الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما الكلام فمقصوده حماية المعتقدات التي نقلها أهل السنة من السلف الصالح لا غير وما وراء ذلك طلب لكشف حقائق الأمور من غير طريقتها .

ومقصود حفظ السنة تحصيل رتبة الاقتصار منه بمعتقد مختصر وهو القدر الذي أوردناه في كتاب قواعد العقائد من جملة هذا الكتاب والاقتصاد فيه ما يبلغ قدر مائة ورقة وهو الذي أوردناه في كتاب الاقتصاد في الاعتقاد ويحتاج إليه لمناظرة مبتدع ومعارضة بدعته بما يفسدها وينزعها عن قلب العامي وذلك لا ينفع إلا مع العوام قبل اشتداد تعصبهم .

وأما المبتدع بعد أن يعلم من الجدل ولو شيئا يسيرا فقلما ينفع معه الكلام فإنك إن أفحمته لم يترك مذهبه وأحال بالقصور على نفسه وقدر أن عند غيره جوابا ما وهو عاجز عنه وإنما أنت ملبس عليه بقوة المجادلة .

وأما العامي إذا صرف عن الحق بنوع جدل يمكن أن يرد إليه بمثله قبل أن يشتد التعصب للأهواء فإذا اشتد تعصبهم وقع اليأس منهم إذ التعصب سبب يرسخ العقائد في النفوس وهو . من آفات علماء السوء فإنهم يبالغون في التعصب للحق وينظرون إلى المخالفين بعين الازدراء والاستحقار فتنبعث منهم الدعوى بالمكافأة والمقابلة والمعاملة وتتوفر بواعثهم على طلب نصرة الباطل ويقوى غرضهم في التمسك بما نسبوا إليه ولو جاءوا من جانب اللطف والرحمة والنصح في الخلوة لا في معرض التعصب والتحقير لأنجحوا فيه ولكن لما كان الجاه لا يقوم إلا بالاستتباع ولا يستميل الأتباع مثل التعصب واللعن والشتم للخصوم اتخذوا التعصب عادتهم وآلتهم وسموه ذبا عن الدين ونضالا عن المسلمين وفيه على التحقيق هلاك الخلق ورسوخ البدعة في النفوس .

وأما الخلافيات التي أحدثت في هذه الأعصار المتأخرة وأبدع فيها من التحريرات والتصنيفات والمجادلات ما لم يعهد مثلها في السلف فإياك وأن تحوم حولها واجتنبها اجتناب السم القاتل فإنها الداء العضال وهو الذي رد الفقهاء كلهم إلى طلب المنافسة والمباهاة على ما سيأتيك تفصيل غوائلها وآفاتها .

وهذا الكلام ربما يسمع من قائله فيقال الناس أعداء ما جهلوا فلا تظن ذلك فعلى الخبير سقطت فاقبل هذه النصيحة ممن ضيع العمر فيه زمانا وزاد فيه على الأولين تصنيفا وتحقيقا وجدلا وبيانا ثم ألهمه الله رشده وأطلعه على عيبه فهجره واشتغل بنفسه فلا يغرنك قول من يقول الفتوى عماد الشرع ولا يعرف علله إلا بعلم الخلاف فإن علل المذهب مذكورة في المذهب والزيادة عليها مجادلات لم يعرفها الأولون ولا الصحابة وكانوا أعلم بعلل الفتاوى من غيرهم بل هي مع أنها غير مفيدة في علم المذهب ضارة مفسدة لذوق الفقه فإن الذي يشهد له حدس المفتي إذا صح ذوقه في الفقه لا يمكن تمشيته على شروط الجدل في أكثر الأمر فمن ألف طبعه رسوم الجدل أذعن ذهنه لمقتضيات الجدل وجبن عن الإذعان لذوق الفقه وإنما يشتغل به من يشتغل لطلب الصيت والجاه ويتعلل بأنه يطلب علل المذهب وقد ينقضي عليه العمر ولا تنصرف همته إلى علم المذهب فكن من شياطين الجن في أمان واحترز من شياطين الإنس فإنهم أراحوا شياطين الجن من التعب في الإغواء والإضلال .

التالي السابق


(وأما) علم (الكلام فمقصوده حماية) أي: حفظ (المعتقدات التي نقلها أهل السنة) والجماعة (من السلف) الصالحين (لا غير وما وراء ذلك) فإنه (طلب لكشف حقائق الأمور) وإفشاء لسر الربوبية (من غير طريقه) من إيراد نقل البراهين والحجج وجلب الكلام من كل جهة (ومقصود حفظ السنة تحصل رتبة الاقتصار منه بمعتقد مختصر وهو الذي أوردناه في كتاب قواعد العقائد) وهو الكتاب الثاني (من جملة هذه الكتب) العشرة من الأحياء وسيأتي بيانه (والاقتصاد فيه ما يبلغ قدر مائة ورقة) في المقدار (وهو الذي أوردناه في كتاب) لنا يسمى (الاقتصاد في الاعتقاد) ذكره ابن السبكي وغيره من جملة كتبه كما مرت الإشارة إليه في مقدمة هذا الشرح، وأما الآن فاشتغالهم الكثير في المختصرة على أم البراهين لمحمد بن يوسف السنوسي وهو مختصر مفيد وعلى شروحه للمصنف وللشهاب القاسمي وعلى الجوهرة للشيخ إبراهيم اللقاني وشروحه الثلاثة وشروح ولده الشيخ عبد السلام (ويحتاج إليه) أي: إلى الاقتصاد فيه (لمناظرة مبتدع) ودفع شبهة (ومعارضة بدعته) التي يورد حججها (بما يفسدها) وينقضها (وينزعها عن قلب العامي) الذي لم ينظر في العلوم (وذلك لا ينفع إلا مع العوام قبل اشتداد تعصبهم) في الدين (أما المبتدع بعد أن يعلم من الجدل) ويتعلم طرق المناظرة (ولو شيئا يسيرا) أي قليلا (فقلما ينفع معه الكلام) في المعتقدات (فإنك إن أفحمته) أي: أسكته بإيراد البراهين عليه (لم يترك مذهبه) الذي إليه يذهب ولا مورده الذي إليه يرد ومنه يشرب (وأحال بالقصور) عن الجواب (على نفسه وقدر أن عنده جوابا وهو عاجز عنه) أي: عن بيانه وفي بعض النسخ: وقال: إن عند غيره جوابا ما وهو عاجز عنه (وإنما أنت ملبس بقوة المجادلة عليه) هكذا شأن المبتدعة إذا أفحموا (وأما العامي إذا صرف عن الحق بنوع جدل يمكن أن يرد إليه) أي: إلى الحق (بمثله) ولكن ذلك (قبل أن يشتد التعصب) منه (للأهواء) المتصلة بفراغ قلبه عن الهوى وتزلزله فأي: معتقد ورد عليه قبله ثم عن قريب إذا رد إلى شيء آخر قبله كذلك (فإذا اشتد تعصبهم) للأهواء ومرنوا على [ ص: 275 ] ذلك وتمكن فيهم ذلك المعتقد الفاسد (وقع اليأس منهم) ولم ينفع العلاج فيهم (إذ التعصب سبب) قوي (يرسخ) أي: يثبت (العقائد في النفوس) ويركزها فيها (وهذا أيضا من آفات العلماء السوء) الآكلين بدنياهم (فإنهم يبالغون للتعصب للحق) أي لإظهاره (وينظرون إلى المخالفين) لهم (بعين الازدراء والاستحقار) والإنكار الشديد (فينبعث) أي يتحرك (منهم) من المخالفين (الدواعي) المهيجة (بالمكافأة) أي: المجازاة (والمقابلة) فيسبوا الله عدوا بغير علم (وتتوفر بواعثهم على نصرة باطلهم) وفي نسخة: نصرة الباطل (ويقوى غرضهم) وقصدهم (في التمسك بما نسبوا إليه) من فساد العقيدة وهذا منشؤه من سوء النظر في البحث وتشنيعهم عليهم في المجالس على ملأ من الناس (ولو جاءوا من جانب اللطف والرحمة) والشفقة عليهم مع خلوص القلب من التعصبات (والنصح في الخلوة) عن الناس (لا في معرض التعصب) عليهم (والتحقير) لشأنهم (لأنجحوا فيه) وأفادوا (ولكن لما كان الجاه لا يقوم) ركنه (إلا بالاستتباع) أي: طلب الاتباع (ولا يستميل) خواطر (الأتباع مثل التعصب واللعن والشتم للخصوم) والازدراء بهم بكل ما أمكن (واتخذوا التعصب عادتهم) وتساوى في ذلك صغارهم وقادتهم (و) جعلوا ذلك (آلتهم) وحرفتهم (وسموه) بحسب ظنهم الفاسد (ذبا عن الدين) أي دفعا عنه (ونضالا) أي: مناضلة ومدافعة ( عن المسلمين وفيه على التحقيق) إذا تأملوا (هلاك الخلق) لتقليدهم إياه في ذلك (ورسوخ البدعة في النفوس) فلا حول ولا قوة إلا بالله (وأما الخلافيات) وهي المسائل التي فيها خلاف المذاهب (التي أحدثت في هذه الأعصار) أي: الأزمان (المتأخرة) وهو القرن الرابع (وأبدع فيها من التحريرات) المستقصية (والتصنيفات) المستفيضة (والمجادلات) الهائلة (ما لم يعهد مثلها) ولم يعرف (في) أيام (السلف) . المتقدمين (فإياك) أيها السالك طريق الآخرة (وأن تحوم حولها) وتتعب في تحصيلها وتعول عليها (فاجتنبها اجتناب السم القاتل) ولو حسنت عباراتها وراقت معانيها فإنما مثل من يحاولها كمن يحاول حية نظر إلى لين مجسها وحسن شكلها فيجعلها طوقا في عنقه فتلدغه (فإنه الداء العضال) الذي لا برء له (وهو الذي رد الفقهاء كلهم) وصرفهم بسببه (إلى طلب المنافسة) والإعجاب والكبر (والمباهاة) أي: المفاخرة مع التعصب الشديد (على ما سيأتيك تفصيل غوائلها) أي مهلكاتها (وآفاتها) في كتاب ذم الغرور (وهذا الكلام ربما يسمع من قائله) المنكر لذلك (فيقال الناس أعداء ما جهلوا) فينزل قائله غير منزلته وينسبه إلى الجهل والتسلية وعدم الذوق السليم من الفطرة وهي كلمة حق أريد بها باطل (فلا تظن ذلك) بالقائل فإن بعض الظن إثم (فعلى الخبير) العارف الماهر (سقطت) أي نزلت (فيه) وهو مثل مشهور (وأقبل هذه النصيحة) المحضة (ممن ضيع العمر) ونقد صرفه (فيه زمانا) واشتغل به كثيرا (وزاد فيه على الأولين) ممن سبق في كل فن (تصنيفا وتحقيقا وجدلا وبيانا) حتى في علم السحر والسيمياء النجوم والكيمياء كما هو معروف لمن أمعن في ترجمته (ثم ألهمه الله رشده) وبصره بنفسه (وأطلعه على عيبه) بتوفيق من الله تعالى وحسن عنايته، وذلك بعد رجوعه من أرض الحرمين (فهجره) أي: تركه كله وساح وتجرد (واشتغل بنفسه) باستعمال الرياضات والمجاهدات والاقتناع بأقل الأقوات مع كثرة من يعظمه من أرباب الدنيا ويأتون إليه بالأموال فلم يرفع رأسه إليهم ولا إليها ومضى على ذلك إلى آخر عمره على جميل وسداد، وهو يشير إلى قول من قال سل المجرب ولا تسأل طبيبا (ولا يغرنك قول من يقول الفتوى عماد الشرع) وركنه الذي يأوي إليه (ولا تعرف علله) الخفية (إلا بعلم الخلاف) ولا تظهر ثمرتها إلا به (فإن علل المذهب مذكورة في) كتب (المذهب) [ ص: 276 ] لم يغادر شيئا منها (والزيادات عليها مجادلات) وخصومات (لم يعرفها الأولون) من السلف في عصر أتباع التابعين ومن فوقهم عصر التابعين (ولا الصحابة) رضوان الله عليهم بل كانوا ينكرون على من يجادل ويحسمون مادة الخلافيات كما هو مشهور من سيرتهم (وكانوا أعلم الناس بعلل الفتاوى من غيرهم) لتنور بصائرهم واقتباسهم من مشكاة النبوة (بل هي) أي: علل الفتاوى (مع أنها غير مفيدة في علم المذهب) لعدم احتياجه إليها (فهي ضارة) للفقيه (مفسدة لذوق الفقه) وسره (فإن الذي يشهد له حدس المفتي) وتخمينه (إذا صح ذوقه في الفقه) وتمكن منه (لا يمكن تمشيته على شروط الجدل) التي يذكرونها (في أكثر الأمر فمن ألف طبعه) من أصل جبلته (رسوم الجدل) وتعلق بها (أذعن ذهنه) وانقاد (لمقتضيات الجدل) والخلافيات (وجبن) أي: تأخر ونكص (عن الإذعان لذوق الفقه) والانقياد له (و) الحق (إنما يشتغل به) صارما عمره إليه (من يشتغل بطلب الصيت) وشهرة الاسم (و) تحصيل (الجاه) والمنزلة عند الأمراء والملوك (ويتعلل) للناس (بأنه يطلب علل المذهب) لا غير وأن قصده بذلك رفع عماد المذهب ونصرته (وقد ينقضي عليه العمر) النفيس (ولا يصرف همته إلى علم المذهب) إلا قليلا (فكن من شياطين الجن في أمان) فإنهم ينطردون عنك بالآيات والأذكار ولا يقربونك بمضرة، وعداوتك لهم وعداوتهم لك ظاهرة فيمكن دفعهم بأيسر شيء (واحترز من شياطين الإنس) وهم العلماء السوء (فإنهم أراحوا شياطين الجن من التعب) والمشقة (في الإغواء والإضلال) ولكثرة مخالطتهم مع الناس وكونهم على سمة العلماء ولا يمكن الاحتراز عنهم فيستفيد معاشرهم الانحياد عن السلوك السوي ويقع في مخاطرة عظيمة .

واعلم أن الشياطين على نوعين: نوع يرى عيانا، وهو شيطان الإنس، وهم العلماء السوء، ونوع لا يرى وهو شيطان الجن، وقد أمر الله سبحانه نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يكتفي من شيطان الإنس بالإعراض عنه والعفو والدفع بالتي هي أحسن ومن شيطان الجن بالاستعاذة بالله منه وجمع بين النوعين في سورة الأنعام وسورة فصلت والاستعاذة والقراءة والذكر أبلغ في دفع شياطين الجن والإعراض والدفع بالإحسان أبلغ في دفع شياطين الإنس:

فما هو إلا الاستعاذة ضارعا أو الدفع بالحسنى هما خير مطلوب فهذا دواء الدين من شر من ترى
وذاك دواء له من شر محجوب






الخدمات العلمية