الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الوظيفة الرابعة أن يحترز الخائض في العلم في مبدإ الأمر عن الإضغاء إلى اختلاف الناس سواء كان ما خاض فيه من علوم الدنيا أو من علوم الآخرة فإن ذلك يدهش عقله ويحير ذهنه ويفتر رأيه ويؤيسه عن الإدراك والاطلاع بل ينبغي أن يتقن أولا الطريق الحميدة الواحدة المرضية عند أستاذه ثم بعد ذلك يصغي إلى المذاهب والشبه .

وإن لم يكن أستاذه مستقلا باختيار رأي واحد وإنما عادته نقل المذاهب وما قيل فيها فليحذر منه فإن إضلاله أكثر من إرشاده فلا يصلح الأعمى لقود العميان وإرشادهم ومن هذا حاله يعد في عمى الحيرة وتيه الجهل .

ومنع المبتدئ عن الشبه يضاهي منع الحديث العهد بالإسلام عن مخالطة الكفار وندب القوى إلى النظر في الاختلافات يضاهي حث القوى على مخالطة الكفار ولهذا يمنع الجبان عن التهجم على صف الكفار .

ويندب الشجاع له ومن الغفلة عن هذه الدقيقة ظن بعض الضعفاء أن الاقتداء بالأقوياء فيما ينقل عنهم من المساهلات جائز ولم يدر أن وظائف الأقوياء تخالف وظائف الضعفاء .

وفي ذلك قال بعضهم من رآني في البداية صار صديقا ومن رآني في النهاية صار زنديقا إذ النهاية ترد الأعمال إلى الباطن وتسكن الجوارح إلا عن رواتب الفرائض فيتراءى للناظرين أنها بطالة وكسل وإهمال وهيهات فذلك مرابطة القلب في عين الشهود والحضور وملازمة الذكر الذي هو أفضل الأعمال على الدوام وتشبه الضعيف بالقوي فيما يرى من ظاهره أنه هفوة يضاهي اعتذار من يلقى نجاسة يسيرة في كوز ماء ويتعلل بأن أضعاف هذه النجاسة قد يلقى في البحر والبحر أعظم من الكوز فما جاز للبحر فهو للكوز أجوز .

ولا يدري المسكين أن البحر بقوته يحيل النجاسة ماء فتنقلب عين النجاسة باستيلائه إلى صفته والقليل من النجاسة يغلب على الكوز ويحيله إلى صفته ولمثل هذا جوز للنبي صلى الله عليه وسلم ما لم يجوز لغيره حتى أبيح له تسع نسوة إذ كان له من القوة ما يتعدى منه صفة العدل إلى نسائه وإن كثرن وأما غيره فلا يقدر على بعض العدل بل يتعدى ما بينهن من الضرار إليه حتى ينجر إلى معصية الله تعالى في طلبه رضاهن فما أفلح من قاس الملائكة بالحدادين .

التالي السابق


(الوظيفة الرابعة) من الوظائف التسعة (أن يحترز الخائض في العلم) أي: الواغل في تحصيله وقد تقدم مرارا أن أصل الخوض هو الدخول في الماء، ثم استعير لغيره (في مبدأ الأمر) أي: في أوله (عن الإصغاء) أي: الاستماع والميل (إلى اختلافات الناس) وتشعب آرائهم (سواء كان ما خاض فيه من علوم الدنيا) كهذه العلوم التي ولع المتأخرون بتحصيلها وسموها بزعمهم أسبابا موصلة إلى علوم الآخرة (أو علوم الآخرة) كعلم معرفة القلب، وما يرد عليه وعلم محاسبة النفس والدقائق وغير ذلك (فإن ذلك) أي: النظر إلى اختلاف الناس فيه (يذهل) وفي نسخة: يذهب (عقله) بتشتته (ويحير ذهنه) بالوساوس (ويفتر رأيه) عن الإقبال إلى الحق (ويؤيسه عن الإدراك) الحقيقي (والاطلاع) لما هو بصدده وكل من الذهول والتحير وفتور الرأي واليأس من أسباب الحرمان للطالب (بل ينبغي أن يتقن أولا الطريقة الواحدة) أي: يحكمها في عقله بقوة همته وصرف جهده إلى تحصيلها وهي (المرضية عند أستاذه) المقبولة لديه (ثم بعد ذلك) أي: بعد اتقائها وحلولها في القلب قبل كل شيء كالأساس المحكم على حد قولهم:

أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلبا خاليا فتمكنا

(يصغي إلى) معرفة اختلافات (المذاهب) وكيفية حججها ودلائلها (والشبه) وتقريرها كيف ردها (وإن لم يكن أستاذه) أي: معلمه (مستقلا باختيار رأي واحد) ولا متضلعا في تلك الطريقة التي يتعلمها منه (وإنما عادته) وطريقته (نقل المذاهب) إلى أقوالها (وما قيل فيها) من الحجج والبراهين (فليحذر منه) الطالب ولا يصاحبه (فإن إضلاله أكثر من إرشاده) فإن كل متعلم يحذو حذو معلمه فإذا كان المعلم بذلك الوصف فهو كالمتحير الذي لم يبصر الطريق، فمتى حذاه المتعلم، وصار ينقل طريقته فهو في الحيرة أكثر فاستمر الإضلال إلى ما شاء الله تعالى، ولذا منع فيما سبق من الزمان من تدريس العلوم من لم يتدرب بين يدي الرجال، ولم يتقنه الأبطال خوفا بأن يضر العوام ويهلك بجهله الطغام (فلا يصلح الأعمى لقود العميان وإرشادهم) أي: لا يصلح الجاهل لإرشاد الجهال ولذلك قيل:

ومن عجب الدنيا طبيب مصفر     وأعمش كحال وأعمى منجم

[ ص: 319 ] (ومن هذا حاله فهو بعد في عمى الحيرة ورتبة الجهل) فلا يصلح منه الإرشاد والتسليك بحال من الأحوال، ولهذا فسد الأوان وعم الطغيان، وقد ورد في الحديث: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظروا الساعة. (ومنع المبتدئ) في العلوم (من الشبه) والغوامض (يضاهي) أي: يشبه (منع الحديث العهد بالإسلام عن مخالطة الكفار) ومجالستهم كيلا يسري إليه بعض تهويلاتهم فيتمكن في قلبه لضعفه (وندب القوى) في العلم أي: حثه وحمله (إلى النظر في الاختلافات) مع كثرتها (يضاهي حث القوي) الكامل أداة سلاحه (على مخالطة الكفار) إذ قد تمكن فيه العلم بالله تعالى فلا تزلزله عقائد الكفار فلو خالطهم لم يضروه بتمويهاتهم وتهويلاتهم (ولذلك يمنع العاجز) وهو عادم القوة الجبان (عن التقحم) أي: الدخول، وفي نسخة: عن التهجم، (على صف الكفار) وهم أقوياء (ويندب الشجاع له) أي: للتقحم لشجاعته وقوته، وهذا السياق في كتاب الذريعة ونصه: وحق من هو بصدد تعلم علم من العلوم أن لا يصغي إلى الاختلافات المشكلة والشبه الملبسة ما لم يتهذب في قوانين ما هو بصدده; لئلا يتولد له شبهة تصرفه عن التوجه فيه فيؤدي ذلك إلى الارتداد ولذلك نهى الله سبحانه من لم يكن بقوي في الإسلام عن مخالطة الكفار، فقال: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ، وقال: ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل ومن أجل ذلك كره للعامة أن يجالسوا أهل الأهواء; لئلا يغووهم والعامي إذا خلا بذوي البدع كالشاة إذا خلت بالسبع، وقال بعض الحكماء: إنما حرم الله تعالى في الابتداء لحم الخنزير; لأنه تعالى أراد أن يقطع العصمة بين العرب وبين الذين كانوا يشككونهم باجتماعهم معهم من اليهود والنصارى، فحرم على المسلمين ذلك إذ هو معظم مأكولاتهم وعظم الأمر في تناوله ومسه لينتهي المسلمون عن الاجتماع في المواكلة والأنس، قال عليه السلام في المؤمن والكافر: لا تتراءى ناراهما لذلك، وأما الحكيم فإنه لا بأس بمجالسته أياما; فإنه جار مجرى سلطان ذي عدة وأجناد وعتاد لا يخاف عليه العدو حيثما توجه له الاستماع إلى الشبه، بل أوجب عليه أن يتبع بقدر جهده كلامهم، ويسمع شبههم ليجاهدهم ويدافعهم فالعالم أفضل المجاهدين الذابين عن الدين فالجهاد جهادان جهاد باللسان، وجهاد بالبنان، ولما تقدم سمى الله تعالى الحجة سلطانا في غير موضع من كتابه، كقوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: إني آتيكم بسلطان مبين . اهـ .

(ومن الغفلة) الظاهرة (عن هذه الدقيقة) الفاخرة (ظن بعض الضعفاء) أي: ضعفاء العقول (أن الاقتداء) أي: الاتباع (بالأقوياء) أي: أصحاب القوى الراسخة (فيما ينقل عنهم) ويروى (من المساهلات) في الأعمال والأقوال (جائز ولم يدر) وفي نسخة: ولم يدرك (أن وظائف الأقوياء تخالف وظائف الضعفاء) وذلك بحسب اختلاف مقاماتهم وقربهم من الحضرة وبعدهم فكما لا يقاس أحدهما بالآخر فكذلك لا تقاس وظائفهما (ولذلك قال بعضهم) أي: من العارفين (من رآني) أي: أبصرني بعين اعتباره مع الاتباع لطريقتي (في البداية) أي: في أول السلوك (صار صديقا) أي: بلغ هذه المرتبة العلية وهي مرتبة التكاليف الشاقة (ومن رآني في النهاية) أي: في منتهى سلوكي (صار زنديقا) ثم علله بقوله (إذ النهاية ترد الأعمال إلى الباطن) فتكون العبادة كلها تفكرا ونقل السراج البلقيني في شرحه على البخاري قولا لبعض في أن عبادته -صلى الله عليه وسلم- كانت الفكر، وقال غيره: معنى قولهم: إن النهاية ترد الأعمال إلى الباطن، أي: يشتغل السالك حينئذ بالأذكار القلبية والأفكار في الصفات الإلهية والمصنوعات الآفاقية والأنفسية والتهذيب بالأخلاق السنية والشمائل البهية من الرحمة والتحمل والصبر والشكر والرضا والتفويض والتوكل والتحقق بحال الفناء ومقام البقاء وهذا مقام كل الأصفياء (وتقبض الجوارح) وفي نسخة: وتسكن عن سائر الأعمال الشاقة (إلا عن رواتب الفرائض) وقد قيل: بداية الأنبياء نهاية الأولياء، هذا هو المعروف عند السادة الصوفية، وأما ما نقل عن بعضهم في أن بداية الولي نهاية النبي فإنما هو باعتبار التكاليف الشرعية من الأوامر الفرضية في الزواجر المنهية فلما لم يتصف السالك بما انتهى أمر [ ص: 320 ] دينه -صلى الله عليه وسلم- لم يدخل في باب الولاية، ولا يكون له حظ من حسن الرعاية وحفظ الحماية وهو تأويل حسن إن صح هذا القول عنهم، ويشير إليه قول الجنيد - رحمه الله تعالى- كما سبق: طريقتنا هذه مربوطة بالكتاب والسنة، ومن هنا قال بعض السادة: بدايتنا نهاية غيرنا (فيتراءى للناظر) في أول وهلته (أنها) أحق تلك الحالة (بطالة وكسل) وفتور عن الأعمال المأمور بها (وإهمال) لأصل العبادات (وهيهات فذلك) الذي هو عليه هو بعينه (مرابطة للقلب) الصنوبري عن حضور ما سوى الله تعالى (في عين الشهود) الإلهي (والحضور) القربى فهو قائم مع الحقيقة وملحظه الفضل والتزام الحرمة كما هو شأن أهل النهاية كما أن شأن أهل البداية القيام مع الشريعة ومبنى أمرهم على المجاهدة والخدمة وشتان بين مقامي المجاهدة والمنة فصاحب المجاهدة غارق في الفرق وهو بمعاملته محجوب وصاحب المنة غارق في الفضل وهو في سائر حركاته وسكناته محبوب إن نطق فبالله وإن عمل فلله وإن رجع فمن الله وإن ذهب فإلى الله، فهو بالله ولله ومن الله وإلى الله، لا يعرف إلا الله ولا يشهد إلا الله، كما قيل من عرف الله شهده في كل شيء فيستوحش من كل شيء ويأنس به كل شيء صار مشهودا له معنى فأينما تولوا فثم وجه الله سجية، وحقيقة وهو معكم أين ما كنتم منطوية في قلبه (وملازمته للتذكر) والتفكر (الذي هو أفضل الأعمال) للعبد (على الدوام) لما ورد من طرق ضعيفة: تفكر ساعة خير من عبادة الثقلين، وهذه هي العبادة الباطنية، التي كانت عليها كمل الأصفياء وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب ، ولقد كانت الصحابة رضوان الله عليهم يتفكرون ويتذكرون وقد روى الأصبهاني في ترغيبه وأبو نعيم في الحلية من طريق شهر بن حوشب عن ابن عباس أنه -صلى الله عليه وسلم- خرج على أصحابه، فقال: ما جمعكم؟ فقالوا: اجتمعنا نذكر ربنا ونتفكر في عظمته، فقال: تفكروا في خلق الله ولا تتفكروا في الله; فإنكم لن تقدروا قدره (وتشبه الضعيف بالقوي فيما يرى من ظاهره أنه هفوة) ونقص مقام (يضاهي) أي: يشابه (اعتذار من يلقى نجاسة يسيرة) أي: قليلة (في كوز ماء) مثلا (بأن أضعاف هذه النجاسات) على كثرتها (قد يلقى في البحر) ويرمى فيه فلا يكدره (و) لا شك أن (البحر أعظم من الكوز) جرما وأكثر ماء (فما جاز للبحر) من عدم حمله للنجاسة (فهو للكوز أجوز) أي: أكثر جوازا ولعمري هذا قياس لكنه باطل (ولا يدري المسكين أن البحر لقوته) وسعته (يحيل النجاسة ماء) بتلاشي أجزائها (فتنقلب النجاسة باستيلائه) أي: غلبته وقوته يعني البحر (إلى صفته) أي: البحر التي هي الطهورية في نفسه والتطهير لغيره (والقليل من النجاسة يغلب) الماء الذي في (الكوز) لضعفه (ويحيله إلى صفته) التي هي التنجس في نفسه فقد بان بذلك بطلان قياس القائس (وبمثل هذا جوز للنبي صلى الله عليه وسلم) خاصة مما يتعلق به (ما لم يجوز لغيره) من سائر أمته (حتى أبيح له) الجمع بين (تسع نسوة) بنكاح صحيح وهو معروف قال العراقي: وفي الصحيحين من حديث ابن عباس كان عند النبي -صلى الله عليه سلم- تسع نسوة كان يقسم لثمان ولا يقسم لواحدة ورواه النسائي كذلك كلهم من رواية ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس، قال:، وأخرج البخاري والنسائي من رواية سعد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يطوف على نسائه في ليلة واحدة وله تسع نسوة.

وفي رواية لهما من رواية هشام الدستوائي عن قتادة كان يدور على نسائه في الساعة الواحدة في الليل والنهار وهن إحدى عشرة، قلت لأنس: أكان يطيقه؟ قال: كنا نتحدث أنه أعطي قوة ثلاثين (إذ كان له) -صلى الله عليه وسلم- (من القوة) التي أعطيها (ما تتعدى) أي: تتجاوز (منه صفة العدل) الذي هو أحسن الصفات وهو الأمر المتوسط بين الإفراط والتفريط (إلى نسائه وإن كثرن) وأما ما اشتهر عند العامة من أنه -صلى الله عليه وسلم- شكا إلى جبريل من ضعف الباه فأنزل له من السماء الكفيت وهي قدر فيها هريسة فأكل منها فعادت قوته فهذا شيء لا أصل له، ولا يعتمد عليه، وأما القوة المطلقة من غير أن تتعدى صفة العدل فقد أعطيها جماعة من آحاد أمته، كما بلغنا عن شيخ من السادة [ ص: 321 ] النقشبندية وهو حي الآن أنه غاب عن زوجته أياما، فلما رجع طالبته بحقها في الجماع، فقال لها: كم نقص لك من العدد؟ قالت: أربعين فجامعها أربعين مرة على التوالي من غير نقص ولا فتور، ( وأما غيره فلا يقدر على العدل) والمساواة، ( بل يتعدى ما بينهن من الضرار) أي: المضارة ( إليه حتى ينجر) الحال منه ( إلى) ارتكاب ( معصية الله) تعالى ( في طلب رضاهن) ، وهذا مشاهد، وروى أصحاب السنن الأربعة، وابن حبان في صحيحه من رواية عبد الله بن يزيد، عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يقسم بين نسائه فيعدل، فيقول: اللهم هذه قسمتي فيما أملك، ولا تلمني فيما تملك ولا أملك، لفظ الترمذي ، وقال: ومعنى قوله: فيما تملك ولا أملك إنما يعني به الحب والمودة، ( فما أفلح من قاس الملائكة بالحدادين) شتان بينهما، ووجدت في هامش النسخة بخط الشمس الحريري ما نصه: المراد بالحدادين المشاعلي، الذي يقيم الحد، أو السجان، أو على ظاهره أقوال .




الخدمات العلمية