الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ثم يستحب لهم أعني أصحاب الأعذار تأخير الظهر إلى أن يفرغ الناس من الجمعة فإن حضر ، الجمعة مريض ، أو مسافر ، أو عبد ، أو امرأة صحت جمعتهم ، وأجزأت عن الظهر والله أعلم .

التالي السابق


(ثم يستحب لهم أعني أصحاب الأعذار) المذكورة (تأخير الظهر إلى أن يفرغ الناس من الجمعة ، وإن حضر الجمعة مريض ، أو مسافر ، أو عبد ، أو امرأة صحت جمعتهم ، وأجزأت عن الظهر) . قال الرافعي : إن حضر الصبيان ، والنساء ، والعبيد ، والمسافرون الجامع ، فلهم الانصراف ، ويصلون الظهر ، وخرج صاحب التلخيص وجها في العبد أنه تلزمه الجمعة إذا حضر .

قال في النهاية : وهذا غلط باتفاق الأصحاب ، فأما المريض ، فقد أطلق كثيرون أنه لا يجوز له الانصراف بعد حضوره ؛ بل تلزمه الجمعة ، وقال إمام الحرمين : إن حضر قبل الوقت ، فله الانصراف ، وإن دخل الوقت ، وقامت الصلاة لزمته الجمعة ، وإن تخلل زمن بين دخول الوقت والصلاة ، فإن لم يلحقه مزيد مشقة في الانتظار لزمته ، وإلا فلا ، وهذا تفصيل حسن ، ولا يبعد أن يكون كلام المطلقين منزلا عليه ، وألحقوا بالمرضى أصحاب الأعذار الملحقة بالمرض ، وقالوا : إذا حضروا لزمتهم الجمعة ، ولا يبعد أن يكونوا على التفصيل أيضا إن لم يزد ضرر المعذور بالصبر إلى إقامة الجمعة ، فالأمر كذلك ، وإلا فله الانصراف ، وإقامة الظهر في منزله . هذا كله إذا لم يشرعوا في الجمعة ، فإن أحرم الذين لا تلزمهم الجمعة بالجمعة ، ثم أرادوا الانصراف ؛ قال في البيان : لا يجوز ذلك للمسافر ، والمريض ، وفي العبد ، والمرأة قولان حكاهما الصيمري . قال النووي : الأصح لا يجوز لهما لأن صلاتهما انعقدت عن فرضيهما ، فتعين إتمامها . والله أعلم .



(تنبيهات) :

الأول : إذا خرج الإمام عن الصلاة بحدث تعمده أو سبقه ، أو بسبب غيره ، أو بلا سبب ، فإن كان في غير الجمعة ، ففي جواز الاستخلاف قولان ؛ أظهرهما الجديد يجوز ، والقديم لا يجوز ، ولنا وجه أنه يجوز بلا خلاف في غير الجمعة ، وإنما القولان في الجمعة ، فإن لم نجوزه ، فالمذهب أنه إن أحدث في الأولى أتم القوم صلاتهم ظهرا ، وإن أحدث في الثانية أتمها جمعة من أدرك معه ركعة ، ولنا قول : إنهم يتمونها جمعة في الحالين ، ووجهه أنهم يتمونها ظهرا في الحالين ، وإن جوزنا الاستخلاف نظر إن استخلف من لم يقتد به لم يصح ، ولم يكن لذلك الخليفة أن يصلي الجمعة ؛ لأنه لا يجوز ابتداء جمعة بعد جمعة ، وفي صحة ظهر هذا الخليفة خلاف مبني على أن الظهر هل يصح قبل فوات الجمعة أم لا ؟ فإن قلنا : لا يصح ، فهل يبقى

[ ص: 235 ] نفلا ؟ فيه القولان ، فإن قلنا : لا تبقى فاقتدى به القوم بطلت صلاتهم ، وإن صححناها ، وكان ذلك في الركعة الأولى ، فلا جمعة لهم ، وفي صحة الظهر خلاف مبني على صحة الظهر بنية الجمعة ، وإن كان في الركعة الثانية ، واقتدوا به كان هذا اقتداء طارئا على الانفراد . أما إذا استخلف من اقتدى به قبل الحدث ، فينظر إن لم يحضر الخطبة ، فوجهان ؛ أحدهما : لا يصح استخلافه ، كما لو استخلف بعد الخطبة من لم يحضرها ليصلي بهم ، فلا يجوز ، وأصحهما الجواز ، ونقل الصيدلاني هذا الخلاف قولين ؛ المنع عن البويطي ، والجواز عن أكثر الكتب ، والخلاف في مجرد حضور الخطبة ، ولا يشترط سماعها بلا خلاف . صرح به الأصحاب ، وإن كان حضر الخطبة ، أو لم يحضرها ، وجوزنا استخلافه نظر إن استخلف من أدرك معه الركعة الأولى جاز ، وتمت لهم الجمعة ، سواء أحدث الإمام في الأولى أم الثانية ، وفي وجه شاذ ضعيف أن الخليفة يصلي الظهر ، والقوم يصلون الجمعة ، وإن استخلف من أدركه في الثانية قال إمام الحرمين : إن قلنا : لا يجوز استخلاف من لم يحضر الخطبة لم يجز استخلاف هذا المسبوق ، وإلا فقولان أظهرهما وبه قطع الأكثرون الجواز ، فعلى هذا يصلون الجمعة ، وفي الخليفة وجهان أحدهما : يتمها جمعة ، والثاني ، وهو الصحيح المنصوص لا يتمها جمعة ، فعلى هذا يتمها ظهرا على المذهب ، وقيل : قولان أحدهما : يتمها والثاني لا ، فعلى هذا هل تبطل أم تنقلب نفلا ؟ قولان ، فإن أبطلناها امتنع استخلاف المسبوق ، وإذا جوزنا الاستخلاف ، والخليفة مسبوق يراعي نظم صلاة الإمام ، فيجلس إذا صلى ركعة ، ويتشهد ، فإذا بلغ موضع السلام أشار إلى القوم ، وقام إلى ركعة أخرى إن قلنا : إنه مدرك للجمعة ، وإلى ثلاث إن قلنا : صلاته ظهر ، والقوم بالخيار إن شاءوا فارقوه ، وسلموا ، وإن شاءوا ثبتوا جالسين حتى يسلم بهم ، ولو دخل مسبوق ، واقتدي به في الركعة الثانية التي استخلف فيها صحت له الجمعة ، وإن لم تصح للخليفة نص عليه الشافعي . قال الأصحاب : هو تفريع على صحة الجمعة خلف مصلي الظهر ، وتصح جمعة الذين أدركوا مع الإمام الأول ركعة بكل حال ؛ لأنهم لو انفردوا بالركعة الثانية كانوا مدركين للجمعة ، فلا يضر اقتداؤهم فيها بمصلي الظهر أو النفل . والله أعلم .

وقال أصحابنا : الخطبة شرط الانعقاد في حق من ينشئ التحريمة للجمعة ، وهو الإمام أو من استخلفه قبل الشروع فيها لسبق الحدث لا في حق كل من صلاها ، فلو أحدث الإمام بعد الشروع في الصلاة ، فقدم من لم يشهدها جاز أن يصلي بهم الجمعة ؛ لأنه بان تحريمته على تلك التحريمة المنشأة ألا يرى إلى صحتها من المقتدين الذين لم يشهدوا الخطبة ، وإذا أفسدها هذا الذي استخلفه الإمام كان القياس أنه لا يصح استئنافه ؛ لأنه ينشئ التحريمة للاستئناف ، ولكنهم استحسنوا جواز استقباله بهم ؛ لأنه لما قام مقام الأول التحق به حكما ، فكما لو أفسد الأول استقبل بهم ، فكذا الثاني ، ولو أحدث الإمام قبل الشروع في الصلاة ، فقدم من لم يشهد الخطبة لا يجوز ، فلو قدمه ، فقدم هذا المقدم غيره ممن شهدها قيل : يجوز ، وقيل : لا يجوز ؛ لأنه ليس من أهل إقامة الجمعة بنفسه ، فلا يجوز منه الاستخلاف ، وإذا قدم الإمام الأول جنبا شهدها ، فقدم الجنب طاهرا شهدها ، فإنه يجوز ؛ لأن الجنب الشاهد من أهل الإقامة بواسطة الاغتسال ، فصح فيه الاستخلاف بخلاف ما لو قدم الأول صبيا أو معتوها أو امرأة ، أو كافرا فقدم غيره ممن شهدها لم يجز ؛ لأنهم لم يصح استخلافهم ، فلم يصر أحدهم خليفة ، فلا يملك الاستخلاف ، فالمتقدم باستخلاف أحدهم متقدم بنفسه ، ولا يجوز ذلك في الجمعة ، وإن جاز في غيرها من الصلوات لاشتراط إذن السلطان للمتقدم صريحا أو دلالة فيها دون غيرها ، ولا دلالة إلا إذا كان المستخلف متحققا بوصف الخليفة شرعا ، وليس أحدهم كذلك حتى لو كان المتقدم بنفسه صاحب الشرطي أو القاضي جاز ؛ لأن هذا من أمور العامة ، وقد قلدهما الإمام ما هو من أمور العامة فنزلا منزلته ، فلو قدم أحدهما رجلا شهد الخطبة جاز ؛ لأنه ثبت لكل منهما ولاية التقدم ، فله ولاية التقديم . والله أعلم .



الثاني : هل يشترط نية القدوة بالخليفة في الجمعة وغيرها من الصلوات ؛ وجهان الأصح : لا يشترط ، والثاني : يشترط ؛ لأنهم بحدث الأول صاروا منفردين ، وإذا لم يستخلف الإمام قدم القوم واحدا بالإشارة ، ولو تقدم واحد بنفسه جاز ، وتقديم المقدم أولى من استخلاف الإمام ؛ لأنهم

[ ص: 236 ] المصلون .

قال إمام الحرمين : ولو قدم الإمام واحدا ، والمقدم آخر ، فأظهر الاحتمالين أن من قدمه المقدم أولى ، فلو لم يستخلف الإمام ، ولا القوم ، ولا تقدم أحد ، فالحكم ما ذكرناه تفريعا على منع الاستخلاف . قال الأصحاب : ويجب على القوم تقديم واحد إن كان خروج الإمام في الركعة الأولى ، ولم يستخلف ، وإن كان في الثانية لم يجب التقديم ، ولهم الانفراد بها كالمسبوق .

قلت : ومقتضى كلام أصحابنا أن الاستخلاف حق الإمام ؛ لأنه له الولاية من ولي الأمر ، وليس للمأمومين أن يستخلفوا ، وهذا مبني على أن إذن السلطان أو نائبه شرط عندنا . والله أعلم .



الثالث : هذا كله إذا أحدث في أثناء الصلاة ، فلو أحدث بين الخطبة والصلاة ، فإذا أراد أن يستخلف من يصلي إن جوزنا الاستخلاف في الصلاة جاز وإلا فلا يجوز ؛ بل إن اتسع الوقت خطب بهم آخر ، وصلى ، وإلا صلوا الظهر ، وقال بعض الأصحاب : إن جوزنا الاستخلاف في الصلاة ، فهنا أولى ، وإلا ففيه الخلاف ، وعكس الشيخ أبو محمد ، فقال : إن لم نجوزه في الصلاة ، فهنا أولى ، وإلا ففيه الخلاف ، والمذهب استواؤهما ، ثم إذا جوزنا فشرطه أن يكون الخليفة سمع الخطبة على المذهب ، وبه قطع الجمهور ؛ لأن من لم يسمع ليس من أهل الجمعة ، ولهذا لو بادر أربعون من السامعين بعد الخطبة ، فعقدوا الجمعة انعقدت لهم بخلاف غيرهم ، وإنما يصير غير السامع من أهل الجمعة إذا دخل الصلاة ، وحكى صاحب التتمة وجهين في استخلاف من لم يسمع ، ولو أحدث في أثناء الخطبة ، وشرطنا الطهارة فيها ، فهل يجوز الاستخلاف ؟ إن منعناه في الصلاة ، فهنا أولى ، وإلا فالصحيح جوازه كالصلاة .



الرابع : لو صلى مع الإمام ركعة من الجمعة ، ثم فارقه بعذر أو بغيره ، وقلنا : لا تبطل الصلاة بالمفارقة أتمها جمعة كما لو أحدث الإمام .



الخامس : إذا تمت صلاة الإمام ، ولم تتم صلاة المأمومين فأرادوا استخلاف من يتم بهم إن لم نجوز الاستخلاف للإمام لم يجز لهم ، وإلا فإن كان في الجمعة بأن كانوا مسبوقين لم يجز ؛ لأن الجمعة لا تنشأ بعد جمعة ، وإن كان في غيرها بأن كانوا مسبوقين ، أو مقيمين ، وهو مسافر ، فالأصح المنع ؛ لأن الجماعة حصلت ، وإذا أتموا فرادى نالوا فضلها .



السادس : قال أبو حنيفة : إمام خطب وهو جنب ، ثم ذهب واغتسل ، ورجع وصلى ، جاز ، وهذا مبني على أن الموالاة بين الخطبة والصلاة شرط ، وهو الصحيح ، فعد ذهابه واغتساله ليس من العمل الكثير القاطع ؛ بل هو من أعمال الصلاة ، وهكذا صرح به في الظهيرية ، والعتابية ، والعيون ، وخالفهم الناطفي في الواقعات فأفتى بعدم الجواز ، وقال : هذا ليس من عمل الصلاة ، وأيد صاحب المنتقى قول الإمام ، وهل يجب إعادة الخطبة أم لا ؟ ففي الحجة لا يجب ، ومثله في المحيط ، ولكنه إن تعمد ذلك كان مسيئا ، ونقل صاحب الذخيرة ، عن أبي حنيفة ، وأبي يوسف عدم الإعادة ، ونقل صاحب الظهيرية ، عن أبي يوسف الإعادة ، إلا أنه قال : إن لم يعد أجزأه . والله أعلم .

وذكر الرافعي في مسألة الانفضاض بأن الأظهر أن الموالاة في الخطبة واجبة ، فإذا عاد المنفضون قبل طول الفصل بنى على خطبته ، وبعد طوله قولان ، فعلى القول بوجوب الموالاة يجب الاستئناف ، ولو لم يعد الأولون ، واجتمع بدلهم أربعون وجب استئناف الخطبة طال الفصل أو قصر ، وفي اشتراط الموالاة بين الخطبة والصلاة ، قولان الأظهر الاشتراط .



السابع : مسألة الزحام إنما تذكر في الجمعة ؛ لأن الزحمة فيها أكثر ، ولأنه تجتمع فيها وجوه من الإشكال ما لا تجري في غيرها ، فإذا منعته الزحمة في الجمعة السجود على الأرض مع الإمام في الركعة الأولى ، نظر ؛ إن أمكنه أن يسجد على ظهر إنسان ، أو رجله لزمه ذلك على الصحيح الذي قطع به الجمهور إذا قدر على هيئة الساجدين بأن يكون على موضع مرتفع ، فإن لم يكن ، فالمأتي به ليس بسجود ، وإذا تمكن من ذلك ، ولم يسجد ، فهو تخلف بغير عذر على الأصح ، ولو لم يتمكن من السجود على الأرض ، ولا على الظهر ، فأراد أن يخرج عن المتابعة ، ويتمها ظهرا ، ففي صحتها قولان ؛ قال إمام الحرمين : ويظهر منعه من الانفراد ؛ لأن إقامة الجمعة واجبة ، فالخروج منها عمدا مع توقع إدراكها لا وجه له ، فأما إذا دام على المتابعة ، فما يصنع فيه أوجه ؛ الصحيح ينتظر التمكن فيسجد ، فإذا فرغ من سجوده ، فللمأموم أحوال أربعة ؛ أصحها أن له حكم المسبوق فيتابعه فيما هو فيه ، ويقوم عند سلام الإمام إلى ركعة ثانية ، وإذا تخلف يجري على ترتيب نفسه ، فالوجه أن يقتصر على الفرائض

[ ص: 237 ] فعسى أن يدرك الإمام ، وإذا لم يتمكن من السجود حتى ركع الإمام في الثانية ، ففيه قولان أظهرهما يتابعه ، فإن وافقه حسب له بالركوع الأول ، والثاني بالثاني ، وإن خالفه حصلت له الركعة الثانية بكاملها ، فإذا سلم الإمام ضم إليها أخرى ، وتمت جمعته بلا خلاف ، وعلى الأول حصلت له ركعة ملفقة من ركوع الأولى ، وسجود الثانية ، وفي إدراك الجمعة بالركعة الملفقة وجهان أصحهما تدرك ، وفي إدراكها بالركعة الحكمية وجهان كالملفقة أصحهما الإدراك ، فانظر تفصيل ذلك في شرح الرافعي الكبير .



الثامن : قال إمام الحرمين : لو رفع المزحوم رأسه من السجدة الثانية ، فسلم الإمام قبل أن يعتدل المزحوم ، ففيه احتمال ، والظاهر أنه مدرك للجمعة . أما إذا كان الزحام في سجود الركعة الثانية ، وقد صلى الأولى مع الإمام فيسجد متى تمكن قبل سلام الإمام أو بعده ، وجمعته صحيحة ، فإن كان مسبوقا لحقه في الثانية ، فإن تمكن قبل سلام الإمام سجد وأدرك ركعة من الجمعة ، وإلا فلا جمعة له ، وأما إذا زحم عن ركوع الأولى حتى ركع الإمام في الثانية فيركع . قال الأكثرون : ويعتد له بالركعة الثانية ، وتسقط الأولى ، ومنهم من قال : الحاصل ركعة ملفقة .



التاسع : إذا عرضت حالة في الصلاة تمنع من وقوعها جمعة في صور الزحام ، وغيرها ، فهل يتم صلاته ظهرا ؟ قولان يتعلقان بأصل ، وهو أن الجمعة ظهر مقصورة أم صلاة على حيالها ؟ وفيه قولان اقتضاهما كلام الشافعي .

قال النووي : أظهرهما صلاة بحيالها ، فإن قلنا : ظهر مقصورة ، فإذا فات بعض شروط الجمعة أتمها ظهرا كالمسافر إذا فات شرط قصره ، وإن قلنا : فرض على حياله ، فهل يتمها ؟ وجهان ، والصحيح مطلقا أنه يتمها ظهرا ، لكن هل يشترط أن يقصد قلبها ظهرا أم تنقلب ظهرا ؟ وجهان في النهاية . قال النووي : الأصح لا يشترط ، وهو مقتضى كلام الجمهور ، وإذا قلنا : لا يتمها ظهرا ، فهل تبطل أم تبقى نفلا ؟ فيه قولان .



العاشر : هل يشترط في صحة الخطبة الطهارة عن الحدث ، والنجس في البدن ، والثوب ، والمكان ، وستر العورة ؟ قولان الجديد اشتراط كل ذلك ، ثم قيل : الخلاف مبني على أنهما بدل من الركعتين أم لا ، وقيل : على أن الموالاة في الخطبة شرط أم لا ؟ فإن شرطنا الموالاة شرطنا الطهارة ، وإلا فلا ، ثم قال صاحب التتمة : يطرد الخلاف في اشتراط الطهارة عن الحدث الأصغر ، والجنابة ، وخصه صاحب التهذيب بالحدث الأصغر . قال : فأما الجنب ، فلا تحسب خطبته قولا واحدا ؛ لأن القراءة شرط ، ولا تحسب قراءة الجنب ، وهذا أصح . قال النووي : الصحيح ، أو الصواب قول صاحب التتمة .

وقد جزم به الرافعي في المحرر ، وقطع الشيخ أبو حامد ، والماوردي ، وآخرون بأنه لو بان لهم بعد فراغ الجمعة أن إمامها كان جنبا أجزأتهم ، ونقله أبو حامد ، والأصحاب عن نصه في الأم ، ثم إذا شرطنا الطهارة ، فسبقه حدث في الخطبة لم يعتد بما يأتي به في حال الحدث ، وفي بناء غيره عليه الخلاف ، فلو تطهر وعاد ، وجب الاستئناف إن طال الفصل ، وشرطنا الموالاة ، وإلا فوجهان أظهرهما الاستئناف ، وقال أصحابنا : الطهارة من الحدث ، والخبث ، وستر العورة سنتان في الخطبة ، وليسا بشرط على المشهور من المذهب قالوا : لأن الخطبة ليست كالصلاة ، ولا كشرطها بدليل أنها تؤدى إلى غير جهة القبلة ، ولا يفسدها الكلام ، وما ورد في الأثر من أنها كركعتي الصلاة احتياطا كإعادة أذانه ، وفي مجمع الروايات ، وإن خطب على غير طهارة جاز ، وكره ، إلا أنه روي عن أبي يوسف أنه قال : الطهارة شرط ، وما بقي من أحكام البناء ، والاستئناف ، فقد تقدم في التنبيه السادس .



الحادي عشر : قال المصنف في الوجيز : هل يحرم الكلام على من عدا الأربعين ؟ فيه قولان . قال الرافعي في شرحه : هذا النقل بعيد في نفسه ، ومخالف لما نقله الأصحاب . أما بعده في نفسه ، فلأن كلامه مفروض في السامعين للخطبة ، وإذا حضر جماعة يزيدون على أربعين ، فلا يمكن أن يقال : تنعقد الجمعة بأربعين منهم على التعيين ، فيحرم الكلام عليهم قطعا ، والخلاف في الباقين ؛ بل الوجه الحكم بانعقاد الجمعة بهم ، أو بأربعين منهم لا على التعيين ، وأما مخالفته لنقل الأصحاب ، فلأنك لا تجد للأصحاب إلا إطلاق قولين في السامعين ، ووجهين في غيرهم . والله أعلم .



الثاني عشر : هل نية

[ ص: 238 ] الخطبة ، وفرضيتها شرط أم لا ؟
اشترطها القاضي حسين في التعليقة ، وقال أصحابنا : لا تكون الخطبة إلا بقصدها حتى لو عطس الخطيب ، فحمد له ؛ أي : للعطاس لا ينوب عن الخطبة ، فهو شرط ، كما مر عن القاضي حسين .


الثالث عشر : الترتيب بين أركان الخطبة الثلاثة ، فأوجب صاحب التهذيب أن يبدأ بالحمد ، ثم الصلاة ، ثم الوصية ، ولا ترتيب بين القراءة ، والدعاء ، ولا بينهما وبين غيرهما ، وقطع صاحب العدة ، وآخرون بأنه لا يجب في شيء من الألفاظ قالوا : لكن الأفضل الرعاية ، وقطع صاحب الحاوي ، وكثير من العراقيين بأنه لا يجب الترتيب ، ونقل في الحاوي عن نص الشافعي .


الرابع عشر : قال أصحابنا : من جملة شروط صحة الجمعة الإذن العام ؛ لأنها من شعائر الإسلام ، فلزم إقامتها على سبيل الاشتهار ، والعموم فيأذن الإمام للناس إذنا عاما بإقامتها حتى لو أغلق باب قصره ، والمحل الذي يصلي فيه بأصحابه لم تجز ، وإن صلى في قصره ، وأذن للناس بالدخول فيه تجوز شهدتها العامة أو لا ، ولكن يكره ، وإن منع الإمام أهل بلد أن يجمعوا . قال الفقيه أبو جعفر : ينظر إن كان المنع مجتهدا لسبب من الأسباب ، وأراد أن يخرج ذلك الموضوع عن أن يكون مصرا صح نهيه ، وليس لهم أن يجتمعوا بعد ذلك ؛ لأنه كما أن له أن بمصر موضعها ، فله أن يخرج موضعها من أن يكون مصرا ، وإن نهاهم متعنتا ، أو إضرارا بهم كان لهم أن يجتمعوا على رجل يصلي بهم الجمعة ؛ لأن منعه على هذا الوجه معصية ، ولا طاعة له في المعصية ، ثم إن هذا الشرط رواية النوادر ، وليس هو في ظاهر الرواية ؛ ولذا لم يذكره صاحب الهداية ، وإنما ذكره صاحب الكنز ، كما في البدائع للكاساني ، ونقل عنه صاحب البحر ، وفي المبسوط ، ونقل عنه في البرهان .



الخامس عشر : قال صاحب الإفصاح ، والمحاملي : المستحب أن يكون المؤذن للجمعة واحدا ، وأشار إليه الغزالي ، وفي كلام بعض الأصحاب إشعار باستحباب تعديد المؤذنين .



السادس عشر : يجوز إقامة الجمعة بمنى في الموسم للخليفة أو أمير الحجاز لا أمير الموسم ؛ لأنه يلي أمور الحاج لا غير عند أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، وقال محمد : لا تصح بها ؛ لأنها من القرى ، ولهما أنها تتمصر في أيام الموسم بخلاف عرفات ؛ لأنها فضاء ، فلا تقام بها جمعة .



السابع عشر : يسن أن ينزل الخطيب بعد فراغه من الخطبة على سكينة ، ووقار قائلا : أستغفر الله لي ولكم ، ويأخذ المؤذن في الإقامة ، ويبتدر ليبلغ المحراب مع فراغ المقيم .



الثامن عشر : يكره للخطيب الدق على درج المنبر عند صعوده ، ونزوله ، والدعاء إذا انتهى صعوده قبل أن يجلس ، وربما توهموا أنها ساعة الإجابة ، وهذا جهل ؛ فإن ساعة الإجابة إنما هي بعد جلوسه ، كما سيأتي ، ويكره له الإسراع في الخطبة الثانية ، نبه عليه النووي ، وغيره .



التاسع عشر : من بعضه حر وبعضه عبد لا جمعة عليه ، وفيه وجه شاذ أنه إذا كان بينه وبين سيده مهايأة لزمه الجمعة الواقعة في نوبته ، ولا تنعقد به بلا خلاف .



العشرون : الغريب إذا أقام ببلد واتخذه وطنا صار له حكم أهله في وجوب الجمعة ، وانعقادها به ، وإن لم يتخذه وطنا ، بل عزمه الرجوع إلى بلده بعد مدة يخرج بها عن كونه مسافرا قصيرة ، أو طويلة كالمتفقه ، والتاجر لزمه الجمعة ، ولا تنعقد به على الأصح .



الحادي والعشرون : العذر المبيح ترك الجمعة يبيحه ، وإن طرأ بعد الزوال إلا السفر ، فإنه يحرم إنشاؤه بعد الزوال ، وقيل : فيما يجوز بعد الفجر ، وقبل الزوال قولان .

قال في القديم ، وحرملة يجوز ، وفي الجديد لا يجوز ، وهو الأظهر عند العراقيين ، وقيل : يجوز قولا واحدا . هذا في السفر المباح . أما الطاعة ، واجبا كان كالحج أو مندوبا ، فلا يجوز بعد الزوال ، وأما قبله فقط فقطع كثيرون من الأئمة بجوازه ، ومقتضى كلام العراقيين أنه على الخلاف كالمباح ، وحيث قلنا : يحرم ، فله شرطان أحدهما : أن لا ينقطع عن الرفقة ، ولا يناله ضرر في تخلفه للجمعة ، فإن انقطع ، وفات سفره بذلك أو ناله ضرر ، فله الخروج بعد الزوال بلا خلاف ، كذا قاله الأصحاب ، وقال الشيخ أبو حاتم القزويني في جوازه بعد الزوال لخوف الانقطاع عن الرفقة وجهان . الشرط الثاني : أن لا يمكنه صلاة الجمعة في منزله ، أو طريقه ، فإن أمكنت ، فلا يمنع بحال .

قال النووي : الأظهر تحريم السفر المباح ، والطاعة قبل الزوال ، وحيث حرمناه بعد الزوال ، فسافر كان عاصيا ، فلا يترخص ما لم تفت الجمعة حيث كان فواتها يكون ابتداء سفره . قاله القاضي حسين ، وصاحب التهذيب ،

[ ص: 239 ] وهو ظاهر . والله أعلم .

وقال أصحابنا : كره لمن تجب عليه الجمعة الخروج من المصر يومها بعد النداء ما لم يصل ، واختلفوا في النداء ، فقيل : الأذان الأول ، وقيل : الثاني ، وأما إذا خرج قبل الزوال ، فلا بأس به بلا خلاف ، كذا في التتارخانية ، وسواء كان سفر طاعة ، أو غيره ، وكذا يجوز له السفر بعد الفراغ من الجمعة ، وإن لم يدركها . والله أعلم .



الثاني والعشرون : المعذورون في ترك الجمعة ضربان أحدهما : يتوقع زوال عذره كالعبد ، والمريض يتوقع الخفة فيستحب تأخير الظهر إلى اليأس من إدراك الجمعة لاحتمال تمكنه منها ، ويحصل اليأس برفع الإمام رأسه من الركوع الثاني على الصحيح ، وعلى الشاذ يراعى تصور الإدراك في حق كل واحد ، فإذا كان منزله بعيدا ، فانتهى الوقت إلى حد لو جد في السعي لم يدرك الجمعة حصل الفوات في حقه . الضرب الثاني : من لا يرجو زوال عذره كالمرأة ، والزمن ، فالأولى أن يصلي الظهر في أولى الوقت لفضيلة الأولية .

قال النووي : هذا اختيار أصحابنا الخراسانيين ، وهو الأصح ، وقال العراقيون : هذا الضرب كالأول فيستحب لهم تأخير الظهر ؛ لأن الجمعة صلاة الكاملين ، فقدمت ، والاختيار التوسط ، فيقال : إن كان هذا الشخص جازما بأنه لا يحضر الجمعة ، وإن تمكن منها استحب تقديم الظهر ، وإن كان لو تمكن أو نشط حضرها استحب التأخير كالضرب الأول . والله أعلم .

وإذا اجتمع معذورون استحب لهم الجماعة في ظهرهم على الأصح . قال الشافعي - رحمه الله - : واستحب لهم إخفاء الجماعة لئلا يتهموا . قال الأصحاب : هذا إذا كان عذرهم خفيا فإن كان ظاهرا ، فلا تهمة كالشافعية بمصر مثلا ، ومنهم من استحب الإخفاء مطلقا ، وقال أصحابنا : كره للمعذور ، والمسجون أداء الظهر بجماعة في المصر يوم الجمعة ، وكذا صلاة الظهر منفردا قبل صلاة الجمعة في الصحيح ، ويستحب له تأخيره عنها . أهـ .

وقال الرافعي : ثم إذا صلى المعذور الظهر قبل فوات الجمعة ، فتلزمه ، والمستحب لهؤلاء حضور الجمعة بعد فعلهم الظهر ، فإن صلوا الجمعة ، ففرضهم الظهر على الأظهر ، أما إذا زال العذر في أثناء الظهر ، فقال القفال : هو كرؤية المتيمم الماء في الصلاة ، وهذا يقتضي خلافا في بطلان الظهر كالخلاف في بطلان صلاة المتيمم ، وذكر الشيخ محمد وجهين هنا ، والمذهب استمرار صحة الظهر ، وهذا الخلاف تفريع على إبطال ظهر غير المعذور إذا صلاها قبل فوات الجمعة ، فإن لم يبطلها ، فالعذر أولى ، وقال أصحابنا : المعذورون إن أدوا الجمعة جاز عن فرض الوقت ؛ لأن السقوط تخفيف للعذر ، فإذا تحمل ما لم يكلف به ، وهو الجمعة جاز عن فرض الوقت ، وهو الظهر ؛ كالمسافر إذا صام ، والأفضل لهم الجمعة ؛ لأن الظهر لهم يوم الجمعة رخصة ، فدل على أن العزيمة صلاة الجمعة ، وتستثنى منهم المرأة ، والخنثى ، ومن لا عذر له يمنعه عن حضور الجمعة لو صلى الظهر قبل صلاة الجمعة انعقد ظهره لوجود وقت أصل الفرض ، وهو الظهر في حق الكافة ، إلا أنه لما كان مأمورا بإسقاطه بالجمعة حرم عليه فعل الأصل ، وكان انعقاده موقوفا فإن سعى إليها ، وكان الإمام فيها ، أو أقيمت بعدما سعى إليها بطل ظهره ، وصار نفلا ، وكذا حكم المعذور لو صلى الظهر ، ثم سعى إلى الجمعة بطل ظهره ، وإن لم يدركها ، وهذا عند أبي حنيفة على تخريج البلخيين ، وهو الأصح ، ثم إن المعتبر في السعي الانفصال من داره ، فلا يبطل ظهره قبله على المختار ، وقيل : إذا خطا خطوتين في البيت الواسع يبطل ، ولا يبطل إذا كان السعي مقارنا للفراغ منها أو بعده أو لم تقم الجمعة أصلا ، وقال : لا يبطل ظهره حتى يدخل مع القوم ، وفي رواية حتى يتمها حتى لو قصدها بعد ما شرع فيها لا يبطل ظهره على هذه الرواية ، وقول الإمام هنا أحوط ، ولو صلى مسافر الظهر إماما ، ثم حضر الجمعة ، فصلاها فهي فرضه ، وجازت صلاة أولئك ، ولو قدمه الإمام لسبق حدث جازت صلاة القوم ؛ لأن ظهره ارتفض في حقه دون أولئك الذين صلى بهم قبل دخوله المصر ، فصار في حق الفريق الثاني كأنه لم يصل الظهر ، كذا في التبيين ، والغاية ، وفتح القدير ، نقلا عن جامع الجوامع ، والتجنيس ، وقال الرافعي في شرح الوجيز : من لا عذر له إذا صلى الظهر قبل فوات الجمعة لم تصح ظهره على الجديد ، وهو الأظهر ، وتصح على القديم . قال الأصحاب : القولان مبنيان على أن الفرض

[ ص: 240 ] الأصلي يوم الجمعة ماذا ؟ فالجديد أنه الجمعة ، والقديم أنه الظهر ، وأن الجمعة بدل فإن صلى الظهر بعد ركوع الإمام في الثانية ، وقبل سلامه ، فقال ابن الصباغ : ظاهر كلام الشافعي بطلانها - يعني على الجديد - ، ومن الأصحاب من جوزها . والله أعلم .




الخدمات العلمية