الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والاكتحال وإدخال الميل في الأذن والإحليل إلا أن يقطر فيه ما يبلغ المثانة وما يصل بغير قصد من غبار الطريق أو ذبابة تسبق إلى جوفه أو ما يسبق إلى جوفه في المضمضة فلا يفطر إلا إذا بالغ في المضمضة فيفطر لأنه مقصر وهو الذي أردنا بقولنا : عمدا فأما ذكر الصوم فأردنا به الاحتراز عن الناسي فإنه لا يفطر .

التالي السابق


(والاكتحال) إذ ليست العين من الأجواف وقد روي : "أنه -صلى الله عليه وسلم- اكتحل في رمضان وهو صائم " قال النووي في شرح المهذب : رواه ابن ماجه بإسناد ضعيف من رواية بقية عن سعيد بن أبي سعيد عن هشام بن عروة عن عائشة وسعيد ضعيف قال : وقد اتفق الحفاظ عن أن رواية بقية عن المجهولين مردودة. أهـ .

قال الحافظ بن حجر : وليس سعيد بن أبي سعيد بمجهول بل هو ضعيف واسم أبيه عبد الجبار على الصحيح ورواه البيهقي من طريق محمد بن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه عن جده : "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يكتحل وهو صائم " ورواه ابن حبان من حديث ابن عمر وسنده مقارب ورواه ابن أبي عامر في كتاب الصيام له من حديث ابن عمر أيضا بلفظ : "خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعيناه مملوءتان من الإثمد وذلك من رمضان وهو صائم " قال الرافعي : ولا فرق بين أن يجد في الحلق منه طعما أو لا يجد فإنه لا منفذ من العين إلى الحلق وما يصل إليه من المسام وبه قال أبو حنيفة وعن مالك وأحمد أنه إذا وجد في الحلق طعما منه أفطر (وإدخال الميل في) باطن (الأذن و) باطن (الإحليل) وهو بالكسر مخرج البول من الذكر واللبن من الثدي (إلا أن يقطر فيه) أي : في باطن الإحليل (ما يبلغ المثانة) وهو مستقر البول من الإنسان والحيوان وموضعها من الإنسان فوق المعى المستقيم ومن المرأة فوق الرحم والرحم فوق المعى المستقيم قال الرافعي : في بطلان الصوم بالتقطير في الأذن بحيث يصل إلى الباطن وجهان : أحدهما : وبه قال الشيخ أبو محمد : أنه يبطل كالسعوط [ ص: 209 ] والثاني : لا يبطل لأنه لا منفذ من الأذن إلى الدماغ وما يصل من المسام فأشبه الاكتحال ويروى هذا الوجه عن الشيخ أبي علي والفوراني والقاضي الحسين وهو الذي أورده المصنف في الوجيز ولكن الأول أظهر عند أكثر الأصحاب ولهم أن يقولوا هب أن الأذن لا منفذ فيه إلى داخل الدماغ لكنه نافذ إلى داخل قحف الرأس لا محالة والوصول إليه كاف في البطلان وبنى الإمام هذا الخلاف على الوجهين السابقين فيما يعتبر في الباطن الذي يصل إليه الشيء فإن داخل الأذن جوف لكن ليس فيه قوة الإحالة وعلى الوجهين يتفرع ما إذا أقطر في إحليله شيئا ولم يصل إلى المثانة ففي وجه يبطل صومه وهو الأظهر كما لو وصل إلى حلقه ولم يصل إلى المعدة وفيه وجه لا يبطل كما لو وضع في فمه شيئا وبهذا قال أبو حنيفة وهو اختيار القفال وتوسط بعض متأخري الأصحاب فقال : إن وصل إلى ما وراء الحشفة أفطر وإلا لم يفطر تشبيها بالحلق والفم. أهـ . وقال ابن أبي هبيرة في الإفصاح : واختلفوا فيما إذا أقطر في إحليله فقال أبو حنيفة ومالك وأحمد : لا يفطر وقال الشافعي : يفطر ويجب عليه القضاء. أهـ .

وعبارة الهداية : ولو أقطر في إحليله لم يفطر عند أبي حنيفة وقال أبو يوسف : يفطر ، وقول محمد مضطرب والإقطار في أقبال النساء على هذا الخلاف وقال بعضهم : يفسد بلا خلاف لأنه شبيه بالحقنة قال في المبسوط وهو الأصح (وما يصل) إلى الحلق (من غير قصد) منه (من غبار الطريق) وغربلة الدقيق (أو ذبابة) أو بعوضة تطير و (تدخل إلى جوفه) لم يكن مفطرا وإن كان إطباق الفم واجتناب الطريق ومفارقة موضع الدقيق ممكنا لأن تكليف الصائم الاحتراز عن الأفعال المعتادة التي يحتاج إليها فيه عسر شديد بل لو افتتح فاه عمدا حتى وصل الغبار إلى جوفه فقد قال في التهذيب : أصح الوجهين أنه يقع عفوا ، وشبهوا هذا الخلاف بالخلاف فيما إذا قتل البراغيث عمدا وتلوث بدمائها هل يقع عفوا ؟ قال في المجموع : وقضيته أن محل عدم الإفطار به إذا كان قليلا ولكن ظاهر كلام الأصحاب الإطلاق وهو الظاهر وقد يفهم أنه لو خرجت مقعدة المبسور فردها قصدا أنه يفطر والأصح كما في التهذيب والكافي أنه لا يفطر لاضطراره إليه كما لا يبطل طهر المستحاضة بخروج الدم وقال أصحابنا : إذا دخل حلقه غبار أو ذباب وهو ذاكر لصومه لا يفطر لأنه لا يستطاع الامتناع عنه فأشبه الدخان وهذا استحسان والقياس أن يفطر لوصول المفطر إلى جوفه وإن كان لا يتغذى به كالتراب والحصى ونحو ذلك وجه الاستحسان ما بينا أنه لا يقدر على الامتناع عنه فصار كما إذا بقي في فيه بعد المضمضة ونظيره ما ذكره في الخزانة أن دموعه أو عرقه إذا دخل حلقه وهو قليل مثل قطرة أو قطرتين لا يفطر وإن كان أكثر بحيث يجد ملوحة في حلقه يفسده واختلفوا في الثلج والمطر والأصح أنه يفسده لإمكان الامتناع عنه بأن تأويه خيمة أو سقف وهذا يقتضي أنه لو لم يقدر على ذلك بأن كان سائرا مسافرا أفسده ولو دخل فمه المطر فابتلعه لزمته الكفارة (أو ما سبق إلى جوفه في المضمضة فلا يفطر ) وكذا إذا استنشق فوصل الماء إلى دماغه (إلا إذا بالغ في المضمضة فيفطر لأنه مقصر وهو الذي أردنا بقولنا : عمدا) وقال الرافعي : إذا تمضمض فسبق الماء إلى جوفه أو استنشق فوصل الماء إلى دماغه فقد نقل المزني أنه يفطر وقال في اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى : إنه لا يفطر إلا أن يتعمد الازدراد وللأصحاب فيه طريقان : أصحهما : أن المسألة على قولين :

أحدهما وبه قال مالك وأبو حنيفة والمزني : أنه لا يفطر لأنه وصل الماء إلى جوفه بفعله فإنه هو الذي أدخل الماء في فيه وأنفه .

والثاني وبه قال أحمد وهو اختيار الربيع : لا ؛ لأنه وصل بغير اختياره فأشبه غبار الطريق والثاني القطع بأنه لا يفطر حكاه المسعودي وغيره ثم من القائلين من حمل منقول المزني على ما إذا تعمد الازدراد ومنهم من حمله على ما إذا بالغ وحمل النص الثاني على ما إذا لم يبالغ ونفى الخلاف في الحالتين وإذا قلنا بطريقة القولين فما محلهما فيه ثلاثة طرق : أصحها : أن القولين فيما إذا بالغ أما إذا لم يبالغ فلا يفطر بلا خلاف والفرق على الطريقين أن المبالغة منهي عنها وأصل المضمضة والاستنشاق محثوث عليه فلا تحسن مؤاخذته مما يتولد منه بغير اختياره والثالث طرد القولين في الحالين وإذا ميزنا حالة المبالغة عن حالة الاقتصار على أصل المضمضة [ ص: 210 ] والاستنشاق حصل عند المبالغة قولان مرتبان كما ذكر في الوجيز وظاهر المذهب ما ذكرنا عند المبالغة الإفطار وعند عدم المبالغة الصحة ولا يخفى أن محل الكلام فيما إذا كان ذاكرا للصوم أما إذا كان ناسيا فلا يفطر بحال ، وسبق الماء عند غسل الفم لنجاسة كسبقه عند المضمضة والمبالغة ههنا للحاجة ينبغي أن يكون كالسبق في المضمضة بلا مبالغة ولو سبق الماء من غسله تبردا أو من المضمضة في الكرة الرابعة فقد قال في التهذيب : إن بالغ بطل صومه وإلا فهو مرتب على المضمضة وأولى بالإفطار لأنه غير مأمور به قال النووي في زوائد الروضة : المختار في الرابعة الجزم بالإفطار كالمبالغة لأنها منهي عنها ولو جعل الماء في فيه لا لغرض وسبق فقيل يفطر وقيل : بالقولين ولو مج ولم ينو صوما فتمضمض ولم يبالغ فسبق الماء إلى جوفه ثم نوى صوم تطوع صح على الأصح وقال أصحابنا ومالك سبق الماء في المضمضة والاستنشاق إلى الحلق مفسد للصوم وسواء كان مبالغا فيهما أو لم يكن وقال أحمد : يفسد صومه إن لم يكن مبالغا فيه كأن بالغ فالظاهر من مذهبه أنه يفطر على احتمال والله أعلم .

(فأما) قولنا مع (ذكر الصوم فأردنا به الاحتراز عن الناسي فإنه) إذا أكل ناسيا أو شرب كذلك نظر إن قل أكله (لا يفطر) خلافا لمالك فإنه قال يفسد ويجب عليه القضاء قال الرافعي : لنا ما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال : "من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه " قال الحافظ : متفق عليه من حديث أبي هريرة ولابن حبان والدارقطني وابن خزيمة والحاكم والطبراني في الأوسط : "إذا أكل الصائم ناسيا فإنما هو رزق ساقه الله إليه ولا قضاء عليه " ولهما وللدارقطني والبيهقي : "من أفطر في شهر رمضان ناسيا فلا قضاء عليه ولا كفارة " قال الدارقطني تفرد به محمد بن مرزوق عن الأنصاري وهو ثقة. أهـ .

وإن كثر ففيه وجهان كالوجهين في بطلان الصلاة بالكلام الكثير والأصح عدم البطلان هنا بخلاف الصلاة لأن لها هيئة مذكرة بخلاف الصوم وإن أكل جاهلا بكونه مفطرا وكان قريب العهد بالإسلام أو نشأ في بادية وكان يجهل ذلك لم يبطل وإلا فيبطل .




الخدمات العلمية