الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الجملة الثامنة في صفة العمرة ، وما بعدها إلى طواف الوداع .

من أراد أن يعتمر قبل حجه أو بعده كيفما أراد فليغتسل ويلبس ، ثياب الإحرام كما سبق في الحج ويحرم بالعمرة من ميقاتها وأفضل مواقيتها الجعرانة ثم التنعيم ثم الحديبية .

وينوي العمرة ، ويلبي ويقصد مسجد عائشة رضي الله عنها ويصلي ركعتين ويدعو بما شاء ثم يعود إلى مكة وهو يلبي حتى يدخل المسجد الحرام فإذا دخل المسجد ترك التلبية ، وطاف سبعا ، وسعى سبعا كما وصفنا فإذا فرغ حلق رأسه ، وقد تمت عمرته

التالي السابق


(الجملة الثامنة في صفة العمرة، وما بعدها إلى طواف الوداع) .

لما فرغ من ذكر أعمال الحج اشتغل بالكلام في العمرة، فقال: (ومن أراد أن يعتمر بعد حجه أو قبله كيفما أراد فليغتسل، وليلبس ثياب الإحرام كما سبق في الحج) ، ولنقدم قبل الخوض ما جاء في فضلها، والحث عليها، وقد تقدم للمصنف أحاديث تتضمن الحج والعمرة في أول الباب، ومن ذلك ما أخرجه الترمذي، وقال: حسن صحيح، وابن حبان عن ابن مسعود رفعه: تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب، كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وأخرج ابن أبي خيثمة في تاريخه عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تابعوا بين الحج والعمرة فإن متابعة بينهما تزيد في العمر والرزق، وتنفي الذنوب، كما ينفي الكير خبث الحديد، ومعنى المتابعة يحتمل أن يكون المراد به أن يأتي بكل واحد من النسكين عقيب الآخر بحيث لا يتخلل بينهما زمان يصح إيقاع الثاني فيه، وهو الظاهر من لفظ المتابعة، ويحتمل أن يراد به إتباع أحد النسكين الآخر ولو تخلل بينهما زمان بحيث يظهر مع ذلك الاهتمام بهما ويطلق عليه في العرف أنه ردفه وتبعه، والاحتمال الثاني أظهر إذ القصد به الاهتمام وعدم الإهمال وهو يحصل بما ذكرناه، وسواء تقدمت العمرة أو تأخرت; لأن اللفظ يصدق على الحالين .

وأخرج أبو داود عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه أن عمر استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في العمرة فأذن له وقال: لا تنسنا من دعائك، أو أشركنا في دعائك، وأخرجه أحمد بزيادة، ولفظه: يا أخي لا تنسنا من دعائك، وفي لفظ: [ ص: 407 ] يا أخي أشركنا في دعائك، قال: ما أحب أن يكون لي بها ما طلعت عليه الشمس لقوله: يا أخي، وأخرجه كذلك الحافظ السلفي وصاحب الصفوة .

وأخرجه علي بن حرب الطائي في الحربيات بلفظ: أشركنا في صالح دعائك ولا تنسنا، ثم اختلف العلماء فيها فقيل: واجبة، وهو قول ابن عمر وابن عباس وهو مذهب الشافعي وأحمد، وقال مالك وأبو حنيفة: هي سنة فمن دلائل الوجوب قول ابن عباس الحج والعمرة واجبان، أخرجه سعيد بن منصور عنه أيضا: العمرة واجبة لوجوب الحج لمن استطاع إليه سبيلا، أخرجه الدارقطني عن ابن عمر أنه قال: ليس أحد إلا وعليه حج وعمرة، أخرجه البخاري، وعن عطاء مثله أخرجه البيهقي، وعن زيد بن ثابت رفعه: الحج والعمرة فريضتان ولا يضرك بأيهما بدأت أخرجه الدارقطني، وعن علي، وابن عباس أنهما قالا: الحج الأكبر يوم النحر، والحج الأصغر العمرة، أخرجه أبو ذر الهروي.

وأما حجة من قال: لا تجب مطلقا ما أخرجه الترمذي، وقال: حسن صحيح عن جابر - رضي الله عنه - رفعه أنه سئل عن العمرة أهي واجبة ؟ قال: لا، وإن تعتمر هو أفضل، وأخرجه أحمد ولفظه، وإن تعتمر خير لك، وأخرج سعيد بن منصور والبيهقي، عن أبي صالح الحنفي رفعه الحج جهاد، والعمرة تطوع فإذا عرفت ذلك فاعلم أن المعتمر إما أن يكون خارج الحرم، أو فيه فإن كان خارج الحرم فموضع إحرمه بالعمرة هو موضع إحرامه بالحج بلا فرق، وإليه أشار المصنف بقوله: (ويحرم بالعمرة من ميقاتها) وإن كان في الحرم، سواء كان مكبرا أو مقيما بمكة فالكلام في ميقاته الواجب ثم الأفضل، أما الواجب فهو أن يخرج إلى الحل، ولو بخطوة من أي جانب شاء فإن خالف وأحرم بها في الحرم انعقد إحرامه، ثم له حالتان إحداهما: أن لا يخرج إلى الحل، بل يطوف ويسعى ويحلق فهل يجزئه ذلك عن عمرته فيه قولان محكمان عن نصه في الأم أصحهما: نعم .

وبه قال أبو حنيفة; لأن إحرامه قد انعقد، وأتى بعده بالأفعال الواجبة لكن يلزمه دم لتركه الإحرام من الميقات الثاني لا لأن العمرة أحد النسكين فيشترط فيه الجمع بين الحل والحرم كما في الحج، فإن قلنا بالأول فلو وطئ بعد الحلق لم يلزمه شيء لوقوعه بعد التحلل، وإن قلنا بالثاني فالوطء واقع قبل التحلل، لكنه يعتقد كونه بعد التحلل فهو بمثابة وطء الناسي، وفي كونه مفسدا قولان، فإن جعلناه مفسدا فعليه المضي في الفاسد بأن يخرج إلى الحل، ويعود فيطوف ويسعى ويحلق ويلزمه القضاء وكفارة الإفساد، ويلزمه للحلق دم أيضا لوقوعه قبل التحلل، الحالة الثانية أن يخرج إلى الحل، ثم يعود فيطوف ويسعى فيعتد بما أتى به لا محالة، وهل يسقط عنه دم الإساءة ؟ حكى الإمام فيه طريقين: أظهرهما القطع بالسقوط، وهو الذي أورده الأكثرون فعلى هذا الواجب هو خروجه إلى الحل قبل الأعمال هذا في ميقاتها الواجب، وأما الأفضل فأشار إليه المصنف بقوله (وأفضل مواقيتها ) من أطراف الحل لإحرامها (الجعرانة) ، وقد تقدم ضبطها واختلاف العلماء فيها، (ثم) إن لم يتفق فمن (التنعيم ) ، وقد تقدم التعريف به (ثم) إن لم يتفق فمن (الحديبية ) ، وقد تقدم التعريف بها قال النووي: هذا هو الصواب، وأما قول صاحب التنبيه: والأفضل أن يحرم بها من التنعيم، فغلط، والله أعلم .

قال الرافعي: وليس النظر فيها إلى المسافة، بل المتبع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد نقلوا أنه اعتمر من الجعرانة مرتين عمرة القضاء سنة سبع ومرة عمرة هوازن، وأمر عائشة أن تعتمر من التنعيم، وصلى بالحديبية وأراد الدخول فيها للعمرة، فصده المشركون عنها فقدم الشافعي رحمه الله ما فعله، ثم أمر به، ثم ما هم به (وينوي العمرة، ويلبي ويقصد مسجد عائشة رضي الله عنها) بالتنعيم على فرسخ من مكة على طريق المدينة (ويصلي ركعتين) ، ثم يحرم بعدهما (ويدعو بما شاء) .

مما تقدم ذكره في أدعية الحج (ثم يعود إلى مكة وهو يلبي حتى يدخل المسجد الحرام فإذا دخل المسجد ترك التلبية، وطاف بالبيت سبعا، وصلى ركعتي الطواف وسعى سبعا بين الصفا والمروة كما وصفناه في الحج) سواء (فإذا فرغ) من السعي (حلق رأسه، وقد تمت عمرته) وتقدم أن تكرارها في السنة مستحب عند الأئمة الثلاثة خلافا لمالك، وقد أخرج سعيد بن منصور عن الحسن وإبراهيم أنهما كانا يقولان: العمرة في السنة مرة واحدة وعن سعيد بن جبير وسئل عن تكرار [ ص: 408 ] العمرة في السنة، قال: أما أنا فأعتمر في السنة مرة واحدة، وأنا دليل الجماعة فما أخرجه الترمذي عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر عمرتين عمرة في ذي القعدة، وعمرة في شوال، وأخرج الشافعي في مسنده عن سعيد ابن المسيب أن عائشة اعتمرت في سنة واحدة مرتين مرة من ذي الحليفة ومرة من الحجفة، وعن نافع أن ابن عمر اعتمر أعواما في عهد ابن الزبير عمرتين في كل عام، وعن أنس أنه كان إذا حم رأسه خرج فاعتمر، وعن مجاهد أن عليا - رضي الله عنه - قال: في كل شهر عمرة، أخرجه سعيد بن منصور والبيهقي وأبو ذر.

وأخرج أبو ذر عن عطاء أنه قال: في كل شهر عمرة، وفي كل شهر عمرتان، وفي كل شهر ثلاث عمر، وعن القاسم أن عائشة اعتمرت في شهر ثلاث عمر، وقوله في حديث أنس كان إذا حم رأسه أي اسود بعد الحلق في الحج بنبات الشعر، والمعنى أنه كان لا يؤخر العمرة. ...... إلى المحرم، بل كان يخرج إلى الميقات، ويعتمر في ذي الحجة، ومن عوام الرواة من يرويه بالجيم يذهب به إلى الجمة، والمحفوظ بالمهملة، والله أعلم .




الخدمات العلمية