الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومهما أشار عليه المعلم بطريق في التعلم فليقلده وليدع رأيه فإن خطأ مرشده أنفع له من صوابه في نفسه إذ التجربة تطلع على دقائق يستغرب سماعها مع أنه يعظم نفعها فكم من مريض محرور يعالجه الطبيب في بعض أوقاته بالحرارة ليزيد في قوته إلى حد يحتمل صدمة العلاج فيعجب منه من لا خبرة له به وقد نبه الله تعالى بقصة الخضر وموسى عليهما السلام حيث قال الخضر إنك لن تستطيع معي صبرا وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا ثم شرط عليه السكوت والتسليم فقال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا ثم لم يصبر ولم يزل في مراودته إلى أن كان ذلك سبب الفراق بينهما .

وبالجملة كل متعلم استبقى لنفسه رأيا واختيارا دون اختيار المعلم فاحكم عليه بالإخفاق والخسران .

فإن قلت فقد قال الله تعالى فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون فالسؤال مأمور به .

التالي السابق


(ومهما أشار عليه المعلم) وفي معناه [ ص: 316 ] المرشد في المواضع كلها (بطريق) من الطرق (في التعليم) خاص به أو عام (فليقلده) وليهتد به (وليدع) أي: يترك (رأيه) وإن كان صوابا (فإن خطأ مرشده) على الفرض والتقدير (أنفع له من صوابه في نفسه) بحسب الظاهر (إذ التجربة) في الأشياء كلها (تطلع) الإنسان (على دقائق) ونكات (يستغرب سماعها) ولذلك قيل: من جرب المجرب حلت به الندامة، وقال آخر: سل المجرب ولا تسأل طبيبا، وقالوا: أكبر منك بشهر أعقل منك بسنة (مع أنه يعظم نفعها) في الحقيقة (فكم من مريض محرور) المزاج إذا أصابه المرض (يعالجه الطبيب) الحاذق (في بعض أوقاته بالحرارة) أي: الأدوية الحارة (ليزيد في قوته إلى) أن يصل إلى (حد يحتمل صدمة العلاج) فيعالجه بما يزيل الحرارة ويقطعها عنه استئصالا وذلك؛ لأن الأدوية المبردة إذا وردت على حرارة ضعيفة صدمتها فجأة ولم تحتملها فربما أورث ذلك إلى أمراض أخر عسرة البرء (فيتعجب منه من لا خبرة له) ولا علم في دقائق الطب والأطباء ونص الذريعة: وكما أن من حق المريض، أن يكل إلى الطبيب الناصح الذي وقف على دائه ليطلب الطبيب دواءه وعزله فإنه إن يشته لم يشته إلا ما فيه دواؤه ولم يختر إلا ما فيه شفاؤه، كذلك حق المتعلم إذا وجد معلما ناصحا أن يأتمر له ولا يتأمر عليه ولا يراده فيما ليس بصدد تعلمه. اهـ .

(وقد نبه الله تعالى) في كتابه العزيز على الحرص على لقاء العالم وعلى المتعلم ثم على آدابه التي يستعملها عند لقائه (بقصة الخضر وموسى عليهما السلام) ونص الذريعة: وكفى على ذلك تنبيها ما حكى الله تعالى عن العبد الصالح أنه قال لموسى إلخ. اهـ .

وذلك فيما روي أن موسى عليه السلام خطب الناس بعد هلاك القبط ودخول مصر خطبة بليغة فأعجب بها فقيل له: هل تعلم أحدا أعلم منك فقال: لا فأوحى الله إليه بلى عبدنا الخضر، وهو بمجمع البحرين، وكان الخضر في أيام أفريدون وكان على مقدمة ذي القرنين الأكبر، وبقي إلى أيام موسى، وقيل: إن موسى سأل ربه، أي عبادك أحب إليك؟ قال: الذي يذكرني ولا ينساني قال: فأي عبادك أقضى؟ قال الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى؟ قال: فأي عبادك أعلم؟ قال: الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة تدل على هدى أو ترده عن ردى فقال: إن كان في عبادك أعلم مني فدلني عليه قال: أعلم منك الخضر، قال: أين أطلبه؟ قال: على الساحل عند الصخرة قال: كيف لي به؟ قال: تأخذ حوتا في مكتل فحين فقدته فهو هناك، (حيث قال الخضر) عليه السلام حين رحل إليه سيدنا موسى عليه السلام: ليزداد علما إلى علمه، "وقال لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا" حرصا منه على لقائه والتعلم منه فلما لقيه سلك مسلك المتعلم، مع معلمه فبدأ بعد السلام بالاستئذان على متابعته وأنه لا يتبعه إلا بإذنه وقال له: "هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا" فلم يجئ مستمحنا ولا متعنتا وإنما جاء متعلما مستزيدا علما إلى علمه، فلما لقيه وعرفه بنفسه قال له الخضر: (إنك لن تستطيع معي صبرا) نفى عنه استطاعة الصبر معه على وجوه من التأكيد كأنها مما لا يصح ولا يستقيم وعلل ذلك واعتذر عنه بقوله (وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا) أي: كيف تصبر وأنت نبي على ما أتولى من أمور ظواهرها مناكير وبواطنها لم يحط بها خبرك وحينئذ قال في الجواب: ستجدني إن شاء الله صابرا، أي: معك غير منكر عليك ولا أعصي لك أمرا، فعلق وعده بالمشيئة إما للتيمن أو لعلمه بصعوبة الأمر فإن مشاهدة الفاسد والصبر على خلاف المعتاد شديد فلا خلاف فيه (ثم شرط عليه السكوت والتسليم) والإذعان كما هو عادة المعلم مع متعلمه (فقال فإن اتبعتني) كما أمرتك (فلا تسألني) أي: لا تفاتحني بالسؤال (عن شيء) أنكرته مني ولم تعلم وجه صحته (حتى أحدث لك منه ذكرا) أي: حتى أبتدأك ببيانه (ثم) لما انطلقا إلى الساحل يطلبان السفينة فلما ركباها أخذ الخضر فأسا فخرق السفينة، بأن قلع لوحين من ألواحها (لم يصبر) على ذلك حتى سأله فاعتذر له، وقال لا تؤاخذني بما نسيت أي: لا تعترض علي بنسياني إياها وهو اعتذار بالنسيان، أخرجه في معرض النهي عن المؤاخذة مع قيام المانع لها وقيل: أراد بالنسيان الترك أي: لا تؤاخذني بما تركت من وصيتك أول مرة وقيل: هو من معاريض الكلام [ ص: 317 ] والمراد شيء آخر نسيه (ولم يزل في مراددته) ثانيا وثالثا، بقتل الغلام وإقامة الجدار بغير أجرة وإنكاره عليه فيهما ثم طلب العذر من قبله لما خالفه ثلاث مرات بعدم مصاحبته له (إلى إن كان ذلك سبب فراق ما بينهما) وهو المفهوم من قوله تعالى: قال هذا فراق بيني وبينك ، الإشارة إلى الفراق الموقور بقوله: فلا تصاحبني أو إلى الاعتراض الثالث أو الوقت وإضافة الفراق إلى البين إضافة المصدر إلى الظرف على الاتساع .

ويروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: قال رحم الله أخي موسى: استحيى فقال ذلك، ولو لبث مع صاحبه لأبصر أعجب الأعاجيب، قال ابن القيم: وكفى بهذا شرفا وفضلا للعلم فإن نبي الله وكليمه سار ورحل حتى لقي النصب في سفره في تعلم ثلاث مسائل من رجل عالم ولما سمع به لم يقر له قرار حتى لقيه، وطلب منه متابعته وتعليمه وفي قصها عبر وآيات وحكم ليس هذا موضع ذكرها .

(وبالجملة) أي: حاصل الكلام أن (كل متعلم) في أي علم (كان إن استبقى لنفسه رأيا واختيارا) يراه به ويختاره (دون اختيار المعلم فاحكم عليه) قطعا (بالإخفاق) أي: الخيبة والحرمان (والخسران) نعوذ بالله من الخذلان (فإن قلت) إن المتبادر إلى الأذهان في قصة الخضر وموسى عليهما السلام عدم السؤال حيث شرط الخضر على موسى السكوت والتسليم وقوله: فلا تسألني عن شيء حيث دل على عدم المفاتحة بالسؤال وهذا على ظاهره غير متجه (فقد قال الله تعالى) في موضع آخر من كتابه العزيز: (فاسألوا أهل الذكر) أي: أهل العلم (إن كنتم لا تعلمون فالسؤال مأمور به) بمقتضى هذه الآية وكذلك الخبر الذي من طريق أهل البيت: العلم خزائن ومفتاحها السؤال، والخبر الآخر: لا ينبغي للجاهل أن يستقر على جهله ولا للعالم أن يسكت على علمه، وقال ذو النون المصري، حسن سؤال الصادقين مفتاح قلوب العارفين .




الخدمات العلمية