الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الصنف الخامس المكاتبون .

فيدفع إلى السيد سهم المكاتب وإن دفع إلى المكاتب جاز ولا يدفع السيد زكاته إلى مكاتب نفسه لأنه يعد عبدا له .

التالي السابق


(الصنف الخامس)

وفي الرقاب؛ أي: وللصرف في فك الرقاب وهم (المكاتبون) ، فيدفع إليهم من الصدقة ما يعينهم على العتق، بشرط أن لا يكون معه ما يفي بنجومه، ويشترط كون الكتابة صحيحة، ويجوز الصرف قبل حلول النجم على الأصح، وإنما جاز الدفع إليهم لأنهم من سهم الرقاب، وبه قال أبو حنيفة وأحمد (ويدفع إلى السيد سهم المكاتب) بإذنه على الأحوط والأفضل، ولا يجوز بغير إذن المكاتب؛ لأنه المستحق لكن يسقط عن المكاتب بقدر المصروف لأن من أدى دين غيره بغير إذنه برئت ذمته، قال النووي: وكون الدفع إلى السيد أحوط وأفضل هو الذي أطلقه جماهير الأصحاب، وقال الشيخ نصر المقدسي: إن كان الحاصل آخر النجوم يحصل العتق، فالدفع إلى السيد بإذن المكاتب أفضل، وإن حصل دون ما حصل عليه لم يستحب دفعه إلى السيد؛ لأنه إذا دفعه إلى المكاتب اتجر فيه ونماه فهو أقرب إلى العتق ا ه .

(وإن دفع إلى المكاتب) بغير إذن السيد (جاز) ، وإذا استغنى المكاتب عما أعطيناه وعتق بتبرع السيد بإعتاقه أو بإبرائه أو بأداء غيره عنه، أو بأدائه هو من مال آخر، وبقي مال الزكاة في يده، فوجهان، وقيل: قولان؛ أصحهما: يسترد منه؛ لعدم حصول المقصود بالمدفوع، وإن كان قد تلف المال في يده بعد العتق غرمه، وإن تلف قبله فلا على الصحيح، قال في الوسيط: وكذا لو أتلفه، وإذا عجز المكاتب وكان المال في يده استرد، وإن كان تالفا لزمه غرمه على الأصح، وهل يتعلق بذمته أو برقبته؟ وجهان؛ أصحهما: بذمته، ولو دفعه إلى السيد وعجز ببقية النجوم، فالأصح الاسترداد فإن تلف عنده ففي الغرم الخلاف السابق، ولو ملكه السيد شخصا لم يسترد منه بل يغرم السيد إن قلنا بتغريمه؛ ولذا لم يعجز نفسه واستمر في الكتابة فتلف ما أخذه وقع الموقع، ونقل بعض الأصحاب عن الإمام أن للمكاتب أن ينفق ما أخذ ويؤدي النجوم من كسبه، ومنعه صاحب الشامل وقطع به، ونقله صاحب البيان عنه ولم يذكر غيره، وقال النووي: وهذا أقيس من قول الإمام، وقال البغوي في الفتاوى: لو افترض ما أدى به النجوم فعتق لم يصرف إليه من سهم الرقاب، ولكن من سهم الغارمين، (ولا يدفع السيد زكاته إلى مكاتب نفسه) على الصحيح؛ (لأنه يعد عبدا له) فتعود الفائدة إليه، وجوزه ابن جبران منهم، ووافق أصحابنا أصحاب الشافعي في المسائل المذكورة إلا ما ندر كما ستأتي الإشارة إليه، وعن أحمد روايتان أظهرهما: جواز دفعها إلى المكاتبين، وخالفهم مالك، فقال: لا يجوز الدفع إليهم، فإن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم، فكيف يعطى من الزكاة؟ واختلفوا هل يجوز أن يبتاع من الزكاة رقبة كاملة فيعتقها؟ فقال أبو حنيفة والشافعي والليث وأكثر الكوفيين: لا يجوز، وقوله تعالى: وفي الرقاب محمول عندهم على أنه يعان المكاتبون في فك رقابهم، وقال مالك في المشهور: أنه يجوز ويكون الولاء للمسلمين .

وروى ابن وهب عن مالك مثل قول الجماعة، وإلى قول مالك المشهور مال البخاري وابن المنذر، واحتج هؤلاء بأن شراء الرقيق ليعتق أولى من إعانة المكاتب؛ لأنه قد يعان ولا يعتق، وعن أحمد روايتان: أظهرهما: الجواز، وفي المقنع للمرداوي الحنبلي: وللمكاتب الأخذ من الزكاة قبل حلول نجم، ويجزئ أن يشتري منها رقبة لا تعتق عليه فيعتقها، ولا يجزئ عتق عبده ومكاتبه منها. اهـ .

وهو موافق لما رواه ابن أبي حاتم وأبو عبيد في الأموال بإسناد صحيح عن الزهري: أنه كتب لعمر بن عبد العزيز أن سهم الرقاب يجعل نصفين؛ نصف لكل مكاتب يدعي الإسلام، ونصف تشترى به رقاب من صلى وصام، ومذهب الجماعة [ ص: 148 ] هو المنقول عن جماعة من الصحابة والتابعين. أخرج ابن جرير في التفسير من طريق محمد بن إسحق عن الحسن بن دينار عن الحسن البصري أن مكاتبا قام إلى أبي موسى الأشعري، وهو يخطب يوم الجمعة، فقال له: أيها الأمير حث الناس علي، فحث عليه أبو موسى، فألقى الناس عليه، هذا يلقي عمامة، وهذا يلقي ملاءة، وهذا يلقي خاتما، حتى ألقى الناس عليه سوادا كثيرا، فلما رأى أبو موسى ما ألقي عليه، قال: اجمعوه، ثم أمر به فبيع، فأعطى المكاتب مكاتبته ثم أعطى الفضل في الرقاب، ولم يرده على الناس، وقال: إن الذي أعطوه في الرقاب.

وأخرج أيضا عن البصري والزهري وعبد الرحمن بن يزيد بن أسلم أنهم قالوا: المراد بالرقاب أهل الكتابة ومعهم النظر؛ لأن الركن في الزكاة التمليك، ولا يتصور من القن، فتعين المكاتب وهذا؛ لأنها لا يخلو إما أن تكون مصروفة لمولاه أو إلى نفس العبد، ولا جائز أن يكون الأول؛ لأنه قد يكون غنيا، ولا الثاني؛ لأن العبد لا يملك رقبة نفسه بذلك، وإنما يتلف على ملك مولاه، والدفع إلى عبد الغني كالدفع إلى مولاه بخلاف المكاتب؛ لأنه جدير، ولا سبيل للمولى على ما في يده .



(تنبيه)

قال أصحابنا: قولهم: المراد بالرقاب أهل الكتابة هو مطلق فيشمل ما إذا كان مولاه فقيرا أو غنيا، كبيرا أو صغيرا، هاشميا أو غيره، هذا هو المشهور في المذهب، وخالف الحداد، فقال في الجوهرة: لا يجوز دفعها إلى مكاتب الغني والصغير والهاشمي مطلقا، وقال صاحب الاختيار: قالوا: لا يجوز دفعها إلى مكاتب هاشمي؛ لأن الملك يقع للمولى، وقال الإمام أبو الليث: لا يدفع إلى مكاتب الغني، ولكن إطلاق النص يقتضي الجواز، وهذا مبني على أن المدفوع للمكاتب ومن ذكر عبده في الآية هل يصير ملكا لهم أو لا؟ وجهان في المذهب، وقيل: قولان؛ الأول: لا يصير ملكا لهم؛ ولهذا عدل فيهم عن اللام إلى "في"، أي: إنما يصرف المال إلى مصالح تتعلق بهم، الثاني: يصير ملكا لهم والعدول إلى "في" للإيذان بأنهم في الاستحقاق أرسخ من غيرهم، وإلى هذا مال صاحب البدائع، فقال: وإنما جاز دفع الزكاة إلى المكاتب؛ لأن الدفع إليه تمليك، فهذا ظاهر في أن الملك يقع للمكاتب وما بعده بالطريق الأولى، فإذا قلنا بهذا الوجه هل لهم الصرف إلى غير تلك الجهة؟ قولان: أصحهما: لا، وعلى هذا فرع صاحب المحيط عدم جواز دفعها إلى مكاتب هاشمي، مستدلا بأن الملك يقع للمولى من وجه، والشبهة ملحقة بالحقيقة في حقهم، والمعول على هذا التفريع، ولا ينظر إلى النص ولو صححوه، قال صاحب المجمع: فإن عجز المكاتب وانتقلت الصدقة إلى مولاه الغني تحل له؛ لأنها وقعت في مصرفها عند الأخذ .



(فصل)

اعتبار الرقاب هم الذين يطلبون الحرية من رق كل ما سوى الله، فإن الأسباب قد استرقت أكثر العالم، وأعلاه استرقاق من استرقته الأسماء الإلهية، وليس أعلى من هذا الاسترقاق، ومع هذا ينبغي لهم أن لا تسترقهم الأسماء لغلبة نظرهم إلى أحدية الذات من كونها ذاتا لا من كونها إلها، ففي مثل هذه الرقاب تخرج الزكاة .




الخدمات العلمية