الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الجملة السابعة في بقية أعمال الحج بعد الوقوف من المبيت والرمي والنحر والحلق والطواف .

فإذا أفاض من عرفة بعد غروب الشمس فينبغي أن يكون على السكينة ، والوقار ، وليجتنب وجيف الخيل وإيضاع الإبل كما يعتاده بعض الناس فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن وجيف الخيل ، وإيضاع الإبل وقال : اتقوا الله ، وسيروا سيرا جميلا ، لا تطأوا ضعيفا ، ولا تؤذوا مسلما .

التالي السابق


(الجملة السابعة) :

في ذكر (بقية أعمال الحج) التي (بعد الوقوف) بعرفة (من المبيت ) بالمزدلفة (والرمي والنحر والحلق والطواف) ، وما يتعلق بذلك من السنن، والآداب، والهيئات، (فإذا أفاض) أي دفع، هذا هو الأصل، ويقال:

[ ص: 386 ] أفاض من المكان إذا أسرع عنه إلى المكان الآخر سمي به; لأنهم إذا انصرفوا ازدحموا، ودفع بعضهم بعضا (من عرفة بعد غروب الشمس) من ليلة العيد، ففي حديث جابر الطويل عند مسلم فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس، وعند أبي داود، والترمذي، وابن ماجه من حديث علي، ثم أفاض حين غربت الشمس (فينبغي أن يكون) في سيره (على السكينة، والوقار، وليجتنب وجيف الخيل) يقال: وجف الفرس وجيفا، وأوجف الفرس إيجافا إذا أسرع في السير .

(والركاب) هي الإبل، والإيجاف يستعمل في كل منهما. قال تعالى: فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب (كما يعتاده الناس فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن وجيف الخيل، وإيضاع الإبل) . وهو سير مثل الخبب، وقيل: هو حمل الركاب على السير، واختاره البغوي قال: ومنه قوله تعالى: ولأوضعوا خلالكم (وقال: اتقوا الله، وسيروا سيرا جميلا، لا تطئوا ضعيفا، ولا تؤذوا مسلما) .

قال العراقي: رواه النسائي، والحاكم، وصححه من حديث أسامة بن زيد عليكم بالسكينة والوقار. فإن البر ليس في إيضاع الإبل، وقال الحاكم: ليس في إيضاع الإبل. وقال الحاكم: ليس البر في إيجاف الخيل والإبل، وللبخاري من حديث ابن عباس فإن البر ليس بالإيضاع اهـ .

قلت: وردت في صفة سيره صلى الله عليه وسلم أحاديث منها عند البخاري ومسلم عن أسامة أنه سئل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أفاض من عرفة. قال: كان يسير العنق، فإذا وجد فجوة نص، وقد رواه بعض رواة الموطأ: فرجة بالراء، وهي بمعناها، وفي هذا دلالة على أن السكينة المأمور بها في الحديث بعده إنما هي من أجل الرفق بالناس، فإن لم يكن زحام سار كيف شاء .

وأما حديث ابن عباس فأخرجاه بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع فسمع من ورائه زجرا شديدا، وضربا للإبل فأشار بسوطه إليهم. وقال: "أيها الناس عليكم بالسكينة فإن البر ليس بالإيضاع، وعند أبي داود: فإن البر ليس بالإيجاف"، وفيه دليل على استحباب الرفق في الدفع بالإبل وإبقاء عليهم لئلا يجحفوا بأنفسهم، وقوله: عليكم بالسكينة قيل: إنما قال ذلك في ذلك الوقت الذي لم يجد فجوة، وأخرج سعيد بن منصور عن ابن عمر. أنه قال: سرت مع عمر حين أفاض فما كان يزيد على العنق. وقال: وسمعته يقول: لا تزيدوا على العنق. وروي عنه أنه كان يوضع وينشد:


إليك تعدو قلقا وضينها * مخالفا دين النصارى دينها

وأخرج عن ابن الزبير أنه كان يوضع أشد الإيضاع أخذ ذلك عن عمر، وهكذا أخرجه الهروي، والزمخشري عن عمر، وأخرجه الطبراني في المعجم عن سالم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفاض من عرفات، وهو يقول: " إليك تعدو قلقا وضينها".

وأخرج أبو داود عن علي - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل يعنق على ناقة، والناس يضربون الإبل يمينا وشمالا، ولا يلتفت إليهم. ويقول: "السكينة أيها الناس"، وأخرجه الترمذي أتم منه، وقال: حسن صحيح .

قال بعضهم: رواية من روى " يلتفت إليهم" بإسقاط " لا" أصح، فإنه كان ينظر إليهم، وهم يضربون الإبل يشير إليهم يمينا وشمالا السكينة السكينة، (فإذا بلغ المزدلفة) علم على البقعة لا يدخلها ألف ولام إلا لمحا للصفة في الأصل كدخولها في الحسن والعباس، سميت بها لازدلافها; أي: اقترابها من عرفات، وازدلف الشيء جمعه، وقال في المغرب: ازدلف إليه اقترب، ومنه الموضع الذي ازدلف فيه آدم إلى حواء، ولذا سمي جمعا، وفي المصباح يقال للمزدلفة: جمع; لأن الناس يجتمعون فيها، أو لأن آدم اجتمع هناك بحواء، وأصله مزتلفة فأبدل من التاء دال لقرب المخرج (فليغتسل) إن أمكنه، (فإن المزدلفة من الحرم فليدخلها بغسل ) .

وقد تقدم ذكر هذا الغسل في الأغسال السنوية قريبا، (ويكون في الطريق رافعا صوته بالتلبية) ، أخرج سعيد بن منصور عن الأسود قال: "أفاض عمر عشية عرفة على جمل أحمر، وهو يلبي: لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك"، وفي الصحيحين عن ابن عباس عن أسامة والفضل أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة.

وأخرجه أبو ذر الهروي من حديث ابن مسعود نحوه، وأخرج أبو داود عن أشعث بن سليم عن أبيه، قال: أقبلت مع ابن عمر من عرفات إلى المزدلفة فلم يكن يفتر من التكبير والتهليل حتى أتينا المزدلفة، وأخرج الأزرقي عن أسامة أن النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 387 ] لم يزل يلبي حتى دخل جمعا.



(تنبيه)

روى البخاري ومسلم عن أسامة بن زيد قال: دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفة حتى إذا كان بالشعب نزل فبال. وقال مسلم: فأناخ ناقته قال: وما قال أهراق الماء، ثم دعا بالوضوء. وفي رواية عنده: فلما جاء بالشعب أناخ راحلته، ثم ذهب إلى الغائط، قالا: ثم توضأ ولم يسبغ الوضوء قال له: الصلاة، قال: الصلاة أمامك، فركب فلما جاء المزدلفة نزل فتوضأ، وأسبغ الوضوء. الحديث .

والشعب قال البخاري: الأثر الذي دون المزدلفة، وكذلك ذكره ابن حزم وقال الملا علي: يسرة الطريق بين المأزمين، ويقال له: شعب الإذخر، وقال أبو داود: الشعب الذي ينيخ الناس فيه للتعريس، والمأزم المضيق بين الجبال حيث يلتقي بعضها ببعض، وأخرج أبو ذر الهروي، عن ابن عمر أنه حين أفاض انتهى إلى المضيق دون المأزمين، فأناخ وقضى حاجته، ثم ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما انتهى إلى هذا المكان أناخ، وقضى حاجته.

قال المحب الطبري: ونزوله صلى الله عليه وسلم في الشعب إنما كان نزول حاجة، وليس هو من الشك في شيء، وعن عطاء أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء الشعب الذي يصلي فيه الخلفاء اليوم المغرب، يعني خلفاء بني مروان نزل فأهراق الماء، ثم توضأ، ثم انطلق، ثم جاء جمعا، الحديث، وعنه أنه كان إذا ذكر الشعب يقول: اتخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم مبالا، واتخذتموه مصلى، يعني: خلفاء بني مروان، وكانوا يصلون به المغرب .

أخرجهما أبو الوليد الأزرقي، وقال: سألت جدي عن الشعب الذي نزل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة حين أفاض من عرفة، قال: هو الشعب الكبير الذي من جاز من عرفة عن يسار المقبل من عرفة إلى مزدلفة في أقصى المأزم، مما يلي نمرة، وفي هذا الشعب صخرة كبيرة، وهي الصخرة التي لم يزل من أدركت من أهل العلم، برغم أن النبي صلى الله عليه وسلم بال خلفها، واستتر بها، ثم لم يزل أئمة الحج يدخل هذا الشعب فيبول فيه ويتوضأ إلى اليوم .

وقال أبو محمد: أحسب أن جد أبي الوليد، وهم وذلك أن أبا يحيى بن ميسرة، أخبرني أنه الشعب الذي في بطن المأزم عن يمينك وأنت مقبل في عرفة بين الجبلين إذا أفضت من مضيق المأزمين، وهو أقرب وأوصل بالطريق; لأن الشعب الذي ذكره جد أبي الوليد أقرب إلى الصحة; لأن البخاري نص على أنه عن يسرة الطريق، والظاهر أنه يريد لمن أفاض لا لمن قصد عرفة; لأنهم كانوا مفيضين، وقد جاء ما يضاد الحديث قبله، وهو ما أخرجه أحمد، وأبو داود، وأبو ذر الهروي، عن الشريد بن سويد الثقفي أنه قال: "أفضت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فما مست قدماه الأرض حتى أتى جمعا".

قال المحب الطبري: وما رواه أسامة أثبت فإنه كان ردف النبي صلى الله عليه وسلم وأخبر الشريد عما عمله، ولم يبلغه ذلك .




الخدمات العلمية