الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ثم تهوي إلى السجود وهو أعلى درجات الاستكانة فتمكن أعز أعضائك وهو الوجه من أذل الأشياء وهو التراب .

وإن أمكنك أن لا تجعل بينهما حائلا فتسجد على الأرض فافعل ، فإنه أجلب للخشوع وأدل على الذل .

وإذا وضعت نفسك موضع الذل فاعلم أنك وضعتها موضعها ورددت الفرع إلى أصله فإنك من التراب خلقت وإليه تعود فعند هذا جدد على قلبك عظمة الله وقل : سبحان ربي الأعلى وأكده بالتكرار فإن الكرة الواحدة ضعيفة الأثر فإذا رق قلبك وظهر ذلك فلتصدق رجاءك في رحمة الله فإن رحمته تتسارع إلى الضعف والذل لا إلى التكبر والبطر .

التالي السابق


(ثم تهوي إلى السجود وهو أعلى درجات الاستكانة) ، فقد ذكرنا سابقا أن العبد ينظر في الركوع في عظمة الله تعالى وتنزيهها عن قيام الخضوع بها وعلوه عن السجود، فإنه في سجوده يطلب أصل نشأة هيكله، وهو الماء والتراب، ويطلب بقيامه أصل روحه، فإن الله تعالى يقول فيهم: وأنتم الأعلون ، (فمكن أعز أعضائك) في الظاهر (وهو الوجه من أذل الأشياء وهو التراب) ، لكونه مداسا تحت الأرجل، (وإن أمكنك أن لا تجعل بينهما حائلا) ، أي: مانعا (فتسجد على الأرض) كما كان يفعله عمر بن عبد العزيز، (فافعل، فإنه أجلب للخشوع وأدل على الذل) ، أي: من أكبر الأسباب الجالبة للخشوع، والدالة على الهوان (وإذا وضعت نفسك) ، وفي بعض النسخ بعينيك وإخاله تصحيفا (موضع الذل) الذي هو التراب، (فاعلم أنك) قد (وضعتها موضعها ورددت الفرع إلى الأصل) ، الذي انتشأ منه، (فإنك من التراب خلقت) قال الله تعالى: منها خلقناكم (وإليه رددت) ، وفي نسخة: وإليه تعود، قال الله تعالى: وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى ، وهذا سر تثنية السجود، (فعنده تجدد) ، وفي نسخة: فعند هذا جدد، (على قلبك عظمة الله) وعلوه وارتفاعه ومجده .

(وقل: سبحان ربي الأعلى) لما كان المصلي ينتقل من حالة الركوع إلى حالة السجود، وكلتاهما من أحوال الخضوع إلا أن حالة السجود في الخضوع أكثر من حالته ناسب فيه وصف اسم الرب الذي هو من الأمهات الثلاث لكثير الدور والظهور في القرآن بالأعلى ليسبحه بلسان كل مسبح، وينظر في علو الله تعالى عن السجود وتنزيهه له عن كل ما يضاد العلو، (وأكد بالتكرار) ثلاثا أو خمسا أو أزيد، (فإن الكرة الواحدة ضعيفة الأثر) ، أي: لا تؤثر في القلب مرة واحدة إلا للمستغرق عن حسه، وبتكرار ذلك المعنى يحصل التأثير ويقوى الأثر، (فإذا رق قلبك) بقبوله الأثر المذكور (وظهر ذلك) بإثبات العلو المطلق لربك، (فلتصدق رجاءك في رحمة ربك) ؛لأنه هو الذي ألهمك إلى هذا الخضوع والتنزيه، (فإن رحمته تتسارع إلى الضعف والذل لا إلى التكبر والبطر) ، فإذا كان المصلي بوصف الذل والضعف إما حقيقة وإما بإظهارهما كذلك تعمه رحمة ربه وتغمر أنوارها قلبه، فإذا فرغ من التسبيح وأعمال صدق الرجاء فليقل وهو ساجد: اللهم لك سجدت، وبك آمنت، ولك أسلمت، سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره، تبارك الله أحسن الخالقين، اللهم اجعل في قلبي نورا، وفي سمعي نورا، وفي بصري نورا، وعن يميني نورا، وعن شمالي نورا، وأمامي نورا، وخلفي نورا، وفوقي نورا، وتحتي نورا، واجعل لي نورا، واجعلني نورا"، ومعنى اجعلني نورا: اجعلني هدى يهتدي بي كل من رآني فإنها من أسنى المراتب، وهو مقام عين الجمع، وفيه تتحد الأنوار بوحدانية العين، والله أعلم .



(تنبيه) :

تقدم ذكر الاختلاف فيما يضع المصلي على الأرض إذا هوى إلى السجود، فذهب قوم إلى وضع اليدين قبل الركبتين، وآخرون بالعكس، فاعلم أن اليدين محل الاقتدار، والركبتين محل الاعتماد، فمن اعتمد على ربه مع الاقتدار الذي يجده من نفسه كالحلم مع القدرة قال بوضع الركبتين قبل اليدين، ومن رأى أن اليدين محل العطاء والكرم ورأى قوله تعالى: تقدموا بين يدي نجواكم صدقات ، قدم اليدين قبل الركبتين ثم إن المعطي لا يخلو من إحدى حالتين، إما أن يعطي وهو صحيح شحيح يخشى الفقر ويأمل الحياة، وإما أن يعطي، وهو من الثقة بالله والاعتماد على الله بحيث أن لا يخطر له الفقر والحاجة ببال لعلمه بأن الله تعالى أعلم بمصالحه، فمن كانت هذه حالته قدم ركبتيه على يديه، ومن كانت حالته الشح فجاهد نفسه وخشي الفقر، وبذل المجهود من نفسه في العطاء قدم يديه على ركبتيه، والساجد أي: حال قدم من هاتين الحالتين، فإن الأخرى تحصل له في سجوده، ولا بد فمن اعتمد وتوكل حصل له صفة الجود والإيثار، وجميع مراتب الكرم والعطاء، ومن أعطى لله عن جبن وفزع أثمر له ذلك العطاء بهذه الحالة التوكل والاعتماد على الله، والذي رجح الشارع تقديم اليدين والله أعلم .



" إشارة"

تقدم بيان [ ص: 157 ] السجود على سبعة أعظم: الوجه واليدين والركبتين وأطراف القدمين، فمن سجد عليها فقد تم سجوده اتفاقا، واختلفوا إذا نقص عضوا منها هل تبطل صلاته أم لا؟ فقال قوم: تبطل ، وقال آخرون: لا، واتفقوا على أن من سجد على جبهته وأنفه فقد سجد على وجهه، واختلفوا فيمن سجد على أحدهما، فمن قائل إن سجد على جبهته دون أنفه جاز وبعكسه لا، ومن قائل بالجواز على انفراد كل منهما، ومن قائل بعدمه، فاعلم أن السبع الصفات يرجع إليها جميع الأسماء الإلهية، فلو نقص منها صفة أو نسبة، فقد بطل الجميع، ولا يصح كون الحق إلها وهو الذي لا يجيز الصلاة إلا بالسجود على السبعة الأعضاء، فإنها للحضرة الإلهية بمنزلة هذه الأعضاء للساجد، والذي يقول: إن الوجه لا بد منه بالاتفاق كالحياة من هذه الصفات التي هي شرط في وجود ما بقي من الصفات السبعة، أو النسب على الخلاف المذكور في محله، فمن قال: إن السمع والبصر راجعان إلى العلم، وإن العلم يغني عنهما وأنهما مرتبتان في العلم، قال بجواز الصلاة إذا نقص عضو من هذه الأعضاء مع سجود الوجه، ولما كانت الحياة تقتضي العزة لنفسها كانت العزة والحياة مرتبطين كالشيء الواحد كارتباط الجبهة بالأنف في كونهما عظما واحدا، وإن كانت الصورة مختلفة، فمن قال: إن المقصود الوجه وأدنى ما ينطلق عليه اسم الوجه يقع به الاجتزاء أجاز السجود على الأنف دون الجبهة وعلى الجبهة دون الأنف كالذي يرى أن الذات هي المطلوبة الجامعة، ومن نظر إلى صورة الأنف وصورة الجبهة ونظر إلى الأولى باسم الوجه فغلب الجبهة، وأن الأنف وإن كان مع الجبهة عظما واحدا لم يجز السجود على الأنف دون الجبهة؛ لأنه ليس بعظم خاص، بل هو للعضلية أقرب منه إلى العظمية، فتميز عن الجبهة، فكانت الجبهة المعتبرة في السجود كذلك الحياة هي المعتبرة في الصفات والعزة، وإن كانت لها فإن الصفة الإحاطية وهي العلم تشركها في ذلك، فلم ير للعزة أثرا في هذا الأمر، ومن قال: لا بد أن يكون وجه الحق منيع الحمى عزيزا لا يغالب قال بالسجود على الجبهة والأنف، ولما كان الأنف في الحس محل النفس الذي هو الحياة الحيوانية، كانت نسبته إلى الحياة أقرب النسب بوجود هذه السبعة، ثم نظام العالم، ولم يبق في الإمكان حقيقة إمكانية تطلب أمرا زائدا على هذه السبعة، فليس في الإمكان أبدع من هذا العالم، والله أعلم .




الخدمات العلمية