يدي غير الله عز وجل خاشعا وتضطرب أطرافه بين يدي الله عابثا ، فذلك لقصور معرفته عن جلال الله عز وجل ، وعن اطلاعه على سره وضميره .

وقال عكرمة في قوله عز وجل : الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين ، قال قيامه وركوعه وسجوده وجلوسه .

وأما الركوع والسجود فينبغي أن تجدد عندهما ذكر كبرياء الله سبحانه وترفع يديك مستجيرا بعفو الله عز وجل من عقابه بتجديد نية ومتبعا سنة نبيه صلى الله عليه وسلم .

التالي السابق


(والزم الخشوع للقلب فإن الإخلاص عن الالتفات باطنا وظاهرا) هو (ثمرة الخشوع) ، وفائدته (ومهما خشع الباطن خشع الظاهر) ، والظاهر عنوان الباطن، (قال -صلى الله عليه وسلم-: وقد رأى رجلا) ، وفي رواية مصليا، (يعبث بلحيته في الصلاة، أما هذا لو خشع قلبه خشعت جوارحه) تقدم أنه من حديث أبي هريرة أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول بسند ضعيف .

والذي في المصنف لابن أبي شيبة أنه من قول سعيد بن المسيب، (فإن الرعية بحكم الراعي) ، والرعية فعيلة من الرعي، وهو الحفظ والقيام بتدبير الناس، وقيل للأمير والحاكم راع بهذا المعنى، (ولهذا ورد في الدعاء: اللهم أصلح الراعي والرعية،) قال العراقي: لم أقف له على أصل. اهـ .

ثم إن المعروف أن المراد بالراعي والرعية الحاكم والمحكوم عليه، (و) قال المصنف: (هو القلب والجوارح) ، فالقلب راع، والجوارح رعيته، فإذا صلح الراعي صلح الرعية، وهذا المعنى وإن كان غريبا لكنه يؤنسه حديث: "ألا إن في الجسد مضغة إن صلحت صلح الجسد كله، وإن فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب". ولأن الله تعالى قد جعل بين الأجساد والأرواح رابطة ربانية وعلاقة روحانية، فلكل منهما ارتباط بصاحبه، وتعلق به يتأثر بتأثره، فإذا خشع القلب أثر ذلك في الجوارح، فخشعت وصفت الروح وزكت النفس، وإذا [ ص: 154 ] أخلص القلب بالطاعة استعمل الجوارح في مصالحه، ثم ذكر جماعة من الخاشعين في صلاتهم فقال: (وكان) أبو بكر (الصديق -رضي الله عنه- في صلاته كأنه وتد) ، ككتف جمعه أوتاد ويقال أيضا بقلب التاء دالا، وهو من الفسطاط معروف شبهه به في صلابته ورسوخه وعدم تميله والتفاته، (و) كان عبد الله (ابن الزبير رضي الله عنه) في صلاته (كأنه عود) ، أي: في صلابته واستقامته واعتدال قامته (وبعضهم كان يسكن في ركوعه) مع الاطمئنان (بحيث تقع العصافير عليه كأنه جماد) لا يتحرك، وهذا لا يكون إلا بتطويله، ولعله في النوافل، وقد حكي ذلك في نعت علي بن الحسين بن علي السجاد، وبعضهم يرى في صلاته كأنه خرقة ملقاة، حكي ذلك عن مسلم بن يسار، كذا في الحلية .

(وكل ذلك مما يقتضيه الطبع بين يدي من يعظم من أبناء الدنيا) ، بحيث إنهم إذا وقفوا بين أيديهم فكأنما على رءوسهم الطير، (فكيف لا يتقاضاه بين يدي ملك الملوك) جل جلاله الذي بيده ملكوت السموات والأرض (عند من يعرف ملك الملوك) ، وأما من لم يعرف أنه ملك الملوك، ومنه الخوف، وإليه الرجاء، فكفاه جهله حاجبا له عن خشوعه، (وكل من يطمئن بين يدي غير الله خاشعا) مطمئنا، (وتضطرب أطرافه) إذا وقف (بين يدي الله عابثا، فذلك لقصور معرفته عن جلال الله عز وجل، وعن اطلاعه على سره وضميره) ، أي: ما يضمره ويسره، أو أن الضمير هو القلب والسر داخله .

(قال عكرمة) مولى ابن عباس، يكنى أبا عبد الله: كان يفتي بالباب، والبيهقي في الدار، قال العجلي: كان تابعيا ثقة ووثقه النسائي أيضا. وقال الشعبي: ما بقي أحد أعلم بكتاب الله من عكرمة.

وقال قتادة: أعلم الناس بالتفسير عكرمة، وقال يحيى بن سعيد أصحاب ابن عباس ستة، مجاهد وطاوس وعطاء وسعيد، وعكرمة وجابر بن زيد، مات هو وكثير عزة في يوم واحد سنة خمس ومائة، فقال الناس: مات اليوم أفقه الناس وأشعر الناس. روى له مسلم مقرونا بغيره، واحتج به الباقون .

(في قوله عز وجل: الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين ، قال) في تفسيره (قيامه) -صلى الله عليه وسلم- في الصلاة، (وركوعه وسجوده وجلوسه) ، ويروى عن ابن عباس قال: أي من بطن ساجد إلى بطن ساجد من لدن آدم -عليه السلام- إلى عبد الله، (وأما الركوع والسجود فينبغي أن تجدد عنده) ، أي: عند قصدك لهما، (ذكر كبرياء الله تعالى وترفع يديك) طالبا فقيرا صفر اليدين إلى الوهب الإلهي، (مستجيرا بعفو الله من عقابه) ، أو ترفعهما من باب ترك الحول والقوة، إذ كانت الأيدي محل القدرة معترفا بأن الحول والقوة لله لا لك، وأن يديك خالية من الاقتدار، أو أنك إذا رفعتهما إلى صدرك اعتبرت كون الحق في قبلتك، وإن رفعتهما إلى الأذنين اعتبرت كون الحق فوقك بالعظمة والاقتدار، وهو القاهر فوق عباده، (ومتبعا سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-) مما ثبت ذلك من رفعه -صلى الله عليه وسلم- يديه في هذا الموطن وغيره، مما جاء في حديث وائل بن حجر ومالك بن الحويرث كما تقدم بيانه .




الخدمات العلمية