الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومنها الاستكبار عن الحق وكراهته والحرص على المماراة فيه حتى إن أبغض شيء إلى المناظر أن يظهر على لسان خصمه الحق ومنهما ظهر تشمر لجحده وإنكاره بأقصى جهده وبذل غاية إمكانه في المخادعة والمكر والحيلة لدفعه حتى تصير المماراة فيه عادة طبيعية فلا يسمع كلاما إلا وينبعث من طبعه داعية الاعتراض عليه حتى يغلب ذلك على قلبه في أدلة القرآن وألفاظ الشرع فيضرب البعض منها بالبعض .

والمراء في مقابلة الباطل محذور إذ ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ترك المراء بالحق على الباطل قال صلى الله عليه وسلم من ترك المراء وهو مبطل بنى الله له بيتا في ربض الجنة ومن ترك المراء وهو محق بنى الله له بيتا في أعلى الجنة .

وقد سوى الله تعالى بين من افترى على الله كذبا وبين من كذب بالحق فقال تعالى : ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه وقال تعالى فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه .

ومنها الرياء وملاحظة الخلق والجهد في استمالة قلوبهم وصرف وجوههم .

والرياء هو الداء العضال الذي يدعو إلى أكبر الكبائر كما سيأتي في كتاب الرياء والمناظر لا يقصد إلا الظهور عند الخلق وانطلاق ألسنتهم بالثناء عليه .

فهذه عشر خصال من أمهات الفواحش الباطنة سوى ما يتفق لغير المتماسكين منهم من الخصام المؤدي إلى الضرب واللكم واللطم وتمزيق الثياب والأخذ باللحى وسب الوالدين وشتم الأستاذين والقذف الصريح فإن أولئك ليسوا معدودين في زمرة الناس المعتبرين وإنما الأكابر والعقلاء منهم هم الذين لا ينفكون عن هذه الخصال العشر .

نعم قد يسلم بعضهم من بعضها مع من هو ظاهر الانحطاط عنه أو ظاهر الارتفاع عليه أو هو بعيد عن بلده وأسباب معيشته ولا ينفك أحد منهم عنه مع أشكاله المقارنين له في الدرجة .

ثم يتشعب من كل واحدة من هذه الخصال العشر عشر أخرى من الرذائل لم نطول بذكرها وتفصيل آحادها مثل الأنفة والغضب والبغضاء والطمع وحب طلب المال والجاه للتمكن من الغلبة والمباهاة والأشر والبطر وتعظيم الأغنياء والسلاطين والتردد إليهم والأخذ من حرامهم والتجمل بالخيول والمراكب والثياب المحظورة والاستحقار للناس بالفخر والخيلاء والخوض فيما لا يعني وكثرة الكلام وخروج الخشية والخوف والرحمة من القلب واستيلاء الغفلة عليه حتى لا يدري المصلي منهم في صلاته ما صلى وما الذي يقرأ ومن الذي يناجيه ويحس بالخشوع من قلبه مع استغراق العمر في العلوم التي تعين في المناظرة مع أنها لا تنفع في الآخرة من تحسين العبارة وتسجيع اللفظ وحفظ النوادر إلى غير ذلك من أمور لا تحصى .

والمناظرون يتفاوتون فيها على حسب درجاتهم ولهم درجات شتى ولا ينفك أعظمهم دينا وأكثرهم عقلا عن جمل من مواد هذه الأخلاق وإنما غايته إخفاؤها ومجاهدة النفس بها .

التالي السابق


(ومنها) أي: ومن آيات المناظرة (الاستكبار عن) قبول (الحق) والامتناع منه (وكراهته) له (والحرص على المعاداة) أي: المخاصمة (فيه حتى إن أبغض شيء) يكون (إلى المنظر أن يظهر الحق) الصريح (على لسان خصمه) ويأبى ذلك (ومهما ظهر) الحق على لسان خصمه (تشمر) أي: تهيأ (لجحده وإنكاره) ومنعه (بأقصى) أي: نهاية (جهده) وطاقته (وبذل) أي: صرف (غاية إمكانه على المخادعة) والمراوغة (و) أنواع (المكر و) نصب (الحيلة لدفعه) وإزالته ويستمر على ذلك زمانا (ثم تصير المماراة) والمجادلة بهذا الوجه (عادة) مستمرة له (طبيعية) غريزية جبلية (فلا يسمع كلاما) من الخصم فيما يورده (إلا وينبعث) أي: يعتور ويتحرى من طبعه (داعية الاعتراض عليه) من كل الجهات (حتى يغلب ذلك على قلبه) ويستمر عليه فينشأ من ذلك الخوض والمماراة (في أدلة القرآن) الظاهرة (وألفاظ الشرع) الباهرة التي هي مقاطع الحق (فيضرب البعض منها بالبعض) ويركض على هذا المنوال أي ركض (والمراء في مقابلة الباطل محذور) وغوائله كثيرة (إذ ندب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) وحث أمته (إلى ترك المراء بالحق على الباطل) فكيف في المراء في مقابلة الباطل (فقال من ترك المراء وهو مبطل بني له بيت في ربض الجنة ومن ترك المراء وهو محق بني له بيت في أعلى الجنة) الربض محركة الساحة قال العراقي: أخرجه الترمذي، وابن ماجه من حديث أنس مع اختلاف، قال الترمذي: حديث حسن. اهـ .

قلت: هكذا أخرجاه من رواية سلمة بن وردان عن أنس بلفظ: من ترك الكذب وهو باطل بني له بيت في ربض الجنة ومن ترك المراء وهو محق بني له بيت في وسطها، ومن حسن خلقه بني له في أعلاها، وحسنه الترمذي وقال لا نعرفه إلا من حديث سلمة بن وردان عن أنس وضعفه ابن عدي في الكامل، وأخرجه ابن منده عن مالك بن أوس بن الحدثان عن أبيه وأخرجه أبو داود بسند جيد من حديث أبي أمامة رفعه: أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا وببيت في وسطها لمن ترك الكذب وإن كان مازحا وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه، وأخرج الطبراني في الكبير من حديث ابن عباس رفعه أنا الزعيم ببيت في رياض الجنة وببيت في أعلاها وببيت في أسفلها لمن ترك الجدال وهو محق وترك الكذب وهو لاعب وحسن خلقه، وأخرج الطبراني في [ ص: 301 ] الكبير من رواية عبد الله بن يزيد الدمشقي قال: حدثني أبو الدرداء وأبو أمامة وواثلة بن الأسقع وأنس بن مالك قالوا خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوما ونحن نماري فذكر حديثا فيه ذروا المراء فأنا زعيم بثلاثة في الجنة في رباضها ووسطها وأعلاها من ترك المراء وهو صادق، الحديث (وقد سوى الله تعالى) في كتابه العزيز (بين من افترى على الله كذبا) بأن نسب إليه ما لا يليق بجلاله وعظمته (وبين من كذب بالحق) المنزل (فقال: ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين ) (وقال) في موضع آخر من كتابه العزيز ( فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه ) .

(ومنها) أي: ومن آفات المناظرة (الرياء و) هو الفعل المقصود به (ملاحظة الخلق) ورؤيتهم غفلة عن الخالق وعماية عنه (و) في معنى بذل (الجهد في استمالة) أي: طلب ميل (قلوبهم وصرف وجوههم) إليه (والرياء) على ما سيأتي في الربع الثالث (هو الداء العضال) أي: الشديد، من أعضل الأمر إذا اشتد (الذي يدعو) ملتبسه (إلى أكثر الكبائر) والفواحش (كما سيأتي) تفصيله (في كتاب الرياء) من المهلكات (والمناظر) غالبا (لا يقصد إلا الظهور) والشهرة (عند الخلق) بتبجحاته وترهاته (وإطلاق ألسنتهم بالثناء عليه) بأنه أعلم العلماء وسيد المناظرين والمناضلين .

(فهذه) التي ذكرت (عشر خلال من أمهات الفواحش الباطنة) وأصولها وهي مخفية عن عيون الناس راسخة في الطبائع (سوى ما يتفق) غيرها (لغير المتماسكين منهم) والمستقلين بأعباء العلوم الراسخين فيها (من) خلال ذميمة كذلك نحو (الخصام المؤدي) أي: الموصل (إلى الضرب) بآلات الحرب (واللكم) باليد والفرق بينه وبين اللطم أن اللطم ما كان بالكف مبسوطة وقد يطلق أحدهما على الآخر توسعا (وتخريق الثياب) وتمزيقها بالتجاذب (والأخذ باللحى) جمع لحية معروفة (وسب الوالدين) بما لا يليق بهما (وشتم الأستاذين) أي: المشايخ والأستاذ لفظة أعجمية (والقذف الصريح) وأصل القذف الرمي البعيد ثم استعير للشتم والعيب (فإن أولئك) أي: المتصفين بهذه الأوصاف (ليسوا معدودين) محسوبين (في زمرة) أي: جماعة (المعتبرين) من العلماء والأشياخ (وإنما الأكابر) جمع كبير على غير قياس أو جمع أكبر (والعقلاء) ذوو الفطانة (منهم لا ينفكون) أي: لا يفارقون ( عن هذه الخصال العشرة) المذكورة فإن قال قائل: هذا الذي ذكره على إطلاقه غير متجه فإنا نرى بعضا منهم لا يظهر عليه عند المناظرة أثر من هذه الخلال .

فأجاب بقوله: (نعم قد يسلم بعضهم عن بعضها) أي: بعض تلك الخلال لكن (مع من هو ظاهر الانحطاط) أي: النزول (عنه) في المرتبة (أو ظاهر الارتفاع عليه) في المنزلة (أو) مع من هو (بعيد عن بلده) في المسافة (أو) بعيد (عن أسباب معيشته) فإن غالب التقاطع لا يكون إلا عن حسد في المعايش من جهة القلة والكثرة (ولا ينفك أحد منهم عنه) أي: عن ذلك الخصام (مع أشكاله) وأشباهه (المقارنين له) المحاذين (في الدرجة) والمنزلة كالمدرسين مع المدرس والمفتين مع المفتي وشيخ مدرسة مع شيخ مدرسة أخرى (ثم يتشعب) أي: يتفرع وفي نسخة: يتشعب وفي أخرى ينبعث (من كل واحدة من هذه الخصال العشر) المذكورة (عشرة أخرى من الرذائل) المستقبحة (لم نطول بذكرها وتفصيل آحادها) وإنما نلم على تعديدها على سبيل الإجمال وهي (مثل الأنفة) محركة هي الحمية (والغضب) نسبا إلى الأنف وهي الجارحة حتى قالوا شمخ فلان بأنفه للمتكبر (والبغضاء) هو نفور النفس عن الشيء الذي يرغب عنه (والطمع) وهو نزوع النفس إلى الشيء شهوة له (وحب طلب المال والجاه) عند الرؤساء (والتمكن من الغلبة) على الإخصام (والمباهاة) أي: المفاخرة (والأشر) وهو كفر النعمة (والبطر) ويقال الأشر شدة البطر والبطر أبلغ من الفرح إذ الفرح وإن كان مذموما غالبا فقد يحمد على قدر ما يحبب وفي الموضع الذي يحبب: فبذلك فليفرحوا وذلك؛ لأن الفرح قد يكون من سرور بحسب قضية العقل والأشر [ ص: 302 ] لا يكون إلا فرحا بحسب قضية الهوى (وتعظيم الأغنياء) من ذوي الأموال نظرا لما بيدهم (و) تعظيم (السلاطين) ومن في حكمهم من النواب والوزراء نظرا إلى جاههم وشوكتهم (والتردد إليهم) لحصول ذلك (والأخذ من خزائنهم) من الأموال وأنواع البر والصلة (والتجمل) أي: التزين (بالخيول) المسومة (والمراكب) الفارهة وفي حكمها البغال المثمنة (والثياب المخطورة) أي: ذوات الخطر وهي المثمنة وفي حكمها لبس الفراوي والتشاريف السلطانية (واستحقار الناس) واستصغارهم (بالفخر والخيلاء) أي: التكبر (والخوض) أي: الدخول (فيما لا يعني) من الكلام (وكثرة الكلام) من غير داع ولا موجب (وخروج الرحمة) أي: رقة القلب (والخشية) أي: الخوف من الله تعالى (من القلب واستيلاء الغفلة) وتحكمها (عليه) أي: على القلب (حتى لا يدري المصلي منهم) إذا دخل (في صلاته) مفروضة كانت أو نافلة كم صلى و (ما الذي يقرؤه) في صلاته (ومن الذي يناجيه) في توجهه ويخاطبه (ولا يجلس) أي: لا يدرك (بالخشوع) الذي هو روح العبادة (من قلبه) فإذا كان هذا حاله في الصلاة يمضي غافلا فهو في غيرها أشغل من ذات النحيين (واستغراق العمر) واستيفائه (في) تحصيل (العلوم) العقلية النظرية (التي تعين) وتساعد (في المناظرة) مع الخصم فيتقنون النحو والمنطق والكلام والجدل والفرائض والحساب؛ لأنها هي التي تفتق ألسنتهم في المحافل ويلقون العلوم الشرعية سواها وراء ظهورهم، (مع أنها) أي: تلك العلوم التي يحصلونها (لا تنفع في الآخرة) أصلا وإنما هي وبال على صاحبها وقد مضت حكاية نصر بن علي الجهضمي حين رأى الخليل بن أحمد في المنام وجوابه له وكذلك حكاية بعض المحدثين حين رأى بعض فقهاء الكوفة في منامه وجوابه له (حتى تحسين العبارة) وتلخيصها إذا كان بتكلف وإعمال نظر (وتسجيع اللفظ) حتى في الدعاء كما مرت إليه الإشارة وما ورد فيه من النهي الصريح فإن كل ذلك مما يمنع منه (وحفظ النوادر) والحكايات الغريبة مما توجد في المجالس بقصد الاستغراب منثورة أو منظومة (إلى غير ذلك في أمور لا تحصى) يدركها المتأمل الحاذق (والمناظرون يتفاوتون فيها على حسب درجاتهم) ورتبهم (ولهم درجات شتى) عالية ونازلة (لا ينفك أعظمهم دينا) أي: معرفة فيه (وأكثرهم عقلا) وذكاء (عن) تحمل (جمل) كثيرة (من مواد هذه الأخلاق) المذكورة (وإنما غايته) التي ينتهي إليها (إخفاؤها) في النفس (ومجاهدة النفس فيها) فإن غاب عليها نجا من تلك الرذائل وإن غلبت عليه أخلدته إلى الهون والمقاتل، نسأل الله سبحانه الإعانة عليها والتوفيق لما يرضاه .




الخدمات العلمية