الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومهما خرج المعتكف لقضاء حاجته فإذا عاد ينبغي أن يستأنف النية إلا إذا كان قد نوى أولا عشرة أيام مثلا والأفضل مع ذلك التجديد .

التالي السابق


ثم قال المصنف رحمه الله تعالى : (ومهما خرج المعتكف لقضاء حاجته فإذا عاد فينبغي أن تستأنف النية) اعلم أنه لا بد من النية في ابتداء الاعتكاف كما في الصلاة ويجب التعرض في المنذور لنية الفرضية لتمتاز عن التطوع ثم في الركن مسألتان : إحداهما : إذا نوى الاعتكاف لم يخل إما أن يطلق أو يعين بنيته زمانا فإن أطلق كفاه ذلك وإن طال عكوفه لكن لو خرج من المسجد ثم عاد لزمه استئناف النية سواء خرج لقضاء الحاجة أو لغيره فإن ما مضى عبادة تامة والثاني اعتكاف جديد قال في التتمة فلو أنه عزم عند خروجه أن يقضي حاجته ويعود كانت هذه العزيمة قائمة مقام النية ولو عين زمانا وإليه أشار المصنف بقوله : (إلا إذا كان قد نوى أولا) اعتكاف [ ص: 243 ] (عشرة أيام مثلا) فلا يحتاج للتجديد لأن النية شملت جميع المدة بالتعيين وهو أحد الأقوال الثلاثة المذكورة في الوجيز وسماها في الوسيط وجوها ، قال الرافعي : وهو الموافق لإيراد الأئمة .

والقول الثاني : أنه إن لم تطل مدة الخروج فلا حاجة إلى التجديد وإن طالت فلا بد منه لتعذر البناء ولا فرق على هذا بين أن يكون الخروج لقضاء الحاجة أو لغيره .

والقول الثالث : أنه إن خرج لقضاء الحاجة لم يجب التجديد لأنه لا بد منه فهو كالمستثنى عند النية وإن خرج لغرض آخر فلا بد من التجديد لقطعه الاعتكاف ولا فرق على هذا بين أن يطول الزمان أو لا يطول وهذا الثالث أظهر الوجوه ولذلك قال المصنف (والأفضل مع ذلك التجديد) وزاد صاحب التهذيب في التفصيل فقال : إن خرج لأمر يقطع التتابع في الاعتكاف المتتابع فلا بد من تجديد النية وإن خرج لأمر لا يقطعه نظر إن لم يكن عنه بد كقضاء الحاجة والاغتسال عند الاحتلام فلا حاجة إلى التجديد وإن كان منه بد أو طال الزمان ففي التجديد وجهان .

الثانية : لو نوى الخروج للاعتكاف ففي بطلان الاعتكاف الخلاف المذكور في بطلان الصوم بنية الخروج والأظهر أنه لا يبطل وأفتى بعض المتأخرين ببطلان الاعتكاف لأن مصلحته تعظيم الله تعالى كالصلاة وهي تختل بنقص النية ومصلحة الصوم قهر النفس وهي لا تفوت بنية الخروج .



(فصل)

وفي كتاب الشريعة للشيخ الأكبر قدس سره : الاعتكاف الإقامة بمكان مخصوص على عمل مخصوص بنية القربة إلى الله تعالى وهو مندوب إليه شرعا واجب بالنذر وفي الاعتبار الإقامة مع الله على ما ينبغي لله إيثارا لجناب الله فإن أقام بالله فهو أتم من أن يقيم بنفسه فأما العمل الذي يخصه :

فمن قائل أنه الصلاة وذكر الله وقراءة القرآن لا غير ذلك من أعمال البر والقرب .

ومن قائل جميع أعمال البر المختصة بالآخرة .

والذي أذهب إليه أن له أن يفعل جميع أفعال البر التي لا تخرجه عن الإقامة بالموضع الذي أقام فيه فإن خرج فليس بمعتكف ولا يثبت فيه عندي الاشتراط .

وقد ثبت عن عائشة -رضي الله عنها- أن السنة للمعتكف أن لا يشهد جنازة ولا يعود مريضا فاعلم أن الإقامة مع الله إذا كانت بالله فله التصدق في جميع أعمال البر المختصة بمكانه الذي اعتكف فيه والخارجة عنه التي يخرجه فعلها عن مكانه فإن الله يقول : وهو معكم أين ما كنتم وإذا كانت الإقامة بنفسك لله فقد عينت مكانا فتلزمها به حتى يتجلى لك في غيرها التزمتها به فافهم وأما المكان الذي يعتكف فيه فاعلم أن المساجد بيوت الله مضافة إليه فمن استلزم الإقامة فيها فلا ينبغي له أن يصرف وجهه لغير رب البيت فإنه سوء أدب فإنه لا فائدة للاختصاص بإضافتها إلى الله إلا أن يخالطها شيء من حظوظ الطبع ومن أقام مع الله في غير البيت الذي أضافه لنفسه جاز له مباشرة أهله إلا في حال صومه في اعتكافه إن كان صائما ومباشرة المرأة رجوع العقل من حال العقل عن الله إلى مشاهدة النفس سواء جعلها دليلا أو غير دليل فإن جعلها دليلا فالدليل والمدلول لا يجتمعان فلا تصح الإقامة مع الله وملابسة النفس وأعلى الرجوع إلى النفس وملابستها أن يلابسها دليلا وأما إن لم يلابسها دليلا فلم يبق إلا شهوة الطبع فلا ينبغي للمعتكف أن يباشر النساء في مسجد كان أو في غير مسجد ومن كان مشهده سريان الحق في جميع الموجودات وأنه الظاهر في مظاهر الأعيان وإن باقتداره واستعداداتها كان الوجود للأعيان رأى أن ذلك نكاح فأجاز مباشرة المعتكف للمرأة إذا لم تكن في مسجد فإن هذا المشهد لا يصح فيه أن يكون للمسجد عين موجودة فإنه لا يرى في الأعيان من حالته هذه إلا الله فلا مسجد أي : لا موضع تواضع ولا تطأطؤ فافهم وأما تعيين الوقت الذي يدخل فيه من يريد الاعتكاف إلى المكان الذي يقيم فيه اعلم أن المعتكف وهو المقيم مع الله دائما لا يصح له ذلك إلا بوجه خاص وهو أن يشهده في كل شيء هذا هو الاعتكاف العام المطلق وثم اعتكاف آخر مقيد يعتكف فيه مع اسم ما إلهي يتجلى له ذلك الاسم بسلطانه فيدعوه للإقامة معه واعتبار مكان الاعتكاف في المعاني هو المكانة وما ثم اسم إلهي وهو بين اسمين إلهيين لأن الأمر الإلهي دوري ولهذا لا يتناهى أمر الله في الأشياء فإن الدائرة لا أول لها ولا آخر إلا بحكم الفرض [ ص: 244 ] فلهذا أخرج العالم مستديرا على صورة الأمر الذي هو عليه في نفسه حتى في الأشكال ولما كان التجلي الأعظم العام يشبه طلوع الشمس ومع تجلي الشمس يكون الاعتكاف العام قيل للمعتكف مع اسم ما إلهي ادخل معتكفك في وقت ظهور علامة التجلي الأعظم الذي هو طلوع الفجر حتى لا يقيدك هذا الاسم الإلهي الذي أقمت معه أو تريد الإقامة معه عن التجلي الأعظم وهو طلوع الشمس فتجمع في اعتكافك بين التقييد والإطلاق .

ثم اعلم أن الإقامة مع الله إنما هو أمر معنوي لا أمر حسي فلا يقام مع الله إلا بالقلب ويقام بالحس مع أفعال البر وقد يكون من أفعال البر ملاحظة النفس ليؤدي إليها حقها المشروع لها وقد يؤثر نفسه بإيصال الخير لها بأن يكلفها بعض مصالحه بما يرجع خيره إليها كخروج المعتكف إلى حاجة الإنسان وإقباله على من كان من نسائه ليصلح بعض شأنه في حال إقامته والمعتكف إذا انتقل لحاجة الإنسان من وضوء وما لا بد منه فإن ذلك كله من حكم الاسم الذي أقام معه في مدة اعتكافه وما من شأن المعتكف تشييع الزائر فما تحرك لذلك إلا من حكم الاسم الذي حرك الزائر لزيارة هذا المعتكف فالعين لا تعرف إلا أنها زائرة لقضاء غرضها من رؤيته والاسم الذي هو محركها من وراء حجاب حاجتها مطلبه إظهار عين سلطانه والله أعلم .




الخدمات العلمية