الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
واعلم أن هذه الرذائل لازمة للمشتغل بالتذكير والوعظ أيضا إذا كان قصده طلب القبول وإقامة الجاه ونيل الثروة والعزة وهي لازمة أيضا للمشتغل بعلم المذهب والفتاوى إذا كان قصده طلب القضاء وولاية الأوقاف والتقدم على الأقران .

وبالجملة هي لازمة لكل من يطلب بالعلم غير ثواب الله تعالى في الآخرة فالعلم لا يهمل العالم بل يهلكه هلاك الأبد أو يحييه حياة الأبد ولذلك قال صلى الله عليه وسلم أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لا ينفعه الله بعلمه فلقد ضره مع أنه لم ينفعه وليته نجا منه رأسا برأس وهيهات هيهات فخطر العلم عظيم وطالبه طلب الملك المؤبد والنعيم السرمد فلا ينفك عن الملك أو الهلك وهو كطالب الملك في الدنيا فإن لم يتفق له الإصابة في الأموال لم يطمع في السلامة من الإذلال بل لا بد من لزوم أفضح الأحوال .

فإن قلت في الرخصة في المناظرة فائدة وهي ترغيب الناس في طلب العلم إذ لولا حب الرياسة لاندرست العلوم : فقد صدقت فيما ذكرته من وجه ولكنه غير مفيد إذ لولا الوعد بالكرة والصولجان واللعب بالعصافير ما رغب الصبيان في المكتب وذلك لا يدل على أن الرغبة فيه محمودة ولولا حب الرياسة لاندرس العلم .

ولا يدل ذلك على أن طالب الرياسة ناج بل هو من الذين قال صلى الله عليه وسلم فيهم : إن الله ليؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم وقال صلى الله عليه وسلم إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر فطالب الرياسة في نفسه هالك وقد يصلح بسببه غيره إن كان يدعو إلى ترك الدنيا وذلك فيمن كان ظاهر حاله في ظاهر الأمر ظاهر حال علماء السلف ولكنه يضمر قصد الجاه فمثاله مثال الشمع الذي يحترق في نفسه ويستضيء به غيره فصلاح غيره في هلاكه فأما إذا كان يدعو إلى طلب الدنيا فمثاله مثال النار المحرقة التي تأكل نفسها وغيرها .

فالعلماء ثلاثة إما مهلك نفسه وغيره وهم المصرحون بطلب الدنيا والمقبلون عليها وإما مسعد نفسه وغيره وهم الداعون الخلق إلى الله سبحانه ظاهرا وباطنا وإما مهلك نفسه مسعد غيره وهو الذي يدعو إلى الآخرة وقد رفض الدنيا في ظاهره وقصده في الباطن قبول الخلق وإقامة الجاه فانظر من أي الأقسام أنت ومن الذي اشتغلت بالاعتداد له فلا تظنن أن الله تعالى يقبل غير الخالص لوجهه تعالى من العلم والعمل .

وسيأتيك في كتاب الرياء بل في جميع ربع المهلكات ما ينفي عنك الريبة فيه إن شاء الله تعالى .

التالي السابق


(واعلم) أيها السالك (أن هذه الرذائل) التي ذكرت ليست خاصة في حق المناظرين فقط بل (لازمة للمستقل بالتذكير والوعظ) على الكراسي على ملأ من الناس (أيضا إذا كان قصده طلب القبول) والشهرة عند الناس (وإقامة) ركن (الجاه) والحشمة (ونيل الثروة) أي: الغني (والعز) من ذوي الأموال (وهي لازمة أيضا للمشتغل بعلم) فقه (المذهب و) كتابة (الفتاوى إذا كان قصده) بذلك (طلب) منصب (القضاء والفتاوى وولاية الأوقاف) السلطانية وفي حكم ذلك مشيخة المدارس والزوايا (والتقدم على الأقران) والنظراء ولا يخفى أن الذي يشتغل بعلم المذهب الآن فإنه لا يتصور منه الانفكاك عن هذه النيات (وبالجملة هي لازمة لكل من طلب بالعلم) أي: بتحصيله (غير ثواب الآخرة) الموعود به آجلا (والعلم) من حيث هو هو من خواصه أنه (لا يهمل) أي: لا يترك (العالم) أي: حامله المتلبس به (بل) إما أن (يهلكه هلاك الأبد) إذا لم يعمل بما علم (أو يحييه حياة الأبد) إذا عمل بما علمه (ولذلك قال -صلى الله عليه وسلم- أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لا ينفعه الله بعلمه) قد تقدم هذا الحديث في المقدمة وأنه أخرجه الطبراني في الصغير والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة بإسناد ضعيف ولفظهم لم ينفعه الله بعلمه وأخرجه ابن عدي أيضا، ولفظه: لم ينفعه علمه وقال الحافظ ابن حجر: غريب الإسناد والمتن وأورده الذهبي في [ ص: 303 ] الميزان في ترجمة عثمان بن عقيم وهو ضعيف، قال ابن عدي: حديثه لا يتابع عليه إسنادا ومتنا ولكن للحديث أصل أصيل قد روى الحاكم في مستدركه من حديث ابن عباس مرفوعا: أن أشد الناس عذابا يوم القيامة من قتل نبيا أو قتله نبي والمصورون، وعالم لا ينتفع بعلمه، قال المناوي: لأن عصيانه عن علم ولذا كان المنافقون في الدرك الأسفل لكونهم جحدوا بعد العلم، وكان اليهود شرا من النصارى لكونهم أنكروا بعد المعرفة قال عبد الحق: ومفهوم الحديث أن أعظمهم ثوابا عالم ينفعه علمه (فلقد ضره) علمه ضررا كثيرا حيث كان أشد الناس عذابا (مع أنه لم ينفعه) لعدم انفتاح عين بصيرته مع عذاب الحجاب عن مشاهدة الحق تعالى، فعذاب الحجاب إنما يحصل للعلماء الذين تنبهوا للذة لقاء الله في الجملة ولم يتوجهوا إلى تحصيل ذلك واتبعوا الشهوات الحسية المانعة لذلك (وليته نجا منه رأسا برأس) لا عليه ولا له (وهيهات) ذلك (فخطر العلم عظيم) ووباله جسيم وإليه الإشارة بقولهم العلم حجاب الله الأكبر، أي: للذي لم ينتفع به فإنه مانع له عن مشاهدته وعذابه أعظم من عذاب الجحيم (وطالبه طالب آلة الملك المؤبد والنعيم السرمد) أي: الدائم (فلا ينفك عن الملك أو الهلك) وفي بعض النسخ: وطالبه طالب الملك المؤبد أو العذاب السرمد لا ينفك عن الملك أو الهلك (وهو يطلب) وفي بعض النسخ: وهو كطلب (الملك في الدنيا فإن لم يتفق الإصابة) له فيها (لم يطمع في سلامة الأرذال) أي: الذين يعيشون سالمين من الأكدار ولعدم توجه الأعين إليهم (بل لا بد من فضوح الأحوال) في ذلك اليوم الشديد الأهوال، وفي نسخة: بل لا بد من لزوم أفصح الأحوال فنسأل الله السلامة (فإن قلت) قد بالغت في النكير على المناظرة والمناظرين ومن يختار هذه الطريقة مع أن (في الرخصة في المناظرة فائدة) ظاهرة (وهو ترغيب الناس) وتنشيطهم (في طلب العلم) وتحصيله وكثرة الطلبة وإظهار كلمة الحق (إذ لولا حب الرياسة) في مناصب العلوم (لاندرست العلوم) وانطمست آثارها (قلت: فقد صدقت فما ذكرته) وأوردته (من وجه) أي: من هذا الوجه فقط (ولكنه غير مفيد) ولا محمود (إذ لولا الوعد) أي: وعد الآباء أو المعلمين للصبيان (بالكرة والصولجان) الكرة هي العصاة يضرب بها الصولجان وهو يكبب من غزل أو خرق أو غير ذلك يلعب بها الصبيان وكانت هذه من ملاعب الجاهلية وبقيت رسومها في بلاد العجم (واللعب بالعصافير) والحمام (ما رغب الصبيان في) دخولها (الكتب) وهو محل قراءتهم ويقال له أيضا الكتاب (وذلك لا يدل على أن الرغبة فيه محمودة) لكونه باعثا لتعليم الأطفال بل هو مذموم من وجوه كثيرة ومع النظر إلى هذه الوجوه الكثيرة الدالة على ذمه لا ينظر إلى هذا الوجه الواحد لقلته وندرته (و) قولك (لولا حب الرياسة لاندرس العلم) صحيح (و) لكنه (لا يدل) وفي نسخة: وليس فيه دليل (على أن طالب الرياسة ناج) خالص من عذاب الله كلا والله (بل هو من الذين قال) في حقهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم: إن الله ليؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم) يؤيد أي: يقوي وينصر من الأيد وهو القوة، كأنه يأخذ معه بيده في الشيء الذي يقوى فيه، وذكر اليد مبالغة في تحقيق الوقوع وهذا الدين أي: الدين المحمدي والخلاق في الأصل ما اكتسبه الإنسان بخلقه من الفضيلة واستعير لمطلق الحظ والنصيب، وقيده بعضهم بالنصيب الوافر قاله السمين، وهذا الحديث لم يذكره العراقي في تخريجه وهو موجود في سائر النسخ الموجودة من الإحياء وقد أخرجه ابن عدي في الكامل من طريق جعفر بن جبير بن فرقد عن أبيه عن الحسين عن أبي بكرة قال: وجعفر هذا يروي المناكير وأبوه ضعيف،وأخرج أبو نعيم في الحلية في ترجمة مالك بن دينار عن الحسن، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ليؤيدن الله هذا الدين بقوم لا خلاق لهم قلت: يا أبا سعيد، عمن؟ قال عن أنس بن مالك، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وله شاهد قوي من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، أخرجه الطبراني في الكبير، ولفظه: إن الله تعالى ليؤيد هذا الإسلام برجال ما هم من [ ص: 304 ] أهله (وقال) -صلى الله عليه وسلم- (إن الله تعالى ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر) وهو الشاق ستر الديانة، أخرجه الطبراني في الكبير عن عمرو بن النعمان بن مقرن المزني قال ابن عبد البر له صحبة وأبوه من أجلة الصحابة قتل النعمان شهيدا بوقعة نهاوند سنة إحدى وعشرين ولما جاء نعيه خرج عمر فنعاه على المنبر وبكى، هكذا هو في الجامع الصغير للسيوطي قال المناوي في شرحه وظاهر صنيعه أن هذا لا يوجد مخرجا في الصحيحين ولا أحدهما وهو ذهول شنيع وسهو عجيب فقد قال الحافظ العراقي إنه متفق عليه من حديث أبي هريرة بلفظ: إن الله تعالى يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر ورواه البخاري في القدر وفي غزوة خيبر، ورواه مسلم مطولا، وممن رواه الترمذي في العلل عن أنس مرفوعا ثم ذكر أنه سأل عنه البخاري، فقال: حديث حسن، حدثناه محمد بن المثنى. اهـ .

فعزو المصنف الحديث للطبراني وحده لا يرتضيه المحدثون فضلا عمن يدعي الاجتهاد. اهـ .

وقد رد عليه شيخ مشايخ شيوخنا الحافظ شهاب الدين العجمي فقال: هو غير متجه من وجوه: أولا فإنه لم يقل ما رواه إلا الطبراني بصيغة الحصر ولم يلتزم في كل حديث أن يذكر جميع من رواه، وثانيا: أن ما نقله عن العراقي، أنه متفق عليه إنما هو من حديث أبي هريرة فهو في الصحيحين لا من حديث عمرو بن النعمان، وثالثا: أن المصنف نفسه قد نسبه في درر البحار للصحيحين من حديث أبي هريرة، وللطبراني من حديث عمرو المذكور، ومن حديث ابن مسعود فأفاد فيه أن الحديث رواه ثلاثة من الصحابة، وبذلك تضمحل جميع هذه الخرافات، والله أعلم بالنيات، قال: ثم رأيت في المشارق للصغاني هذا الحديث من رواية البخاري، عن أبي هريرة والنعمان بن مقرن، وقال شارحه ابن عبد الملك: انفرد البخاري برواية هذا الحديث، عن النعمان بن مقرن. اهـ .

قلت: حديث أبي هريرة اتفقا عليه فأخرجه البخاري في الجهاد وغزوة خيبر والقدر ومسلم في الإيمان وأما حديث النعمان بن مقرن فليحرر أين أخرجه البخاري فإنه ليس في الأطراف ولا في جمع عبد الحق ومختصره. اهـ .

قلت: أخرجه البخاري ومسلم من رواية الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، في أثناء حديث الرجل الذي قال فيه: إنه من أهل النار فتلخص من مجموع ذلك أن هذا الحديث روي من طرق خمسة من الصحابة، أبي هريرة، وابن مسعود، وأنس، وعمرو بن النعمان وأبيه عمرو بن مقرن، كما وقع عند الطبراني هنا في الإسناد وسماه في الترجمة عمرو بن النعمان بن مقرن وهو وهم نبه عليه العراقي وقد ذكر الحافظ ابن حجر في ترجمة عمرو بن النعمان من الإصابة أن روايته عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مرسلة، قاله أبو حاتم الرازي وطريق ابن مسعود ظفرت به في الكامل لابن عدي رواه حميد بن الربيع عن أبي داود الحضري، عن الثوري عن عاصم عن ذر عن عبد الله، قال ابن عدي وهذا بهذا الإسناد غير محفوظ لا يرويه غير حميد بن الربيع، وهو كذاب، وقد رواه الطبراني أيضا في الكبير، وفي إسناده ضعف وورد هذا الحديث أيضا عن كعب بن مالك وهو أيضا في المعجم الكبير للطبراني (وطالب الرياسة) الدنيوية ( في نفسه هالك) بمرة (وقد يصلح بسببه) وعلى يده وفي نسخة: بسعيه (غيره) وهو لا يخلو عن حالتين (فإن كان) بعلمه (يدعو) غيره ويرغبه (إلى ترك الدنيا) ودواعيها (وذلك فيمن حاله) وديدنه في (في ظاهر الأمر حال علماء السلف) الماضين فإنهم كانوا كذلك في أحوالهم (ولكنه يضمر) في نفسه قصد (الجاه) وطلب الرياسة (فمثاله الشمع الذي يحترق في نفسه ويستضيء به غيره) وقد أخرج الطبراني في الكبير من طريقين والضياء المقدسي في المختارة عن جندب -رضي الله عنه- رفعه: مثل العالم الذي يعلم الناس الخير، وينسى نفسه كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه، أي: يضيء للناس في الدنيا ويحرق نفسه في الآخرة (فصلاح غيره في هلاكه) هذا إذا لم يدع إلى طلب الدنيا (فأما إذا كان يدعو إلى طلب الدنيا) والرياسة (فمثاله النار المحرقة التي تأكل نفسها وغيرها فالعالم) وفي نسخة: فالعلماء (ثلاثة إما مهلك نفسه وغيره وهم [ ص: 305 ] المصرحون بطلب الدنيا) الداعون إليها (والمقبلون عليها) سعيا واهتماما في تحصيلها (وإما منقذ) أي: مخلص (نفسه وغيره وهم الراغبون إلى الله تعالى) بحسن إخلاصهم في أعمالهم (المعرضون عن الدنيا) ودواعيها (ظاهرا وباطنا) سرا وجهرا (وإما مهلك نفسه) بميله إليها باطنا (منقذ غيره) بتعليمه الأحكام (وهو الذي يدعو إلى الآخرة) ويتشوق إليها (وقد رفض الدنيا) وتركها (في ظاهره و) لم يعمل بعلمه إنما (قصده في الباطن) حصول (قبول) له من (الخلق وإقامة) ركن (الجاه) واستمالة وجوه الناس إليه وهذا وعيد لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وكان علماء الصحب على غاية من الخوف والوجل، ولذلك قالت عائشة لفتى اختلف إليها يسألها تحدثه فجاءها ذات يوم فقالت أي شيء عملت بعد ما سمعت قال: به قالت: فما تستكثر من حجج الله علينا وعليك.

(فانظر من أي الأقسام أنت) وإلى أي طائفة ملت (ومن الذي اشتغلت بالاعتذار له) وهو عالم سرك ونجواك (ولا تظن أن الله يقبل غير الخالص لوجهه) الكريم (من العلم والعمل) إنما لكل امرئ ما نوى (وسيأتيك في كتاب الرياء) خاصة (بل في جميع ربع المهلكات) من الأقوال الصريحة (ما يتقي) ويزيل (عنك الريبة) والشك (فيه إن شاء الله وحده) جل جلاله وصلى الله على سيدنا محمد وسلم .




الخدمات العلمية