الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ولا بأس بالدعاء أدبار الصلوات في الأيام الثلاثة قبل الخروج ولهذا الدعاء آداب وشروط باطنة من التوبة ورد المظالم وغيرها وسيأتي ذلك في كتاب الدعوات .

التالي السابق


( ولا بأس بالدعاء أدبار الصلاة) فرضا كانت أو نفلا ( في الأيام الثلاثة قبل الخروج) إلى المصلى، وهو بيان لأحد [ ص: 444 ] أنواع الاستسقاء كما تقدمت الإشارة إليه في أول الباب، ( ولهذا الدعاء) في تلك الحالة ( آداب وشرائط باطنة من التوبة) عن المعاصي، ( وردا للظالم) إلى أهلها ( وغيرها وسيأتي ذلك في كتاب الدعوات) إن شاء الله تعالى .



( لواحق الباب، وفوائده)

الأولى: قال في الروضة: إذا استسقوا فسقوا فذاك، فإن تأخرت الإجابة استسقوا، وصلوا ثانيا وثالثا حتى يسقيهم الله تعالى، وهل يعودون من الغد؟ أو يصومون ثلاثة أيام قبل الخروج كما يفعلون في الخروج الأول، قال في المختصر: يعودون في الغد، وفي القديم: يصومون، فقيل: قولان أظهرهما الأول .

وقيل: على حالتين، فإن لم يشق على الناس، ولم ينقطعوا عن مصالحهم عادوا غدا، وبعد غد، وإن اقتضى الحال التأخير أياما صاموا. قال النووي : ونقل أبو الطيب عن عامة الأصحاب أن المسألة على قول واحد، نقل المزني الجواز، والقديم الاستحباب والله أعلم، ثم جماهير الأصحاب قطعوا باستحباب تكرير الاستسقاء كما ذكرنا، لكن الاستحباب في المرة الأولى آكد، وحكي وجه أنهم لا يفعلون ذلك إلا مرة .



الثانية: لو تأهبوا للخروج للصلاة فسقوا قبل موعد الخروج خرجوا للوعظ، والدعاء والشكر، وهل يصلون شكرا، فيه طريقان قطع الأكثرون بالصلاة، وهو المنصوص في الأم، وحكى إمام الحرمين والغزالي وجهين أصحهما هذا، والثاني لا يصلون، وأجرى الوجهان فيما إذا لم تنقطع المياه، وأرادوا أن يصلوا للاستزادة .



الثالثة: يستحب أن يذكر كل واحد في نفسه ما فعل من خير فيجعله شافعا، ويستأنس لذلك ما أخرجه البخاري في الصحيح من قصة الثلاثة الذين أووا إلى غار فانطبق، وخلصهم الله تعالى .

الرابعة: يستحب أن يستسقي بالأكابر وأهل الصلاح، لا سيما أقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ففي صحيح البخاري في حديث أنس أن عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم فتسقينا، وإنا لنتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، قال: فيسقون. ا.هـ. ويروى أنه شاور الصحابة، فقال كعب الأحبار: يا أمير المؤمنين، إن بني إسرائيل كانوا إذا قحطوا استسقوا بعصبة أنبيائهم، فقال: هذا العباس عم رسول الله عليه وسلم، وصنو أبيه، فأجلسه على المنبر، ووقف بجنبه، وقال القول المذكور، فما نزل من المنبر حتى سقوا.

وقد ذكر الزبير بن بكار في الأنساب أن عمر استسقي بالعباس عام الرمادة، وذكر ذلك العباس ذلك اليوم فيما ذكره الزبير بن بكار: اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يكشف إلا بتوبة، وقد توجه القوم بي لمكاني من نبيك، وهذه أيدينا إليك بالذنوب، ونواصينا إليك بالتوبة؛ فاسقنا الغيث، فأرخت السماء مثل الجبال حتى أخصبت الأرض وعاش الناس.



الخامسة: وقت هذه الصلاة، قال في الروضة: قطع الشيخ أبو علي وصاحب المهذب بأن وقتها صلاة العيد، واستغرب إمام الحرمين هذا، وذكر الروياني وآخرون أن وقتها يبقى بعد الزوال ما لم تصل العصر، وصرح صاحب التتمة بأن صلاة الاستسقاء لا تختص بوقت، بل أي وقت صلوها من ليل أو نهار جاز، وقد قدمنا عن الأئمة وجهين في كراهة صلاة الاستسقاء في الأوقات المكروهة، ومعلوم أن الأوقات المكروهة غير داخلة في وقت صلاة العيد، ولا مع انضمام ما بين الزوال والعصر إليه، فيلزم أن لا يكون وقت الاستسقاء منحصرا في ذلك، وليس لحامل أن يحمل الوجهين في الكراهة على قضائها؛ فإنها لا تقضى .

قال النووي : ليس بلازم ما قاله فقد تقدم أن الأصح دخول وقت العيد بطلوع الشمس، وهو وقت كراهة، وممن قال بانحصار وقت الاستسقاء في وقت العيد: الشيخ أبو حامد، والمحاملي، ولكن الصحيح الذي نص عليه الشافعي وقطع به الأكثرون وصححه الرافعي في المحرر والمحققون: أنها لا تختص بوقت، وممن قطع به صاحب الحاوي والشامل، ونقله صاحب الشامل وأصحا جمع الجوامع من نص الشافعي . قال إمام الحرمين : لم أر التخصيص لغير الشيخ أبي علي، والله أعلم .

قلت: وبما قطع به الشيخ أبو علي وصاحب التهذيب هو مذهب الحنفية والمالكية والحنابلة، فقالوا: إن وقت صلاتها وقت العيد، والذي صرح به ابن الصلاح، والماوردي أن [ ص: 445 ] وقتها المختار عند الشافعي هو وقت صلاة العيد، وقال غيرهما: وإنما قال الشافعي: ليس لها وقت معين؛ لأنها ذات سبب فدارت مع سببها كصلاة الكسوف .

وأخرج أبو داود وابن حبان من حديث عائشة : شكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قحط المطر، فأمر بمنبر، وضع له في المصلى، ووعد الناس يوما يخرجون فيه، فخرج حين بدا حاجب الشمس، فقعد على المنبر .. الحديث .



السادسة: يسن في وقت الدعاء أن يستقبل القبلة، ويستدير القوم. ورد ذلك في صحيح البخاري من حديث عبد الله بن زيد؛ لأن الدعاء مستقبلها أفضل، فإن استقبل له في الخطبة الأولى لم يعده في الثانية. قال النووي، ويلحق باستحباب استقبال القبلة للدعاء الوضوء والغسل والأذكار والقراءة وسائر الطاعات، إلا ما خرج بدليل كالخطبة .



السابعة: يستحب رفع اليدين في الدعاء للاستسقاء لحديث أنس عند البخاري، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه يدعو، ورفع الناس أيديهم معه يدعون؛ ولذا لم يرد عن الإمام مالك أنه رفع يديه إلا في دعاء الاستسقاء خاصة .

وهل ترفع في غيره في الأدعية أم لا؟ الصحيح الاستحباب في سائر الأدعية؛ رواه الشيخان وغيرهما، وأما حديث أنس المروي في الصحيحين وغيرهما مرفوعا أنه كان لا يرفع يديه في شيء من الدعاء إلا في الاستسقاء، فإنه كان يرفع يديه حتى يرى بياض إبطيه فمؤول على أنه لا يرفعهما رفعا بليغا؛ ولذا قال في المستثنى: حتى يرى بياض إبطيه. نعم؛ ورد في رفع يديه صلى الله عليه وسلم في مواضع نحو من ثلاثين، أوردها النووي في شرح المهذب بالأحاديث الواردة فيها من الصحيحين وغيرهما، وللمنذري الحافظ فيه جزء مفرد .



الثامنة: قال أصحاب الشافعي وغيرهما: السنة في دعاء القحط وغيره من رفع بلاء أن يجعل ظهر كفيه إلى السماء، وهي صفة الرهبة، وإن سأل شيئا يجعل بطونهما إلى السماء .

وأخرج مسلم وأبو داود من حديث أنس : أنه صلى الله عليه وسلم كان يستسقي هكذا، ومد يديه، وجعل بطونهما مما يلي الأرض، حتى رأيت بياض إبطيه، والحكمة في ذلك أن القصد رفع البلاء بخلاف القاصد حصول شيء، أو تفاؤلا لتقلب الحال ظهرا لبطن، وذلك نحو صنيعه في تحويل الرداء، أو إشارة إلى ما يسأله وهو أن يجعل بطن السحاب إلى الأرض لينصب ما فيه من المطر .



التاسعة: في الأدعية الواردة في الاستسقاء؛ فمن ذلك: اللهم اسقنا غيثا مغيثا، هنيئا مريئا، مريعا غدقا، مجللا سحا، طبقا دائما .

ومن ذلك: اللهم اسقنا غيثا مغيثا، نافعا غير ضار، عاجلا غير آجل، اللهم اسق عبادك وبهائمك، وانشر رحمتك، وأحي بلدك الميت .

ومن ذلك: اللهم اسقنا الغيث، ولا تجعلنا من القانطين .

ومن ذلك: اللهم إن البلاد والعباد والخلق من اللأواء، والجهد، والضنك ما لا نشكو إلا إليك، اللهم أنبت لنا الزرع، وأدر لنا الضرع، واسقنا من بركات السماء، وأنبت لنا من بركات الأرض، اللهم ارفع عنا الجهد والجوع والعري، واكشف عنا من البلاء ما لا يكشفه غيرك، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا، فأرسل السماء علينا مدرارا .

ومن ذلك: الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، لا إله إلا الله يفعل ما يريد، اللهم أنت الله الذي لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلت قوة وبلاغا إلى حين .



العاشرة: قال الأصحاب: وإذا كثرت الأمطار، وتضررت به المساكن والزروع، فالسنة أن يسألوا الله عز وجل رفعه، اللهم حوالينا ولا علينا، كما ورد ذلك في الصحيحين، ونقلوا عن نص الشافعي أنه لا يشرع لذلك صلاة .



( فصل)

قال الشيخ الأكبر في كتاب الشريعة والحقيقة: الحجة لمن قال بصلاة الاستسقاء: إن من لم يذكر شيئا فليس بحجة على من ذكر، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم خرج بالناس يستسقي فصلى بهم ركعتين جهر فيهما بالقراءة، وحول رداءه، ورفع يديه، واستسقى، واستقبل القبلة، والعلماء مجمعون على أن الخروج للاستسقاء والبروز عن المصر، والدعاء والتضرع إلى الله تعالى في نزول المطر سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، واختلفوا في الصلاة في الاستسقاء، فمن قائل بها، ومن قائل: لا صلاة فيه .

والذي أقول: إن الصلاة ليست من شرط صحة الاستسقاء، والقائلون بأن الصلاة من سنته يقولون أيضا: إن الخطبة [ ص: 446 ] من سنته، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم صلى فيه وخطب، واختلف القائلون بالخطبة هل هي قبل الصلاة أو بعدها، واتفق القائلون بالصلاة أن قراءتها جهر، واختلفوا: هل يكبر فيها مثل تكبير العيدين أو مثل تكبير سائر الصلوات، ومن السنة في الاستسقاء استقبال القبلة واقفا، والدعاء ورفع اليدين، وتحويل الرداء باتفاق، واختلفوا في كيفية تحويل الرداء، فقال قوم: يجعل الأعلى أسفل، والأسفل أعلى، وقال قوم: يجعل اليمين على الشمال، والشمال على اليمين، واختلفوا في الخروج إليه، فقيل: في وقت صلاة العيدين، وقيل: عند الزوال. وروى أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى الاستسقاء حين بدا حاجب الشمس .

الاعتبارات في جميع ما ذكرنا: أما اعتبار الاستسقاء فاعلم أن الاستسقاء طلب السقيا، وقد يكون طلب السقيا لنفسه أو لغيره أو لهما، بحسب ما تعطيه قرائن الأحوال؛ فأما أهل الله المختصون به الذين شغلهم به عنهم، وعرفهم بأنهم أن قاموا فهو معهم وهم معه، وإن رحلهم رحلوا به إليه فلا يبالون في أي منزل أنزلهم، إذا كان هو مشهودهم في كل حال، فإن عاشوا في الدنيا فبه عيشهم، وإن انقلبوا إلى الأخرى فإليه انقلبوا، فلا أثر لفقد الأسباب عندهم ولا لوجودهم، فهؤلاء لا يستسقون في حق نفوسهم؛ إذ علموا أن الحياة تلزمهم؛ لأنها أشد افتقارا إليهم منهم إليها، وفائدة الاستسقاء إبقاء الحياة الدنيا، فاستسقاء العلماء بالله في الزيادة من العلم بالله، كما قال الله تعالى لنبيه حين أمره: وقل رب زدني علما ، فهذا الدعاء هو عين الاستسقاء، فإذا استسقى النبي عليه الصلاة والسلام ربه في إنزال المطر، والعلماء بالله لم يستسقوه في حق نفوسهم، وإنما استسقوه في حق غيرهم ممن لا يعرف الله معرفتهم تخلقا بصفته تعالى حيث يقول كما ورد في الحديث الصحيح: استسقيتك عبدي فلم تسقني، قال: كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟! فقال: استسقاك فلان فلم تسقه. فهذا الرب قد استسقى عبده في حق عبده لا في حق نفسه؛ فإنه يتعالى عن الحاجات، فكذلك استسقاء النبي والعلماء بالله إنما يقع عنهم لحق الغير، فهم ألسنة أولئك المحجوبين بالحياة الدنيا عن لزوم الحياة لهم حيث كانوا تخلقا بالاستسقاء الإلهي؛ إذ الفقير المحقق من لا تقوم به حاجة معينة، فتملكه لعلمه بأنه عين الحاجة فلا تقيده حاجة، فإن حاجة الكون إلى الله مطلقة من غير تقييد،كما أن غناه سبحانه عن العالم مطلق من غير تقييد، فهم يقابلون ذاتا بذات، وينسبون إلى كل ذات بما تعطيها حقيقتها، فإذا كان الحق يستسقي عبده، فالعبد أولى، وإذا كان الحق ينوب عن عبده في استسقاء عبده ليسقي عبده، فالعبد أولى أن يستسقي ربه ليسقي عبده، وهو أولى بالنيابة عن مثله من الحق عنه؛ إذ ليس كمثله شيء، فمن الأدب مع الله الاستسقاء في حق الغير، فإن أصحاب الأحوال محجوبون بالحال عن العلم الصحيح، فصاحب الحال غير مؤاخذ بسوء الأدب؛ إذ كان لسانه لسان الحال، وصاحب العلم مؤاخذ بأدنى شيء، وشتان بين المقامين؛ شاهد العلم عدل، وشاهد الحال فقير إلى من يزكيه في حاله، ولا يزكيه إلا صاحب العلم، والعلم متجل يظهر نفسه، والحال ملتبس يحتاج إلى دليل يقويه لضعفه أن يلحق بدرجة الكمال، فصاحب الحال يطلب العلم، وصاحب العلم لا يطلب الحال، أي عاقل يكون من يطلب الخروج من الوضوح إلى اللبس؟! فإذا فهمت ما قررناه تعين عليك الاستسقاء فاشرع فيه .



وأما اعتبار البروز إلى الاستسقاء فاعلم أن الاستسقاء له حالان: الحال الأولى أن يكون الإمام في حال أداء واجب فيطلب منه الاستسقاء، فيستسقي على حاله تلك من غير تغيير، ولا خروج عنها، ولا صلاة، ولا تغيير هيئة، بل يدعو الله، ويتضرع في ذلك، فحال هذا بمنزلة من يكون حاضرا مع الله فيما أوجب الله عليه فيتعرض له في خاطره ما يرد به إلى السؤال في أمر لا يؤثر السؤال فيه في ذلك الواجب الذي هو بصدد، بل هو ربما مشروع فيه كمسألتنا، ألا ترى أن الشارع قد شرع للمصلي أن يقول في جلوسه بين السجدتين: اللهم اغفر لي وارحمني وأجرني، وارزقني، فشرع له في الصلاة طلب الرزق، والاستسقاء طلب للرزق، فليس لمن هذه حالته أن يبرز إلى خارج المصر [ ص: 447 ] ولا يغير هيئته؛ فإنه في أحسن الحالات، وعلى أحسن الهيئات؛ لأن أفضل الأمور أداء الواجبات؛ دخل أعرابي على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة من باب المسجد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب على المنبر خطبة الجمعة، فشكا إليه الجدب، وطلب منه أن يستسقي الله، فاستسقى له ربه كما هو على منبره، وفي نفس خطبته ما تغير عن حاله، ولا أخر ذلك إلى وقت آخر .

وأما الحالة الأخرى فهو أن لا يكون العبد في حال أداء واجب فيعرض له ما يؤديه إلى أن يطلب من ربه أمرا في حق نفسه أو في حق غيره مما يحتاج أن يتأهب له أهبة جديدة على هيئة مخصوصة فيتأهب لذلك الأمر، ويؤدي بين يديه أمرا واجبا ليكون بحكم عبودية الاضطرار، فإن المضطر تجاب دعوته بلا شك، كذلك العبد إذا لم يكن في حال أداء واجب، وأراد الاستسقاء برز إلى المصلى، وجمع الناس، وصلى ركعتين فالشروع في تلك الصلاة عبودية اختيار، وأداء ما فيها من قيام وركوع وسجود عبودية اضطرار؛ فإنه يجب عليه في الصلاة النافلة بحكم الشروع الركوع والسجود، وكل ما هو فرض في الصلاة؛ فإذا دعا عقيب عبودية الاضطرار فقمن أن يستجاب له، ويدخل في الهيئة الخاصة من رفع اليدين، وتحويل الرداء، واستقبال القبلة، والتضرع إلى الله، والابتهال في حق المحتاجين إلى ذلك، كائنا من كان، ولما ذكرناه وقع الاختلاف في البروز إلى الاستسقاء، وقد برز رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خارج المدينة فاستسقى بصلاة وخطبة، واعتبار البروز من المصر إلى خارجه خروج الإنسان من الركون إلى الأسباب إلى مقام التجريد، والفضاء حتى لا يكون بينه وبين السماء الذي هو قبلة الدعاء حجاب سقف ولا غيره، فهو خروج من عالم ظاهره مع عالم باطنه في حال الاقتصار إلى ربه بنية التخلق بربه في ذلك، أو بنية الرحمة بالغير أو بنفسه، أو بمجموع ذلك كله، وأما اعتبار الوقت الذي يبرز إن برز، فمن ابتداء طلوع حاجب الشمس إلى الزوال، وذلك عندما يتجلى الحق لقلب العبد بالتجلي المشبه بالشمس لشدة الوضوح، ورفع اللبس، وكشف المراتب والمنازل على ما عليه حتى يعلم ويرى أين يضع قدمه؛ لئلا يهوي أو يخطئ الطريق، أو تؤذيه هوام أفكار ردية، ووساوس شيطانية، فإن الشمس تجلو كل ظلمة، وتكشف كل كربة، فإن بطلوعها شرع أهل الأسباب في طلب المعاش، والمستسقي طالب عيش بلا شك، فما دام الحق يطلب العبد لنفسه بما ينقبض من الظل من طلوع الشمس إلى الزوال ليكون طلبه للأشياء من الله بربه لا بنفسه لذلك نبه على قبض الظل إلى حد الزوال؛ فلهذا كان البروز إلى المصلى من طلوع الشمس؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما برز إلى الاستسقاء خرج حين بدا حاجب الشمس، فاعتبرناه على ذلك الحد للمناسبة والمطابقة .



وأما اعتبار الصلاة في الاستسقاء فاعلم أنه لما شرع الله في الصلاة الدعاء بقوله: اهدنا الصراط المستقيم ، والاستسقاء دعاء؛ فأراد الحق أن يكون ذلك الدعاء في مناجاة مخصوصة يدعو فيها بتحصيل نصيبه المعنوي من الهداية إلى الصراط المستقيم صراط النبيين الذين هداهم الله تهمما بطلب الأولى الذي فيه السعادة المخصوصة بأهل الله، ثم بعد ذلك يستشفعون في طلب ما يعم الجميع من الرزق المحسوس الذي يشترك جميع الحيوانات، وجميع الناس من طائع وعاص، وسعيد وشقي فيه، فابتدأ بالصلاة ليقرع باب التجلي، واستجابة الدعاء فيما يزلف عند الله فيأتي طلب الرزق عقيب ذلك ضمنا ليرزق الكافر بعناية المؤمن، والعاصي بعناية الطائع؛ فلهذا شرعت الصلاة في الاستسقاء، فعبودية الاختيار قبل عبودية الاضطرار تأهب واستحضار، وتزيين محل وتهيؤه، وعبودية الاختيار عقيب عبودية الاضطرار شكر وفرح وبشرى بحصول عبودية الاضطرار، فالأولى بمنزلة النافلة قبل الفرض، والثانية بمنزلة النافلة بعد أداء الفرض، وعبادة الشكر مغفول عنها؛ ولذا قال تعالى: وقليل من عبادي الشكور ، وما بأيدي الناس من عبادة الشكر إلا قولهم الحمد لله، أو الشكر لله لفظ ما فيه كلفة، وأهل الله يزيدون على مثل هذا اللفظ العمل بالأبدان، والتوجه بالهمم، وقال: اعملوا آل داود شكرا ، ولم يقل: قولوا. والأمة المحمدية أولى بهذه الصفة من كل أمة إذ كانت خير أمة أخرجت للناس .



وأما اعتبار التكبير فيها فمن شبهها بصلاة العيدين؛ لأن العيد [ ص: 448 ] الأول عيد فطر، فهو خروج من حال صيام، والصيام يناسب الجدب؛ فإن الصائم يعطش كما تعطش الأرض في حال الجدب، وعيد الأضحى هو عيد زمان الحج، وأيام عشر الحج أيام ترك زينة؛ ولهذا شرع للمحرم ترك الزينة، وشرع لمن أراد أن يضحي إذا أهل بهلال ذي الحجة أن لا يقص ظفرا ولا يأخذ من شعره، ولما لم تكن زينة الأرض إلا بالأزهار، والأزهار لا تكون إلا بالأمطار، وهذه الأحوال تقتضي عدم الزينة فأشبهت الأرض الجدبة التي لا زينة لها لعدم الزهر بعدم المطر، فأشبهت صلاة الاستسقاء صلاة العيدين فكبر فيها كما يكبر في العيدين، ومن حمل صلاة الاستسقاء على سائر السنن والنوافل وصلوات الفرائض لم يزد على التكبير المعلوم شيئا، وهو أولى، فإن حالة الاستسقاء حالة واحدة، ما هي مختلفة الأنواع، فإن المقصود إنزال المطر، فلا يزيد على تكبيرة الإحرام شيئا؛ لأنه ما ثم حالة تطلب تكبيرة أخرى زائدة على تكبيرة الإحرام،فيحرم على المصلي في الاستسقاء في تكبيرة الإحرام جميع ما تلتذ به النفوس من الشهوات، ويفتقر إلى ربه في تلك الحالة كما حرم على الأرض الجدبة الماء الذي به حياتها وزينتها ونعيمها؛ ليناسب حال العبد بالإحرام حال الأرض فيما حرمت من الخصب .



وأما اعتبار الخطبة فالخطبة ثناء على الله بما هو أهله ليعطي ما هو أهله، فيثنى عليه ثناء آخر بما يكون منه، والشكر على ما أنعم والمصلي مثن على الله بما هو أهله، وعلى ما يكون منه، فالخطبة ينبغي أن تكون في الاستسقاء، ومن رأى أن الصلاة ثناء على الله يقول: حصل المقصود فأغنى عن الخطبة، وتضاعف الثناء على الله أولى من الاقتصار على حال واحدة، فإن الخطبة تتضمن الثناء والذكرى، وإن الذكرى تنفع المؤمنين، والاستسقاء طلب منفعة بلا شك .



وأما اعتبار متى يخطب فالتشبيه بالسنة لكونها سنة أولى من أن تشبه بالفريضة؛ فتشبيه الاستسقاء بالعيدين أولى فيخطب لها بعد الصلاة إلا أن يرد نص صريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم خطب لها قبل الصلاة فيكون النص فيها فلا تقاس على سنة، ولا على فريضة، بل تكون هي أصلا في نفسها يقيس عليها من يجيز القياس، وإذا كان العيد يخطب فيه بعد الصلاة مع أن المراد الخطبة تذكير الناس وتعليمهم، وهم لا يقيمون، بل ينصرف أكثرهم بتمام الصلاة، فالخطبة في الاستسقاء بعد الصلاة أولى؛ لأنهم لا ينصرفون حتى يستسقي الإمام بهم، فإنهم للاستسقاء خرجوا، والخطبة إنما تكون بعد الصلاة، وقبل الدعاء بالاستسقاء، فلا ينصرف الناس ليحصل المقصود من الخطبة .



وأما الاعتبار في القراءة جهرا فإنه يجهر المصلي في الاستسقاء بالقراءة ليسمع من وراءه ليحول بينهم وبين وساوسهم بما يسمعونه من القرآن؛ ليتدبروا آياته ويشتغلوا به، وليثابوا من حيث سمعهم، فقد يكون حسن استماعهم لقراءة الإمام من الأسباب المؤثرة في نزول المطر؛ فإنه من ذكر الله في ملأ فيذكره الله في ملأ خير منهم، فقد يكون في ذلك الملأ من يسأل الله تعالى في قضاء حاجة ما توجه إليه هذا الإمام بهذه الجماعة، فيمطرون بدعاء ذلك الملك الكريم لهم من ذلك الملأ الظاهر عند الله، فالجهر بالقراءة فيها أولى، وبالقراءة جهر رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الاستسقاء .



وأما الاعتبار في تحويل الرداء فهو إشارة إلى تحويل الحال من الجدب إلى الخصب، كما تحول أهل هذا المصر في حالة البطر والأشر وكفران النعمة إلى حالة الافتقار والمسكنة، فطلبوا التحويل بالتحويل، فيقولون: أي ربنا إنا هدنا إليك ورجعنا عما كنا عليه؛ فالتنعيم بالنعم والخصب على جهة البطر أوجب الجدب، والافتقار والمسكنة والخشوع والذلة أوجب الخصب؛ فإن الشيء لا يقابل إلا بضده حتى ينتجه؛ فهذا تحويل الرداء .

وأما الاعتبار في كيفية تحويله فهو على ثلاثة مراتب يجمعها كلها العالم إذا أراد أن يخرج من الخلاف، وهو أن يرد ظاهره باطنه وباطنه ظاهره، وأعلاه أسفله، وأسفله أعلاه، والذي على يمينه يرده على يساره، والذي على شماله يرده على يمينه، وكل ذلك إشارة إلى تحويل الحال التي هم عليها من الجدب إلى حالة الخصب .

فأما اعتبار ظاهر الرداء وباطنه فهو أن تؤثر أعمال ظاهره في باطنه، وأعمال باطنه تظهر بالفعل على ظاهره، وهو من نوى أن يعمل خيرا أو هو قادر على فعله فليفعله، ومن عمل عملا صالحا أثر له في نفسه المحبة، والطلب إلى الشروع في عمل آخر، ولا سيما إن أنتج له ذلك العمل علما في [ ص: 449 ] نفسه كما قال صلى الله عليه وسلم: "من عمل بما علم، ورثه الله علم ما لم يعلم". وقال تعالى: واتقوا الله ويعلمكم الله ، وأما تحويل أعلى الرداء وأسفله فهو إلحاق العالم الأعلى بالأسفل، وإلحاق العالم الأسفل بالأعلى في النسبة إلى الله، والافتقار إليه، فإن الله كما توجه إلى أعلى الموجودات قدرا، وهو القلم الإلهي، أو العقل الأول، كذلك توجه إلى أدنى الموجودات قدرا، وهو أشقاهم عند الله وأخسهم منزلة على حد واحد؛ لأن الله لا يتفاضل في نفسه، فالعالم كله أعلاه وأسفله مرتبط في وجوده بحقيقة إلهيته، فلا تفاضل؛ فهذا إلحاق الأسفل بالأعلى، وإلحاق الأعلى بالأسفل، وأما تحويل ما هو على الشمال على اليمين وبالعكس، فاعلم أن صفات السعداء في الدعاء الخشوع والذلة، وهم أهل اليمين، فتتحول هذه الصفة على أهل الشمال في الدار الآخرة، فكأن السعداء أخذوها منهم في الدنيا، قال تعالى في السعداء: الذين هم في صلاتهم خاشعون وقال: خاشعين لله، وقال: يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار، وقال: أذلة على المؤمنين وقال في حق الأشقياء في الدار الآخرة: خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي ، وقال: وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة تصلى نارا حامية ، وتحويل آخر، وهو أن يتصف العبد السعيد في الآخرة بما يتصف به السعيد في الدنيا من العزة والجاه والتنعيم فينقلب إليه المؤمن في الآخرة، وينقلب عنه الكافر في الآخرة بصفة المؤمن في الدنيا من الفقر والفاقة والسجن والبلاء فهذا أنواع التحويل .



وأما الاعتبار في وقت التحويل فهو في الاستسقاء في أول الخطبة أو بعد مضي صدر الخطبة، فاعلم أن اعتبار التحويل في أول الخطبة هو أن يكون الإنسان في حال نظره لربه بربه، فينظر في أول الخطبة لربه بنفسه، وهو قوله في أول الصلاة: حمدني عبدي، فلو كان حال المصلي في وقت الحمد حال فناء بمشاهدة ربه أنه تعالى حمد نفسه على لسان عبده لم يصدق من جميع الوجوه: حمدني عبدي، وهو صدق، ومن قال بعد مضي صدر الخطبة فهو إذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين فكان في أول الخطبة يثني على ربه بربه في حال فناء علمي ومشهد سني بربه عن نفسه، فلما أوقع الخطاب كان ثناؤه بنفسه على ربه فيحول عن حالته تلك في هذا الوقت فهذا اعتبار تعيين التحويل أو بعد مضي صدرها، وأما اعتبار استقبال القبلة فمن كان وجها كله، فإنه يستقبل ربه بذاته، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى من خلفه كما يرى من أمامه، فكان وجها كله؛ فينبغي للمستسقي ربه أن يقبل عليه بجميع ذاته فإنه فقير إليه بكله؛ ولهذا يجيب الله المضطرين الدعاء؛ فإن المضطر هو الذي دعا ربه عن ظهر فقر إليه، وما منع الناس الإجابة من الله في دعائهم إياه في أكثر الأوقات إلا أنهم يدعون ربهم عن ظهر غنى من حيث لا يشعرون، ونتيجة عدم الإخلاص، والمضطر مخلص .

أخبرني الرشيد الفرغاني، عن الفخر عمر ابن خطيب الري عالم زمانه أن السلطان اعتقله عازما قتله، قال الرشيد: فأخبرني رحمه الله قال: طمعت أن أجمع همي على الله في أمري، فما تخلص لي ذلك لما يخطر لي من الشبه في إثبات وجود الباري وتوحيده، فطال مكثي في السجن، فلما كانت ليلة كنت أنتظر في صبيحتها هلاكي اجتمعت همتي على الله الذي يعتقده العامة، ولم أجد في نفسي شبهة فيه تقدح، وأخلصت له التوجه وسألته، فما أصبح إلا وقد فرج الله عني، وأخرجت من السجن، ورضي عني السلطان، فهذا استقبال القبلة؛ فإنه إشارة إلى القبول .



وأما الاعتبار في الوقوف عند الدعاء فالقيام في الاستسقاء عند الدعاء مناسب لقيام الحق بعباده فيما يحتاجون إليه، فإنه طلب للرزق بإنزال المطر، كما قال تعالى: الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض فيسمى من يجعل الله الرزق على يده قائما على من يرزق بسببه، فشرع القيام في الدعاء في الاستسقاء كأنه يقول بحال قيامه بين يدي ربه: ارزقنا ما نقوم به على عيالنا بما تنزله من الغيث الذي هو سبب في وجود معاشنا، وأما اعتبار الدعاء، فالدعاء مخ العبادة، أي به تتقوى عبادة العابدين؛ فإنه روح العبادة، وهو مؤذن بالذلة والفقر والحاجة، وأما اعتبار رفع الأيدي في الدعاء على الكيفيتين؛ فإن الأيدي محل القبض للعطية كما يعطيه المسئول من الخير فيرفع يديه [ ص: 450 ] مبسوطتين ليجعل الله فيها ما سأل من نعمة، فإن رفعها وجعل بطونها إلى الأرض فرفعها يقول فيه: العلو والرفعة ليدي ربي تعالى التي هي اليد العليا، ويداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء، ويجعل بطونها مما يلي الأرض؛ أي: أنزل علينا مما في يديك من الخير ما تسد به فقرنا وفاقتنا إليك، وهو إنزال المطر الذي وقع السؤال فيه؛ فهذا وأشباهه اعتبار صلاة الاستسقاء، وأحوال أهله، والله أعلم .




الخدمات العلمية