الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الوظيفة السادسة أن لا يخوض في فن من فنون العلم دفعة بل يراعي الترتيب ويبتدئ بالأهم فإن العمر إذا كان لا يتسع لجميع العلوم غالبا فالحزم أن يأخذ من كل شيء أحسنه ويكتفي منه بشمه ويصرف جمام قوته في الميسور من علمه إلى استكمال العلم الذي هو أشرف العلوم وهو علم الآخرة أعني قسمي : المعاملة والمكاشفة فغاية المعاملة المكاشفة .

وغاية المكاشفة معرفة الله تعالى ولست أعني به الاعتقاد الذي يتلقفه العامي وراثة أو تلقفا ، ولا طريق تحرير الكلام والمجادلة في تحصين الكلام عن مراوغات الخصوم كما هو غاية المتكلم بل ذلك نوع يقين هو ثمرة نور يقذفه الله تعالى في قلب عبد طهر بالمجاهدة باطنه عن الخبائث حتى ينتهي إلى رتبة إيمان أبي بكر رضي الله عنه الذي لو وزن بإيمان العالمين لرجح ، كما شهد له به سيد البشر صلى الله عليه وسلم فما عندي أن ما يعتقده العامي ويرتبه المتكلم الذي لا يزيد على العامي إلا في صنعة الكلام ولأجله سميت صناعته كلاما وكان يعجز عنه عمر وعثمان وعلي وسائر الصحابة رضي الله عنهم حتى كان يفضلهم أبو بكر بالسر الذي وقر في صدره .

والعجب ممن يسمع مثل هذه الأقوال من صاحب الشرع صلوات الله وسلامه عليه ثم يزدري ما يسمعه على وفقه ويزعم أنه من ترهات الصوفية وأن ذلك غير معقول فينبغي أن تتئد في هذا فعنده ضيعت رأس المال فكن حريصا على معرفة ذلك السر الخارج عن بضاعة الفقهاء والمتكلمين ولا يرشدك إليه إلا حرصك في الطلب .

وعلى الجملة فأشرف العلوم وغايتها معرفة الله عز وجل وهو بحر لا يدرك منتهى غوره وأقصى درجات البشر فيه رتبة الأنبياء ثم الأولياء ثم الذين يلونهم .

وقد روي أنه رؤي صورة حكيمين من الحكماء المتقدمين في مسجد وفي يد أحدهما رقعة فيها إن أحسنت كل شيء فلا تظنن أنك أحسنت شيئا حتى تعرف الله تعالى وتعلم أنه مسبب الأسباب وموجد الأشياء وفي يد الآخر كنت قبل أن أعرف الله تعالى أشرب وأظمأ حتى إذا عرفته رويت بلا شرب .

التالي السابق


الوظيفة السادسة من وظائف المتعلم التسعة: اعلم ( أن العمر) ولو طال ( إذا كان لا يتسع لجميع العلوم) أي: لتحصيلها على طريق الحصر والاستيعاب ( غالبا) كما هو مشاهد، ولو مارسه ألف سنة ( فالحزم) كل الحزم أي الرأي الوثيق ( أن يأخذ) الطالب في أثناء طلبه ( من كل شيء أحسنه) ، والأخذ أعم من التلقي والكتابة والحفظ، فيتلقى من كل علم أحسنه، ويكتب منه أحسن ما يكتب مما ينتفع به هو وغيره، ويحفظ منه أحسن ما يحفظ وأنفعه، وإليه يشير قول القائل:


ما حوى العلم جميعا أحد لا ولو مارسه ألف سنة إنما العلم كبحر زاخر
فخذوا من كل شيء أحسنه

( ويكتفى منه بشمة) أي: بقليل مما يكون له معينا، وزادا للآخرة، وفي الذريعة للراغب: من كان قصده الوصول إلى جوار الله تعالى، وتوجه نحوه كما قال تعالى: ففروا إلى الله ، وكما في الحديث: "سافروا تغنموا" فحقه أن يجعل أنواع العلم كزاد موضوع في منازل السفر فتناول منه في كل منزل قدر البلغة، فلا يعرج على تقصيه واستفراغ ما فيه فتقصي الإنسان نوعا واحدا من العلوم على الاستقصاء يستفرغ عمرا، بل أعمارا، ثم لا يدرك قعره ولا يسبر غوره، وقد نبهنا الباري تعالى، على أن نفعل ذلك بقوله: الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه وقال علي رضي الله عنه: العلم كثير فخذوا من كل شيء أحسنه، وقال الشاعر:


قالوا خذ العين من كل فقلت لهم في العين فضل ولكن ناظر العين

( ويصرف جمام قوته) بكسر الجيم أي كل قوته وتمامها ( في الميسور من علمه) أي: مما تيسر منه ( إلى) متعلق بـ يصرف، أي يصرف جمام قوته إلى ( استكمال العلم الذي هو أشرف العلوم) أي: إلى تحصيله بطريق الاستيعاب والتكميل ( وهو علم الآخرة) وأشرفيته باعتبار ما يؤول إليه من ثمراته وغاياته ثم [ ص: 323 ] فسره بقوله: ( أعني) أي: أقصد بذلك العلم، أي هو أشرف العلوم ( قسمين: المعاملة والمكاشفة) ولما كان شرفهما بالغايات أشار لذلك بقوله: ( فغاية المعاملة المكاشفة، وغاية المكاشفة معرفة الله تعالى) من غير افتقار إلى تأمل البرهان، ( ولست أعني به) أي: بغاية المكاشفة ( الاعتقاد الذي تلقفه) من التلقف، وهو الأخذ بالفم، وفي نسخة: تلقنه بالنون، وهو الأصح ( العامي وراثة) من شيوخه، ( وتلقفا) من فم إلى فم ( ، ولا) أعني أيضا ( طريق تحرير الكلام) بالبراهين الدالة على مقصوده ( والمجادلة) بأقيسة ظنية ( في تحصين ذلك) الاعتقاد وحمايته ( من مراوغات الخصوم) ومطاولاتهم، ( كما هو غاية) حال ( المتكلم) عند استكماله ( بل) أعني به ( نوع يقين) ، هو رؤية العيان بقوة الإيمان لا بالحجة والبرهان، أو مشاهدة الغيوب بصفاء القلوب، بل ملاحظة الأسرار بمحافظة الأفكار ( وهو ثمرة نور) رباني ( يقذفه الله تعالى) بواسطة ملائكته ( في قلب عبد) أحبه الله قد ( طهر) ظاهره عن الأحداث المذمومة ( بالمجاهدة) الحقيقية، والخروج عن المألوفات النفسية، ونزه ( باطنه) المعمور بأسرار الله المغمور بأنواره ( عن الخبائث) الإبليسية، والرذائل الخسيسة ( حتى ينتهي) في سيره مع الملازمة على مجاهدته ( إلى رتبة إيمان) أمير المؤمنين ( أبي بكر) الصديق رضي الله عنه الذي ما سبق الناس بكثرة صلاة لا صيام، ولكن بشيء وقر في صدره وهو الذي ( لو وزن) إيمانه ( بإيمان العالمين) ( أجمعين لرجح، كما شهد له به سيد البشر صلى الله عليه وسلم) .

قال العراقي: لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان العالمين لرجح، أخرجه ابن عدي من حديث ابن عمر بإسناد ضعيف، ورواه البيهقي في الشعب موقوفا على عمر بإسناد صحيح اهـ .

قلت: الذي رواه البيهقي في الشعب من قول عمر لفظه: لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان الناس لرجح إيمان أبي بكر، وهكذا هو في مسند إسحاق بن راهويه، قال الحافظ السخاوي: وراوية عن عمر هزيل بن شرحبيل.

قلت: وهو الأودي الكوفي ثقة مخضرم من رجال البخاري، والأربعة، اهـ .

قال: وهو عند ابن المبارك في الزهد، ومعاذ بن المثنى في زيادات مسند مسدد اهـ .

ورأيت في ذخيرة الحناط لابن طاهر المقدسي الذي رتب فيه الكامل لابن عدي، وهو بخط المصنف ما نصه: لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح، رواه عبد الله بن عبد العزيز بن أبي رواد، عن أبيه، عن نافع، عن ابن عمر، وعبد الله لم يتابع عليه، وهذا الذي أشار له العراقي أنه بإسناد ضعيف ولكن ليس فيه: بإيمان العالمين .

وكذا أخرجه ابن عدي في ترجمة عيسى بن عبد الله بن سليمان العسقلاني عن رواد بن الجراح، عن عبد العزيز بن أبي رواد، عن نافع، وعيسى ضعيف الحديث، ولفظه: لو وضع إيمان أبي بكر على إيمان هذه الأمة لرجح بها.

قلت: وقد رواه الديلمي أيضا في مسند الفردوس من هذه الطريق بهذا اللفظ، وقول السخاوي: إن عيسى وإن كان ضعيفا لكنه لم ينفرد به، فقد أخرجه ابن عدي من طريق آخر اهـ .

كأنه يشير إلى طريق عبد الله بن عبد العزيز بن أبي رواد، فربما يفهم من سياق هذا أنه طريق صحيح، وليس كذلك فإن عبد الله لم يتابع عليه، كما تقدم فعلى كل حال حديث ابن عمر من طريقيه لا يخلو من ضعف، فتأمل .

قال الحافظ السخاوي: وله شاهد في السنن أيضا عن أبي بكرة مرفوعا أن رجلا قال: يا رسول الله، رأيت كأن ميزانا من السماء فوزنت أنت، وأبو بكر فرجحت أنت، ثم وزن أبو بكر بمن بقي فرجح الحديث ( فما عندي) أي: ليس عندي ( أن ما يعتقده العامي) أي: يجعله عقيدة له ( ويرتبه المتكلم) ترتيبا بالبراهين والأدلة ( الذي لا يزيد على العامي) في عقيدته ( إلا في الكلام) من البحث في ذات الله وصفاته وأحوال الممكنات من المبدأ والمعاد، ( ولهذا سميت صناعته كلاما) إشارة إلى وجه بسمتيه، وقد تقدم ما يتعلق به في أول الكتاب ( كان يعجز عنه عمر وعلي وسائر الصحابة) رضوان الله عليهم أجمعين، ولكنهم لم يكونوا ملتفتين لمثل ذلك، وإنما كانوا في حضرة الشهود والكشف الأتم، فلو كلفوا إيراد مثل هذه الدقائق التي أبدتها المتكلمون في محاولاتهم لأعجبوا، وشتان بين من توحيده عن كشف وعيان وبين من هو رهين أسر البراهين ( حتى كان) وفي [ ص: 324 ] نسخة: حين كان ( يفضلهم) سيدنا ( أبو بكر) رضي الله عنه ( بالسر الذي وقر في صدره) إشارة إلى ما ورد: ما فضلكم أبو بكر بفضل صوم ولا صلاة ولكن بشيء وقر في قلبه، قال العراقي: لم أجده مرفوعا، وقال السخاوي وهو عند الحكيم الترمذي في نوادره من قول بكر بن عبد الله المزني: وقد سبق الإيماء إلى ذلك ( والعجب ممن يسمع هذه الأقوال) مثل وزن إيمان أبي بكر، وسبقه على الناس، ورجحانه بما أعطيه ( من صاحب الشرع صلوات الله عليه) وسلامه، ( ثم يزدري) أي: يحتقر، وفي نسخة: ثم يرد ( بما يسمعه على وفقه) ولا يعتبره ولا يقيم له رأسا، ( ويزعم أنه من ترهات الصوفية) وخرافاتهم والترهات: الأباطيل، ( وإن ذلك غير معقول) أي: غير داخل في العقل، وفي نسخة: غير مقبول ( فينبغي) لك أيها الطالب ( أن تتئد) أي: تتأنى ( في هذا) المقام، وألق سمعك لفهمه ( فعنده ضيعت) ، وفي نسخة: ضيعة ( رأس المال) وهو مثل ضربه فإن من ضيع رأس ماله ما لم يستفد شيئا ( فكن) أيها الطالب ( حريصا على معرفة ذلك السر) الذي فضل به أبو بكر على العالمين ( الخارج عن بضاعة الفقهاء والمتكلمين) ; لكونه غير محتاج إلى تركيب الأدلة والبراهين، وإنما هو نور يقذفه الله في قلب من شاء من عباده بعد تطهيره من الخبائث الظاهرية والمعنوية، ونقل صاحب القوت عن بعض العارفين قال: من نظر في توحيده إلى عقله لم ينجه توحيده من النار، ومن كان توحيده في الدنيا معلقا بمعقوله لم يحمل توحيده معه إلى اليقين، ( فلا يرشدك إليه إلا حرصك في الطلب) وهمتك في إنشاد هذه الضالة ممن درج ودب، ( وعلى الجملة فأشرف العلوم) على الإطلاق ( وغايتها) التي تنتهي إليها الهمم ( معرفة الله عز وجل) عارية عن شوائب الحجج والبراهين، ( وهو بحر لا يدرك منتهى قعره) قد تاهت فيه ألباب العارفين، وكل منهم نال فيه مقاما بحسب همته وقوته وتطهيره وتقربه، وليس كل معرفة معرفة، ألا ترى إلى الذي رأى الله تعالى سبعين مرة فقيل له: سر المعرفة على غير الوجد الذي كان عرف فاندهش، ولم يتحمل فمات لوقته، وسبب هذا صدقه في مقام المعرفة، وسيأتي هذا للمصنف في آخر الكتاب، وتقدم الإيماء إليه في خلال فصول المقدمة، ( وأقصى درجات البشر فيه رتبة الأنبياء) صلوات الله عليهم; إذ هم الفائزون بالقدح المعلى في ذلك ( ثم الأولياء) ، ودخل فيهم الصديقون ( ثم الذين يلونهم) من العلماء على حسب درجاتهم ومقاماتهم، فأولئك الذين صفى قلبهم بنور اليقين، وأيد عقلهم بالتوفيق والتمكين، وتجرد هممهم من تعلق الخلق، وتأله سرهم بالعكوف على الخالق، وخلت نفوسهم عن الهوى، وسرت أرواحهم فجالت في الملكوت الأعلى، فشهدوا على الكشف أوصاف ما عرفوا فقاموا حينئذ بشهادة ما عرفوا، ( وقد) روي أنه ( رؤي صورة حكيمين من الحكماء المتقدمين) أي: فيما سبق من الزمان، وكأنهم من حكماء اليونان، وفي نسخة :المتعبدين ( في مسجد) أي: في معبد من معابدهم، ونص الذريعة: والنهاية من العلوم النظرية معرفة الله تعالى على الحقيقة المصدوقة، والعلوم كلها خدم لها وهي حرة، وروي أنه رؤي صورة حكيمين من القدماء المتألهين في بعض مساجدهم ( في يد أحدهما رقعة) مكتوبة، ( وفيها) ما نص ترجمته: ( إن أحسنت كل شيء) أي: أتقنت في صنعته ( فلا تظنن أنك أحسنت شيئا حتى تعرف الله) حق معرفته، ( وتعلم أنه مسبب الأسباب وموجد الأشياء) ، وهذا هو التوحيد الخالص فكأنه يقول: منتهى المعارف كلها معرفة الله بوحدانيته، ومن لا يصل إليه فلا يظن في نفسه أنه أحسن شيئا ( وفي يد الآخر) رقعة فيها مكتوب ( كنت قبل أن عرفت الله سبحانه أشرب فأظمأ) فلا يحصل لي الري ( حتى إذا عرفته رويت بلا شرب) ، زاد في الذريعة بعد هذا ما نصه: بل قد قال الله تعالى ما أشار به إلى ما هو أبلغ من حكمة كل حكيم قل الله ثم ذرهم ، أي اعرفه حق المعرفة، ولم يقصد بذلك أن يقول قولا باللسان اللحمي، فذلك قليل الغناء ما لم يكن عن طوية خالصة ومعرفة حقيقية، وعلى ذلك قوله عليه السلام: من قال: لا إله إلا الله مخلصا دخل الجنة اهـ .

قلت: وقول الحكيم: رويت بلا شرب، هذا هو الشرب المعنوي الذي لا ظمأ بعده [ ص: 325 ] والعارف بالله تعالى ريان دائما وإن لم يشرب، ومن لم يعرف فهو ظمآن دائما وإن شرب، وفي ذلك قيل: من عرف الله فلم تغنه معرفة الله فذاك الشقي يزعم أن العز في ماله .

والعز كل العز للمتقي، وفي القوت: قال بعضهم: في الدنيا جنة من دخلها لم يشتق إلى شيء، ولم يستوحش قيل: وما هي ؟ قال: معرفة الله تعالى، ويروى عن علي رضي الله عنه ما يسرني أن الله تعالى أماتني طفلا، وأدخلني الدرجات العلى من الجنة، قيل: ولم قال لأنه أحياني حتى عرفته، وقال مالك بن دينار: خرج الناس من الدنيا ولم يذوقوا أطيب شيء منها، قيل: وما هو؟ قال: المعرفة ثم أنشأ يقول:


إن عرفان ذي الجلال لعز وضياء وبهجة وسرور
وعلى العارفين أيضا بهاء وعليهم من المحبة نور
فهنيئا لمن عرفك إلهي هو والله دهره مسرور






الخدمات العلمية