الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وبما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت ، ومن اغتسل ، فالغسل أفضل .

التالي السابق


ثم قال المصنف : (وبما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت ، ومن اغتسل ، فالغسل أفضل ) أخرجه أحمد ، وابن أبي شيبة ، والدارمي ، وأبو داود ، والترمذي ، وحسنه ، والنسائي ، وأبو يعلى ، وابن جرير في تهذيبه ، وابن خزيمة في صحيحه ، والطحاوي ، والبيهقي ، وابن النجار ، والطبراني في الكبير ، والضياء في المختارة ؛ كلهم من طريق الحسن ، عن سمرة بن جندب قال في الإمام : من يحمل رواية الحسن ، عن سمرة على الاتصال بصحيح هذا الحديث . قال الحافظ ابن حجر : وهو مذهب ابن المديني ، وقيل : لم يسمع منه إلا حديث العقيقة . أهـ .

قلت : وسمع منه حديث السكتتين في الصلاة ، كما تقدم ، وأخرجه ابن ماجه ، والطبراني في الأوسط ، والدارقطني في الأفراد ، والبيهقي في المعرفة ، والضياء ، عن أنس ، وأخرجه عبد بن حميد ، والطحاوي ، عن جابر ، وأما معنى الحديث ، فقال الزمخشري : الباء في قوله فبها متعلقة بفعل مضمر ، أي : فبهذه الخصلة ، أو الفعلة تنالوا الفضل ، والخصلة هي الوضوء ، وقوله : ونعمت ، أي : نعمت الخصلة هي ، فحذف المخصوص بالمدح ، وقيل : أي : فبالرخصة أخذ ، ونعمت السنة التي ترك ، وفيه انحراف عن مراعاة حق اللفظ ، فإن الضمير الثاني يرجع إلى غير ما يرجع إليه الضمير الأول ، وقال غيره : هو كلام يطلق للتجويز ، والتحسين ، أي : فأهلا بتلك الخصلة ، أو الفعلة المحصلة للواجب ، ونعمت الخصلة هي ، أو المعنى : فبالسنة أخذ ، أي : بما جوزته من الاقتصار على الوضوء ، ونعمت الخصلة هي ؛ لأن الوضوء تطهير للبدن إذ البدن باعتبار ما يخرج منه من الحدث غير متجزئ ، فكان الواجب غسل جميعه ، غير أن الحدث الخفيف لما كثر وقوعه كان في إيجابه حرج فاكتفى الشارع بغسل الأعضاء التي هي الطرف تسهيلا على العباد ، وجعل طهارة لكل البدن ، وقوله : فالغسل أفضل ، أي : أفضل من الاقتصار على الوضوء ؛ لأنه أكمل وأشمل ، فالحديث فيه دلالة على ندب الغسل لا إيجابه .



(فصل)

في بيان فوائد أحاديث الباب المذكورة

الأولى : قوله : من أتى الجمعة ؛ الإتيان هو المجيء مترادفان ، وفي الصحيحين من جاء منكم ، وإذا جاء أحدكم ، وعند البخاري : إذا جاء منكم ، وإذا جاء أحدكم ، وعند البخاري : إذا راح أحدكم ، ولكن الرواح قد يختص بالسير في وقت الزوال ، والصحيح إطلاقه ، وسيأتي الكلام عليه ، ولفظ مسلم : إذا أراد أحدكم أن يأتي الجمعة ، والمعنى إذا أراد الإتيان ، أو المجيء دل عليه لفظ مسلم هذا ، فلا تتضاد الروايات ، وهو يرد على أهل الظاهر قولهم إنه يصح الاغتسال في جميع النهار ، ولو قبيل الغروب ، وقال ابن حزم : وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - : إذا راح أحدكم ، فظاهر هذا اللفظ أن الغسل بعد الرواح ، كما قال تعالى : فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة أو مع الرواح كما قال تعالى : إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن أو قبل الرواح كما قال تعالى : إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ، وكل ذلك ممكن . قال العراقي : لولا رواية : إذا أراد لكان ظاهر الحديث أن الاغتسال بعده ، كما في قوله تعالى : فإذا اطمأننتم ، لكن تلك الرواية صرحت بكونه قبله .

الثانية : ذكر المجيء ، والإتيان في الروايات المتقدمة للغالب ، وإلا فالحكم شامل لمجاور الجامع ، ومن هو مقيم به .

الثالثة : قوله من شهد الجمعة تقدم أن ابن حبان ، والبيهقي روياه بلفظ : من أتى ، فحينئذ يحمل الشهود بمعنى الإتيان ، والمجيء ، أو هو بمعنى الحضور على أصله ، وسيأتي ما يتعلق به .

الرابعة : قوله : فليغتسل أظهر في إيجاب الغسل من حديث قصة عثمان ؛ لأن

[ ص: 247 ] هذه الصيغة حقيقة في الوجوب ، بخلاف قوله في قصة عثمان كان يأمر بالغسل ، فإنه يحتمل الوجوب ، والاستحباب ، كما هو مقرر في الأصول .

الخامسة : تعلق الظاهرية بإضافة الغسل لليوم في حديث أبي سعيد ، وغيره ، وذكر الشيخ تقي الدين في شرح العمدة أن هذا القول يكاد أن يكون مجزوما ببطلانه . قال : وقد بين في بعض الأحاديث أن الغسل لأجل الروائح الكريهة ، ويفهم منه أن المقصود عدم تأذي الحاضرين ، وذلك لا يتأتى بعد إقامة الجمعة . قال : وكذلك أقول : لو قدمته بحيث لا يحصل هذا المقصود لم يعتد به ، والمعنى إذا كان معلوما قطعا ، أو ظنا مقاربا للقطع فاتباعه ، وتعليق الحكم به أولى من اتباع مجرد اللفظ . قال : ومما يبطله أن الأحاديث التي علق فيها الأمر بالمجيء ، والإتيان قد دلت على توجه الأمر إلى هذه الحالة ، والأحاديث التي تدل على تعليق الحكم باليوم لا تتناول تعليقه بهذه الحالة فافهم ، فهو إذا تمسك بتلك أبطل دلالة هذه الأحاديث على تعلق الأمر بهذه الحالة ، وليس له ذلك .

السادسة : قد علم من تقييد الغسل بالمجيء ، والإتيان أن الغسل للصلاة لا لليوم ، وهو مذهب الشافعي ، ومالك ، وأبي حنيفة ، ومحمد بن الحسن ، فلو اغتسل بعد الصلاة لم يكن للجمعة ، ونقل صاحب الهداية ، عن أبي يوسف كذلك ، فما نسب إليه ابن حزم أنه كان يقول : إن الغسل لليوم لا أصل له ، أو أنه رواية عنه ؛ نعم روي ذلك عن الحسن بن زياد من أئمتنا ، وقد خالفهم الظاهرية وانفردوا بهذا القول ، وخرقوا الإجماع ، ونسبتهم لظاهر أقوال الصحابة غير صحيح ، فإن المفهوم من كلامهم أن المقصود قطع الروائح الكريهة للحاضرين ، وهذا مفقود فيما بعد الصلاة ، وقد حكى ابن عبد البر الإجماع على أن من اغتسل بعد الصلاة ، فليس بغسل السنة ، ولا الجمعة ، ولا فاعل ما أمر به .

السابعة : استدل مالك برواية البخاري : من راح إلى الجمعة أنه يعتبر أن يكون الغسل متصلا بالذهاب إلى الجمعة ، وذهب الجمهور إلى أن ذلك مستحب ، ولا يشترط اتصاله به ؛ بل حتى لو اغتسل بعد الفجر أجزأه ، ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه ، عن مجاهد ، والحسن البصري ، والنخعي ، وعطاء بن أبي رباح ، وأبي جعفر الباقر ، والحكم ، والشعبي ، وحكاه ابن المنذر عن الثوري ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبي ثور ، وبه قال ابن وهب صاحب مالك ، وقال الأوزاعي يجزئه أن يغتسل قبل الفجر للجنابة ، والجمعة ، وحكى ابن حزم عن الأوزاعي أنه قال كقول مالك قال : إلا أن الأوزاعي قال : إن اغتسل قبل الفجر ، ونهض إلى الجمعة أجزأه ، وحكاه إمام الحرمين وجها ، وقد نسبه النووي للشذوذ ، كما تقدم وجواب الجمهور أن رواية مسلم تبين تعليق الغسل على إرادة إتيان الجمعة ، وليس يلزم أن يكون إتيان الجمعة متصلا بإرادة ذلك ، فقد يريد عقيب الفجر إتيانها ، ويتأخر الإتيان إلى بعد الزوال ، فلا شك أن كل من تجب عليه الجمعة ، وهو مواظب على الواجبات إذا خطر له عقب الفجر أمر الجمعة أراد إتيانها ، وإن تأخر الإتيان زمنا طويلا ، وذلك بدل على أنه ليس المدار على نفس الإتيان ؛ بل على إرادته ليحترز به عمن هو مسافر ، أو معذور بغير ذلك من الأعذار القاطعة عن الجمعة . والله أعلم .

الثامنة : مفهوم قوله من شهد الجمعة ، وكذا من جاء منكم الجمعة أنه لا يستحب لمن لم يحضرها ، وقد ورد التصريح بهذا المفهوم في رواية البيهقي المتقدمة ، ومن لم يأتها ، فليس عليه غسل من الرجال ، والنساء ، وهو أصح الوجهين عند الشافعية ، وهو مذهب مالك ، وأحمد ، وحكي عن الأكثرين ، وبه قال أبو يوسف ، والوجه الثاني للشافعية أنه يستحب لكل أحد ، سواء حضر الجمعة أم لا كالعبد ، وبه قال أبو حنيفة ، ومحمد ، وحكى النووي في الروضة وجها أنه إنما يستحب لمن تجب عليه الجمعة ، وإن لم يحضرها لعذر ، ومذهب أهل الظاهر وجوب الاغتسال ذلك اليوم على كل مكلف مطلقا ؛ لأنهم يرونه لليوم . قال ابن حزم : وهو لازم للحائض ، والنفساء كلزومه لغيرهما . قال العراقي : وقد أبعد في ذلك جدا .

التاسعة : قال أبو بكر بن العربي : لما فهم بعض أصحابنا أن المقصود من الغسل يوم الجمعة النظافة قال : إنه يجوز بماء الورد ، وهذا النظر من رده إلى المعنى المعقول ، ونسي حظ التعبد في التعيين ، وهو بمنزلة من قال : الغرض من رمي الجمار غيظ الشيطان ، فيكون بالمطارد ، ونحوها ، ونسي حظ التعبد بتعيين في المعنى ، وإن كان معقولا . أهـ .

قلت : إن أراد بذلك أن يتبع بماء الورد على جسده بعد الاغتسال بأن [ ص: 248 ] يصبه عليه حتى يعم بدنه لا بأس بذلك، وقد أمرنا ذلك اليوم بالتطيب، وسماه اغتسالا مجازا، كما قالوا: ويسن أن يغتسل بعد الحمام، وإلا فغسله إسراف وإضاعة مال، كما لا يخفى .



العاشرة: إذا عجز عن الغسل لفراغ الماء بعد الوضوء، أو لقروح في بدنه تيمم، وحاز الفضيلة. قال إمام الحرمين: هذا الذي قالوه هو الظاهر، وفيه احتمال، ورجح الغزالي هذا الاحتمال، وهو مذهب المالكية.

قلت: ومقتضى مذهب أصحابنا الأولى أن لا يتيمم، وتعليل ذلك ظاهر، فإن الغسل شرع للتنظيف، والتيمم لا يفيد هذا الغرض. والله أعلم .



الحادية عشرة: قالت المالكية: من اغتسل، ثم اشتغل عن الرواح إلى أن بعد ما بينهما عرفا، فإنه يعيد الغسل لتنزيل البعد منزلة الترك، وكذا إذا نام اختيارا بخلاف من غلبه النوم، أو أكل أكلا كثيرا بخلاف القليل. اهـ .

ومقتضى النظر أنه إذا عرف أن الحكمة في الأمر بالغسل يوم الجمعة التنظيف رعاية للحاضرين، فمن خشي أن يصيبه في النهار ما يزيل تنظيفه استحب له أن يؤخر الغسل لوقت ذهابه، كما تقدم في قول المصنف، وبه صرح في الروضة، وغيرها .



الثانية عشرة: في حديث أبي سعيد الخدري: غسل يوم الجمعة واجب. قالوا: المراد به أنه كالواجب في تأكيد الندبية، أو واجب في الاختيار، وكرم الأخلاق، والنظافة، أو في الكيفية لا في الحكم، وقيل: واجب بمعنى ساقط، وعلى بمعنى عن، وهذا قد أورده الإمام أبو جعفر القدوري عن أصحابنا، وفيه من التكلف ما لا يخفى، ومنهم من ادعى أن حديث أبي سعيد هذا منسوخ، وهذا أيضا ليس بشيء، فإن النسخ لا يصار إليه إلا بدليل، ومجموع الأحاديث تدل على استمرار الحكم، فإن في حديث عائشة أن ذلك في أول الحال حيث كانوا مجهودين، وأبو هريرة وابن عباس إنما صحبا النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد أن حصل التوسع بالنسبة إلى ما كانوا فيه أولا، ومع ذلك، فقد سمع كل منهما من النبي -صلى الله عليه وسلم- الأمر بالغسل، والحث عليه، والترغيب فيه، فكيف يدعى النسخ مع ذلك، والله أعلم .



الثالثة عشرة: قول المصنف في سياق قصة عثمان، وعمر - رضي الله عنهما - أهذه الساعة؟ هكذا لفظ القوت، والمصنف في الغالب يتبعه، ولفظ الصحيحين: أية ساعة هذه؟ وهو استفهام إنكار لينبه على ساعة التبكير التي رغب فيها، وليرتدع من هو دونه، أي: لم تأخرت إلى هذه الساعة؟ وإليه أشار المصنف بقوله: منكرا عليه ترك البكور، وفيه أمر الإمام رعيته بمصالح دينهم، وحثهم على ما ينفعهم في أخراهم، وفيه الإنكار على من خالف السنة، وإن عظم محله في العلم والدين، فإن الحق أعظم منه، وفيه أنه لا بأس بالإنكار على الأكابر بجمع من الناس إذا اقترنت بذلك نية حسنة .



الرابعة عشرة: فيه جواز الكلام في الخطبة، وقد استدل به على ذلك الشافعي، وهو أصح قوليه، والقول الثاني: تحريم الكلام، ووجوب الإنصات، وهو القول الآخر للشافعي، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وقد تقدمت الإشارة إليه، وسيأتي قريبا ما يتعلق به .



الخامسة عشرة: قول عثمان -رضي الله عنه- ما زدت بعد أن سمعت الأذان، ولفظ البخاري: فلم أنقلب إلى أهلي حتى سمعت التأذين، والمراد به هو الأذان الذي بين يدي الخطيب، وهو الأصل، وبه يستدل على أن السعي إنما يجب بسماعه، وأنه لا يجب شهود الخطبة على من زاد على العدد الذي تنعقد به الجمعة، وهو مذهب الشافعي، وقوله: على أن توضأت. هكذا هو رواية الأصيلي، وفي رواية غيره: فلم أزد أن توضأت، أي: لم أشتغل بعد أن سمعت الأذان بشيء إلا بالوضوء .



السادسة عشرة: قوله: فقال: الوضوء أيضا؟ أي: قال عمر إنكارا آخر على ترك السنة المؤكدة، وهي الغسل، والوضوء منصوب، والواو للعطف على الإنكار الأول، أي: والوضوء اقتصرت عليه، وأخرته دون الغسل، أي: ما اكتفيت بتأخير الوقت حتى تركت الغسل، وجوز فيه أبو العباس القرطبي في شرح مسلم الرفع أيضا على أنه مبتدأ، وخبره محذوف تقديره الوضوء تقتصر عليه، والأول أوجه، وهو المعروف في الرواية، وفي رواية الحموي والمستملي الوضوء بحذف الواو، وهكذا هو في الموطأ، وعلى هذه الرواية يجوز أن يكون بالمد على لفظ الاستفهام، كقوله تعالى: آلله أذن لكم ، وعلى رواية الواو، كما هنا يحتمل أن تكون الواو عوضا من همزة الاستفهام كقراءة ابن كثير: قال فرعون وآمنتم به. نقله البرماوي والزركشي، أو يجعل على حذف الهمزة، أي: أوتخص الوضوء أيضا،

[ ص: 249 ] وهو مذهب الأخفش، فإنه يقول بجواز حذفها قياسا عند أمن اللبس، والقرينة الحالية المقتضية للإنكار شاهدة بذلك، فلا لبس. نقله الدماميني، وقوله: "أيضا" منصوب على أنه مصدر من آض يئيض، أي: عاد، ورجع، ويرسم بالألف، وقد ولعت العامة الآن بترك الألف في رسمها اختصارا، والمعنى ألم يكفك أن فاتك فضل التكبير حتى أضفت إليه ترك الغسل المرغب فيه .

السابعة عشرة: قد يحتج به من يرى مطلق الأمر للندب دون الوجوب حيث لا قرينة، فإن عثمان -رضي الله عنه- ترك الاغتسال مع علمه بورود الأمر للندب.



الثامنة عشرة: قال ابن أبي شيبة في مصنفه؛ بعد أن أورد أقوال من ذهب إلى أن الوضوء يجزئ عن الغسل، فقال: باب من كان لا يغتسل في السفر يوم الجمعة، حدثنا هشيم، أخبرنا الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة أنه كان لا يغتسل يوم الجمعة. حدثنا ابن علية، عن ليث أن مجاهدا وطاوسا كانا لا يغتسلان في السفر يوم الجمعة. حدثنا غندر، عن شعبة، عن جابر قال: سألت القاسم عن الغسل يوم الجمعة في السفر، فقال: كان ابن عمر لا يغتسل، وأنا أرى أن لا تغتسل. حدثنا الفضل بن دكين، عن إسرائيل، عن جابر، عن عبد الرحمن بن الأسود، أن الأسود وعلقمة كانا لا يغتسلان يوم الجمعة في السفر، واقتضى كلام ابن أبي شيبة وإيراده أن هذا قول ثالث في المسألة مفصل. والله أعلم .

قلت: وهو مبني على الخلاف المتقدم: هل يجب على من شهدها، أو على العموم؟ وفيه تفصيل تقدم على أن ابن أبي شيبة قد عقد بعد هذا الباب بابا آخر لأقوال من كان يغتسل في السفر يوم الجمعة، فأورد عن عبد الله بن الحارث، وسعيد بن جبير، وطلق، وأبي جعفر، وطلحة أنهم كانوا يغتسلون في السفر يوم الجمعة. والله أعلم.



التاسعة عشرة: يترتب على الخلاف في أن الغسل للصلاة، أو لليوم أنه لا يسن لمن لم يحضر الصلاة، ويفوت بفعل الصلاة على الأول دون الثاني .

العشرون: في الأغسال المسنونة غسل الحج، وغسل العيدين، وغسل الجمعة، والغسل من غسل الميت، والغسل للإفاقة من الجنون والإغماء، وغسل الكافر إذا أسلم، ولم يكن جنبا، والغسل من الحجامة، والغسل من الحمام، وفي الكل خلاف مذكور في الروضة، وآكد الأغسال المسنونة غسل الجمعة؛ نص عليه في الجديد، وهو الراجح عند صاحب التهذيب، والروياني، والأكثرين، ورجح صاحب المهذب وغيره أن آكدها الغسل من غسل الميت، وهو الجديد، وفي وجه هما سواء، وقال النووي: الصواب الجزم بترجيح غسل الجمعة لكثرة الأخبار الواردة فيه، ولم يرد في الغسل من غسل الميت شيء، وفائدة الخلاف: لو حضر إنسان معه ماء يدفعه لأحوج الناس، وهناك رجلان، وأحدهما يريده لغسل الجمعة، والآخر للغسل من غسل الميت، وأما الغسل من الحمام، فقال صاحب التهذيب: المراد به إذا تنور، وقال النووي: هو صب الماء عند إرادته الخروج منه تنظفا، والله أعلم .



الحادية والعشرون: كان الشيخ محيي الدين ابن عربي - قدس سره - يذهب إلى ما قاله أهل الظاهر، ويؤيد إيجابه، وأنه ليومها، وهذا حاصل ما قاله: طهارة القلب للمعرفة بالله التي تعطيه صلاة الجمعة من حيث ما هو سبحانه واضع لهذه العبادة الخاصة بهذه الصورة، فإنه من أعظم علم الهداية التي هدى الله إليها هذه الأمة خاصة، وذلك أن الله تعالى اصطفى من كل جنس نوعا، ومن كل نوع شخصا، واختاره عناية منه بذلك المختار، أو عناية بالغير بسببه، وقد يختار من الجنس النوعين، والثلاثة، وقد يختار من النوع الشخصين، والثلاثة، والأكثر، فمن وجد نصا متواترا، فليقف عنده، أو كشفا محققا عنده، ومن كان عنده الخبر الواحد الصحيح، فليحكم به إن تعلق حكمه بأفعال الدنيا، وإن كان حكمه في الآخرة، فلا يجعله في عقيدته على التعيين، وليقل: إن كان هذا عن الرسول في نفس الأمر كما وصل إلينا فأنا مؤمن به، وبكل ما هو عن رسول الله، وعن الله مما علمت، وما لم أعلم، فإنه لا ينبغي أن يجعل في العقائد إلا ما يقطع به إن كان من النقل، فما ثبت بالتواتر، وإن كان من العقل، فما ثبت بالدليل العقلي ما لم يقدح فيه نص متواتر، وإن قدح فيه نص متواتر لا يمكن الجمع بينهما اعتقد

[ ص: 250 ] النص، وترك الدليل، والسبب في ذلك أن الإيمان بالأمور الواردة على لسان الشرع لا يلزم منها أن يكون الأمر الوارد في نفسه على ما يعطيه الإيمان، فيعلم العاقل أن الله قد أراد من المكلف أن يؤمن بما جاء به هذا النص المتواتر الذي أفاد التواتر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وإن خالف دليل العقل فبقي على علمه من حيث ما هو علم، ويعلم أن الله لم يرد به بوجود هذا النص أن يعلق الإيمان بذلك المعلوم، لا أنه يزول عن علمه، ويؤمن بهذا النص على مراد الله به، فإن أعلمه الحق في كشفه ما هو المراد بذلك الخطاب، وهل هذا الكشف يحرم علينا إظهاره في العامة؛ لما يؤدي إليه من التشويش، فليشكر الله على ما منحه، فهذه مقدمة نافعة في الطريق، ولما اختص الله من الشهور شهر رمضان، وسماه باسمه تعالى، كذلك اختص الله من أيام الأسبوع يوم العروبة، وهو يوم الجمعة، وعرف الأمم أن لله يوما اختصه من هذه السبعة الأيام، وشرفه على سائر أيام الأسبوع، ولهذا يغلط من يفضل بينه وبين يوم عرفة، ويوم عاشوراء، فإن فضل ذلك يرجع إلى مجموع أيام السنة لا إلى أيام الأسبوع، ولهذا قد يكون يوم عرفة يوم الجمعة، ويوم عاشوراء يوم الجمعة،.ويوم الجمعة لا يتبدل؛ لا يكون أبدا يوم السبت ولا غيره من الأيام، ففضل يوم الجمعة ذاتي لعينه، وفضل يوم عرفة، وعاشوراء، وغيره لأمور عرضت إذا وجدت في أي يوم كان من أيام الأسبوع كان الفضل لذلك اليوم لهذه الأحوال والعوارض، فيدخل مفاضلة عرفة وعاشوراء في المفاضلة بين الأسباب العارضة الموجبة للفضل في ذلك النوع، كما أن رمضان إنما فضله على سائر الشهور القمرية لا في الشهور الشمسية، فإن أفضل أيام الشهور الشمسية يوم تكون الشمس في برج شرفها، وقد يأتي شهر رمضان في كل شهور السنة الشمسية فيشرف ذلك الشهر الشمسي على سائر شهور الشمس بكون رمضان كان فيه، وكونه فيه أمر عرض له في سيره، فلا تفاضل يوم الجمعة بيوم عرفة، ولا غيره، ولهذا شرع الغسل فيه لليوم، لا لنفس الصلاة، فإن اتفق أن يغتسل في ذلك اليوم لصلاة الجمعة، فلا خلاف بيننا أنه أفضل بلا شك، وأرفع للخلاف الواقع بين العلماء. اهـ .




الخدمات العلمية