الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الثالث الحلق ، والقلم ، وفيهما الفدية أعني دم شاة

التالي السابق


(الثالث) من المحظورات (الحلق ، والقلم ، وفيهما الفدية أعني دم شاة) اعلم أن حلق الشعر قبل أوان التحلل محظور ، فإن الله تعالى قال : ولا تحلقوا رءوسكم الآية ، وأوجب الفدية على المعذور ، والحلق حيث قال : فمن كان [ ص: 317 ] منكم مريضا أو به أذى من رأسه الآية ، وإذا وجبت الفدية على المعذور ، فعلى غير المعذور أولى ، ولا فرق بين شعر الرأس والبدن ، أما شعر الرأس فمنصوص عليه ، وأما غيره ، فالتنظيف ، والترفه ، في إزالته أكثر .

وذكر المحاملي أن في رواية عن مالك لا تتعلق الفدية بشعر البدن ، والتقصير كالحلق ، كما أنه في معناه عند التحلل ، وقلم الأظفار كحلق الشعر فإنها تراد للتنظيف ، والترفه ، وليس الحكم في الشعر منوطا بخصوص الحلق ، بل بالإزالة ، والإبانة فيلحق به النتف ، والإحراق ، وغيرهما ، وكذلك يلحق بالقلم الكسر ، والقلع ، فلو كشط جلدة الرأس ، فلا فدية عليه ، ولو امتشط لحيته ، فانتتفت شعرات فعليه الفدية ، وإن شك في أنه كان منسلا فانفصل ، أو انتتف بالمشط ، فقد حكى الإمام ، والمصنف في وجوب الفدية قولين ، وقال الأكثرون فيه وجهان ؛ أحدهما : تجب ؛ لأن الأصل بقاؤه نابتا إلى وقت الامتشاط ، وأصحهما أنه لا تجب ؛ لأن النتف لا يتحقق ، والأصل براءة الذمة عن الفدية .



(فصل)

ولا يعتبر في وجوبها حلق جميع الرأس ، ولا قلم جميع الأظفار بالإجماع ، ولكن يكمل الدم في حلق ثلاث شعرات ، وقلم ثلاث أظفار من أظفار اليد ، والرجل ، سواء كانت من طرف واحد ، أو طرفين خلافا لأبي حنيفة حيث قال : لا يكمل بحلق ثلاث شعرات ، وإنما يكمل إذا حلق من رأسه القدر الذي يحصل به إماطة الأذى ، ولا حد حيث قدر في رواية بأربع شعرات ، والرواية الثانية مثل قول الشافعي .

قال الرافعي : لنا أن المفسرين ذكروا في قوله تعالى : أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أن المعنى فحلق ففدية ، ومن حلق ثلاث شعرات ، فقد حلق ، قلت : وهذا الاستدلال ناقص ؛ لأنه جمع مضاف ، فيفيد العموم ، فينبغي تتميم الاستدلال بأن يقال : الاستيعاب متروك بالإجماع فحملناه على أقل الجمع ، والله أعلم .

وإن اقتصر على شعرة أو شعرتين ، ففيه أقوال أظهرها أن في شعرة مدا من طعام ، وفي شعرتين مدين ؛ لأن تبعيض الدم عسير ، والشرع قد عدل الجبران بالطعام في جزاء الصيد ، وغيره ، والشعرة الواحدة هي النهاية في القلة ، والمد أقل ما وجب في الكفارات ، فقوبلت به ، والثاني : في شعرة درهم ، وفي شعرتين درهمان ، ويحكى ذلك عن مذهب عطاء ، والثالث رواه الحميدي عن الشافعي في شعرة ثلث دم ، وفي شعرتين ثلثا دم ، وهنالك قول رابع حكاه صاحب التقريب أن الشعرة الواحدة تقابل بدم كامل ، وهو اختيار الأستاذ أبي طاهر ، وأما أبو حنيفة ، فلا يوجب فيما دون الربع شيئا مقدرا ، وإنما يوجب صدقة ، ثم إن الخلاف في الشعرة ، والشعرتين جار في الظفر ، والظفرين ، ولو قلم دون القدر المعتاد كان كما لو قصر الشعر ، ولو أخذ من بعض جوانب ، ولم يأت على رأس الظفر كله ، فقد قال الأئمة : إن قلنا يجب في الظفر الواحد ثلث دم ، أو درهم ، فالواجب فيه ما يقتضيه الحساب ، وإن قلنا يجب فيه مد ، فلا سبيل إلى تبعيضه .



(فصل)

وإذا حلق شعر غيره ، فإما أن يكون الحالق حراما ، والمحلوق حلالا ، أو بالعكس ، أو يكونا حرامين ، أو حلالين . أما الحالة الأخيرة ، فلا يخفى حكمها ، وأما إذا كان الحالق حراما ، والمحلوق حلالا ، فلا منع منها ، ولا يجب على الحالق شيء ، وبه قال مالك ، وأحمد . وقال أبو حنيفة : ليس للمحرم أن يحلق شعر غيره ، ولو فعل فعليه صدقة ، أما إذا حلق الحلال ، والحرام شعر الحرام ، فقد أساء ، ثم ينظر إن حلق بأمره ، فالفدية على المحلوق ؛ لأن فعل الحالق بأمره مضاف إليه ، وإن حلق لا بأمره ، فينظر إن كان نائما ، أو مكرها ، أو مغمى عليه ففيه قولان ؛ أصحهما : إن الفدية على الحالق ، وبه قال مالك ، وأحمد . والثاني ، وبه قال أبو حنيفة ، واختاره المزني : إنها على المحلوق ؛ لأنه المرتفق به ، وقد ذكر المزني أن الشافعي - رضي الله عنه - قد خط على هذا القول ، لكن الأصحاب نقلوه عن البويطي ، ووجدوه غير مخطوط عليه ، وبنوا القولين على أن استحفاظ الشعر في يد المحرم جار مجرى الوديعة ، أو مجرى العارية ، وفيه جوابان إن قلنا بالأول ، فالفدية على الحالق كما أن ضمان الوديعة على المتلف دون المودع ، وإن قلنا بالثاني وجب على المحلوق وجوب الضمان على المستعير . قالوا : والأول أظهر ، وإن لم يكن نائما ، ولا مغمى عليه ، ولا مكرها لكنه سكت عن الحلق ففيه قولان ، وقال المعظم ، وجهان ؛ أحدهما : إن الحكم كما لو [ ص: 318 ] كان نائما ؛ لأن السكوت ليس بأمر ، وأصحهما أنه كما لو حلق بأمره ؛ لأن الشعر عنده إما كالوديعة ، أو كالعارية ، وعلى التقديرين يجب الدفع عنه ، ولو أمر حلال حلالا بحلق شعر حرام وهو نائم فالفدية على الآمر إن لم يعرف المحلوق الحال ، وإن عرف فعليه في أصح الوجهين ، ولو طارت نار إلى شعره ، فأحرقته ، قال الروياني : إن لم يمكنه إطفاؤها ، فلا شيء عليه ، وإلا فهو كمن حلق رأسه وهو ساكت .




الخدمات العلمية