الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقالت عائشة رضي الله عنها : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذا غلبه نوم أو مرض ، فلم يقم تلك الليلة صلى من أول النهار اثنتي عشرة ركعة وقد قال العلماء : من كان في الصلاة ففاته جواب المؤذن ، فإذا سلم قضى وأجاب ، وإن كان المؤذن سكت ، ولا معنى الآن لقول : من يقول : إن ذلك مثل الأول ، وليس يقضي ؛ إذ لو كان كذلك لما صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقت الكراهة .

نعم من كان له ورد فعاقه عن ذلك عذر فينبغي أن لا يرخص لنفسه في تركه بل يتداركه في وقت آخر حتى لا تميل نفسه إلى الدعة والرفاهية .

وتداركه حسن على سبيل مجاهدة النفس ولأنه صلى الله عليه وسلم قال : أحب الأعمال إلى الله تعالى أدومها ، وإن قل فيقصد به أن لا يفتر في دوام عمله وروت عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من عبد الله عز وجل بعبادة ، ثم تركها ملالة مقته الله عز وجل فليحذر أن يدخل تحت الوعيد .

وتحقيق هذا الخبر .

أنه مقته الله تعالى بتركها ملالة فلولا المقت والإبعاد لما سلطت الملالة عليه .

التالي السابق


( وقالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا غلبه نوم أو مرض، فلم يقم تلك الليلة) لتهجده بسبب النوم أو المرض ( صلى) بدل ما فاته منه ( من النهار) أي فيه ( اثنتي عشرة ركعة) ، قال العراقي : أخرجه مسلم. اهـ .

قلت: وأخرجه [ ص: 462 ] أبو داود أيضا، ولفظه: كان إذا نام من الليل أو مرض صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة، ( وقد قال العلماء: من كان في صلاة) وأذن المؤذن ( ففاته جواب المؤذن، فإذا سلم) من صلاته ( قضى فأجاب، وإن كان المؤذن قد سكت، ولا معنى الآن لقوله: من يقول: إن ذلك مثل الأول، وليس ذلك بقضاء؛ إذ لو كان كذلك لما صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقت الكراهة) أي بعد العصر ( أجل) أي نعم ( من كان له ورد) عود نفسه به ( فعاقه) أي منعه ( عن ذلك عذر) من نوم أو مرض أو غير ذلك ( فينبغي أن لا يرخص لنفسه في تركه) مطلقا ( بل يتداركه في وقت آخر كيلا تميل نفسه إلى الدعة) أي الراحة ( والرفاهية) أي السعة ( وتداركه حسن على سبيل مجاهدة النفس) ، وترويضها على العمل، ( ولأنه صلى الله عليه وسلم قال: أحب الأعمال إلى الله تعالى أدومها، وإن قل) .

قال العراقي : أخرجاه من حديث عائشة . اهـ. والمعنى أن العمل المداوم عليه، وإن قل، فإنه من أحب الأعمال إلى الله تعالى؛ لأن النفس تألفه فيدوم بسببه الإقبال على الحق، ولأن تارك العمل بعد الشروع كالمعرض بعد الوصل، ولأن المواظب ملازم للخدمة، وليس من لازم الباب كمن جد، ثم انقطع عن الأعتاب؛ ولهذا قال بعضهم: لا تقطع الخدمة، ولو ظهر لك عدم القبول، وكفى لك شرفا أن يقيمك في خدمته، ( فيقصد بذلك أن لا يفتر في دوام عمله) الذي وفقه الله للقيام به بالقسمة الأزلية .

( وروت عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من عبد الله تعالى عبادة، ثم تركها ملالة) أي: كسلا وفتورا ( مقته الله) أي: غضب عليه، والمقت أشد الغضب. قال العراقي : رواه ابن السني في كتاب رياضة المتعبدين موقوفا على عائشة . ا هـ .

قلت: وسيأتي هذا الحديث أيضا في آخر الباب الأول من الأوراد، ووجدت في حاشية كتاب المغني ما نصه مصلح في نسخة: من عود الله تعالى، بالواو بدل عبد، ( فليحذر) السالك ( أن يدخل تحت هذا الوعيد) الشديد ( وتحقيق هذا الخبر أنه مقته الله فتركها) أي: تلك العبادة ( ملالة) وكسل عنها، ( ولولا المقت) من الله ( والإبعاد) عن رحمته، ( لما سلطت عليه الملالة) ، وهو أشبه شيء بالدور .



( فصل)

في فروع هذا الباب

الأول: قال في الروضة: من تكرر دخوله في المسجد في الساعة الواحدة مرارا قال المحاملي في الباب: أرجو أن تجزئه التحية مرة واحدة، وقال صاحب التتمة: لو تكرر دخوله يستحب التحية كل مرة، وهو الأصح. ا.هـ، وقال أصحابنا الحنفية: سن تحية المسجد بركعتين يصليهما في غير وقت مكروه قبل الجلوس، وأداء الفرض ينوب عنهما، وكذا كل صلاة أداها عند الدخول بلا نية التحية؛ لأنها تعظيمه وحرمته، وأي صلاة صلاها حصل ذلك كما في البدائع، فلو نوى التحية مع الفرض فظاهر ما في المحيط وغيره أنه يصح عندهما، وعند محمد لا يكون داخلا في الصلاة؛ فإنهم قالوا لو نوى الدخول في الظهر والتطوع؛ فإنه يجوز عن الفرض عند أبي يوسف، وهو رواية عن أبي حنيفة وعند محمد لا يكون داخلا، وإذا تكرر دخوله يكفيه ركعتان في اليوم الثاني، قال المحاملي في الباب: وتكره التحية في حالتين إحداهما إذا دخل في المكتوبة، والثانية إذا دخل المسجد الحرام فلا يشتغل بها عن الطواف. ا.هـ، أما الأول فلقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة"، وأما الثاني فلاندراجها في الطواف تحت ركعتيه، وكذا إذا شرع في إقامة الصلاة أو قرب إقامتها، وكذا للخطيب يوم الجمعة عند صعود المنبر على الصحيح كما في الروضة، وقال أصحابنا الحنفية: لو دخل وقت كراهة كره له أن يصليها، وبه قال مالك.

الثالث: قال في الروضة: ومما يحتاج إلى معرفته أنه لو جلس في المسجد قبل أن يصليها، وطال الفصل لم يأت بها، وأنه لا يشرع قضاؤها وإن لم يطل، والذي قاله الأصحاب أنها تفوت بالجلوس فلا يفعلها، وذكر ابن عبدان أنه لو نسي التحية، وجلس فذكر بعد ساعة صلاها، وهذا غريب، وفي الصحيحين ما يؤيده من حديث الداخل يوم الجمعة. ا.هـ، والذي جزم به في التحقيق بأنه إذا جلس لا يشرع له التدارك، ولو جلس سهوا وقصر الفصل شرع له ذلك، ومقتضى استغرابه قول ابن عبدان في الروضة أنه إذا تركها جهلا أو سهوا له فعلها إن قصر الفصل، قال في المجموع: وهو المختار، وقال أصحابنا الحنفية: إن التحية لا تفوت بالجلوس، ولكن الأفضل فعلها قبله؛ ولذا قال عامة [ ص: 463 ] العلماء: يصليها كما دخل، وقال بعضهم: يجلس، ثم يقوم فيصليها، وإنما قلنا: إنها لا تسقط بالجلوس لما روى أبو نعيم في الحلية، وابن حبان في الصحيح من حديث أبي ذر قال: دخلت المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وحده، فقال: "يا أبا ذر، إن للمسجد تحية، وإن تحيته ركعتان فقم فاركعهما"، فقمت فركعتهما.. الحديث، وقد تقدم بطوله عند قوله: "الصلاة خير موضوع"



( فصل)

قال الشيخ الأكبر قدس سره في كتاب الشريعة في ركعتي دخول المسجد: من قائل بأنهما سنة، ومن قائل بوجوبهما، والذي أذهب إليه أنهما لا تجب عليه إلا إن أراد القعود فيه، فإن وقف أو عبر في زمان النهي، والاعتبار في ذلك أنه لا يخلو هذا الداخل أن يدخل في زمان إباحة النافلة أو في زمان النهي عنها، فإن دخل في زمان النهي فلا يركع فإنه ربما يتخيل بعض الناس أن الأمر بتحية المسجد يعارض النهي عن الصلاة في الأوقات المنهي عنها، فاعلم أن النهي عند الفقهاء لا يعارض به الأمر الثابت، إلا عندنا فإنه لنا في ذلك نظر، وهو أن النهي إذا ثبت، والأمر إذا ثبت فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا إذا نهانا أن نمتثل ذلك من غير تخصيص، وأن نجتنب كل منهي عنه يدخل تحت حكم ذلك النهي، وقال في الأمر الثابت: "وإذا أمرتكم بأمر فافعلوا منه ما استطعتم، فقد أمرنا بالصلاة عند دخول المسجد، ونهانا عن الصلاة بعد الصلاة التي هي صلاة الفجر وصلاة العصر، فقد حصلنا بالنهي في حكم من لا يستطيع إتيان ما أمر به في هذه الحالة لوجود النهي؛ فانتفت الاستطاعة شرعا كما تنفى عقلا؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: فافعلوا منه ما استطعتم لا الاستطاعة المشروعة، ولا المعقولة؛ فوجب العموم في ذلك، فيقول: إن النهي المطلق منعني من الإتيان بجميع ما يحويه هذا الأمر الوارد من الأزمنة فلا أستطيع على هذه الصلاة في هذا الوقت المخصص بالنهي شرعا؛ فاعلم أن ذلك المسجد بيت الله، وكرسي تجليه لمن أراد أن يناجيه، فمن دخل عليه في بيته وجب عليه أن يحييه؛ فعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف نحيي ربنا إذا دخلنا عليه في بيته؛ فنسلم على الحاضرين من الملأ الأعلى بقولنا: السلام عليكم، إذا كان هناك من البشر من كان، وإذا لم يكن إلا الملأ الأعلى فلا يخلو هذا الداخل لما أن يكون ممن قد كشف الله عن بصره حتى أدرك من بالمسجد منهم، فسلم عليهم كما يسلم على من وجد فيه من البشر، وإن لم يكن من أهل الكشف لمن فيه فليقل: السلام علينا، وعلى عباد الله الصالحين، وينوي كل صالح من عباده، ولا يقول: السلام على الله؛ فإن الله هو السلام، ويركع ركعتين بين يدي ربه، ويجعل الحق في قبلته، وتكون تلك الركعتان مثل التحية التي تحيى بها الملوك إذا تجلوا لرعيتهم، فإن كان دخوله في غير وقت صلاة فعندما يدخل المسجد يقوم بين يديه خاضعا ليلا مراقبا ممتثلا أمر سيده في نهيه عن الصلاة في ذلك الوقت، فإن رسم له بالقعود في بيته فليركع ركعتين، شكر الله تعالى حيث أمره بالقعود عنده في بيته؛ فهاتان الركعتان في ذلك الوقت صلاة شكر، ومن ركع قبل الجلوس، وليس في نيته الجلوس، وهو وقت صلاة فتلك الركعتان تحية لله لدخوله عليه في بيته، ومن راعى من العارفين دخوله على الحق في بيته، ولم يخطر له خاطر التقييد بالأوقات كان ركوعه ركوع تحية لدخوله، ومن كان حاضرا على الدوام مناجيا لله في كل حال فليست بتحية مطلقا، ولكنها ركوع شكر لله تعالى حيث جعله من المتقين بدخوله بيت الله؛ إذ جعل الله المسجد بيت كل تقي، والله أعلم .




الخدمات العلمية