الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمع بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكي ويقول : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ؛ لقد كان جذع تخطب الناس عليه فلما كثر الناس اتخذت منبرا لتسمعهم فحن الجذع لفراقك حتى جعلت يدك عليه فسكن فأمتك كانت أولى بالحنين إليك لما فارقتهم بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، لقد بلغ من فضيلتك عنده أن جعل طاعتك طاعته ، فقال عز وجل : من يطع الرسول فقد أطاع الله بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد بلغ من فضيلتك عنده أن أخبرك بالعفو عنك قبل أن يخبرك بالذنب ، فقال تعالى : عفا الله عنك لم أذنت لهم بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد بلغ من فضيلتك عنده أن بعثك آخر الأنبياء وذكرك في أولهم ، فقال عز وجل : وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم الآية بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد بلغ من فضيلتك عنده أن أهل النار يودون أن يكونوا قد أطاعوك وهم بين أطباقها يعذبون يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا بأبي أنت وأمي يا رسول الله لئن كان موسى بن عمران أعطاه الله حجرا تنفجر منه الأنهار فماذا بأعجب من أصابعك حين نبع منها الماء صلى الله عليك ، بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، لئن كان سليمان بن داود أعطاه الله الريح غدوها شهر ورواحها شهر فماذا بأعجب من البراق حين سريت عليه إلى السماء السابعة ثم صليت الصبح من ليلتك بالأبطح صلى الله عليك ، بأبي أنت وأمي يا رسول الله لئن كان عيسى بن مريم أعطاه الله إحياء الموتى فماذا بأعجب من الشاة المسمومة حين كلمتك وهي مشوية فقالت لك الذراع : لا تأكلني ؛ فإني مسمومة بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، لقد دعا نوح على قومه فقال : رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا : ولو دعوت علينا بمثلها لهلكنا ، فلقد وطئ ظهرك وأدمي وجهك وكسرت رباعيتك فأبيت أن تقول إلا خيرا ، فقلت : " اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون " بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، لقد اتبعك في قلة سنك وقصر عمرك ما لم يتبع نوحا في كثرة سنه وطول عمره ولقد آمن بك الكثير وما آمن معه إلا القليل بأبي أنت وأمي يا رسول الله لو لم تجالس إلا كفؤا لك ما جالستنا ، ولو لم تنكح إلا كفؤا لك ما نكحت إلينا ، ولو لم تؤاكل إلا كفؤا لك ما واكلتنا ، فلقد والله جالستنا ونكحت إلينا وواكلتنا ولبست الصوف وركبت الحمار وأردفت خلفك ووضعت طعامك على الأرض ولعقت أصابعك تواضعا منك صلى الله عليه وسلم .

التالي السابق


ولما فرغ المصنف من ذكر فضيلة الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- شرع في ذكر فضله -صلى الله عليه وسلم- ولنقدم قبل ذلك كلاما مختصرا يكون كالتتمة لما يذكره المصنف، فأقول:

من فضائله -صلى الله عليه وسلم- أن الله تعالى أقسم بحياته ولم يقسم بحياة نبي قبله، فقال -عز وجل-: لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون وأيده بالملائكة، وقرن اسمه مع اسمه، ورفع ذكره في التأذين مع ذكره -عز وجل- قال الله -عز وجل-: ورفعنا لك ذكرك وأعطاه اسمين من أسمائه، فقال: بالمؤمنين رءوف رحيم وقال: إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس الآية، فجعل الأمر إليه؛ لطهارته عند الله، وأمانته على عباده، ووضع به الأغلال والآصار التي كانت عليهم، فقال: ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم وجعله رحمة للعالمين، والأمان من المسخ والقوارع والعذاب، وخاطب الأنبياء بأسمائهم وخاطبه بالنبوة والرسالة، فقال: يا أيها النبي ، يا أيها الرسول .

وقال أنس -رضي الله عنه-: "خدمت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عشر سنين، فما قال لي لشيء صنعته: لم صنعته؟ ولا قال لي لشيء تركته: لم تركته؟ وكان أحسن الناس خلقا، وما مسست شيئا قط ألين من كف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا شممت ريحا أطيب من ريح رسول الله صلى الله عليه وسلم".

ويروى عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أنه قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعقل البعير، ويعلف الناضح، ويقم البيت، ويخصف النعل، ويرقع الثوب، ويحلب الشاه، ويأكل مع [ ص: 53 ] الخادم، ويضحى معها إذا أعيت، وكان لا يحمله الحياء أن لا يحمل بضاعته من السوق إلى أهله، وكان يصافح الغني والفقير، ويسلم مبتدئا، وكان لا يستحيي إذا دعي، ولا يحتقر ما دعي إليه ولو إلى حشف التمر، وكان هين المؤنة، لين الخلق، جميل المعاشرة، طلق الوجه، بساما من غير ضحك، متواضعا من غير مذلة، جوادا من غير سرف، رقيق القلب، دائم الإطراق، رحيما بكل مسلم، لم يبشم قط من شبع، ولا مد يده إلى طمع، صلى الله عليه وسلم.

( ويروى أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- سمع بعد موت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يبكي ويقول: بأبي أنت وأمي يا رسول الله؛ لقد كان لك جذع) بالكسر: ساق النخلة ( تخطب الناس عليه) كان -صلى الله عليه وسلم- يضع يده الكريمة عليه عند خطبته ( فلما كثر الناس اتخذت منبرا) من خشب الغابة بثلاث درج ( لتسمعهم) الخطبة ( فحن الجذع لفراقك) حنينا بينا، سمعه من حضر، والحنين صوت المتألم المشتاق، واللام تعليلية، ويصح جعلها وقتية بمعنى عند ( حتى جعلت يدك عليه) تسكينا له ( فسكن) فهذا الجذع وهو خشب وقد حن ( فأمتك أولى بالحنين إليك لما فارقتهم) .

قال العراقي: هو غريب بطوله من حديث عمر، وهو معروف من أوجه أخر، فحديث حنين الجذع متفق عليه من حديث جابر وابن عمر.

( بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد بلغ من فضيلتك عند الله أن جعلت طاعتك طاعته، فقال -عز وجل-: من يطع الرسول فقد أطاع الله ) ووعد من خالف بالعذاب ( بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد بلغ من فضيلتك عنده أن أخبرك بالعفو عنك قبل أن أخبرك بالذنب، فقال -عز وجل-: عفا الله عنك لم أذنت لهم ) وهذا فيه تأنيس لخاطره؛ إذا لولا تقدم العفو لانشقت مرارته؛ فإن الحبيب لا يتحمل عتاب الحبيب لولا أن يكون ممزوجا بما يؤانسه .

( بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد بلغ من فضيلتك عنده أن بعثك آخر الأنبياء) وجودا ( وذكرك في أولهم، فقال -عز وجل-: وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح الآية) فذكره معهم في أخذ المواثيق ( بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد بلغ من فضيلتك عنده أن أهل النار يودون أن يكونوا قد أطاعوك وهو بين أطباقها) ودركاتها ( يعذبون) بأنواع العذاب ( يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا ) إذ كانت نجاتهم من هذا العذاب في طاعته واتباعه .

( بأبي أنت وأمي يا رسول الله لئن كان موسى بن عمران) عليه السلام ( أعطاه الله) أن ضرب بعصاه ( حجرا) فصار ( تتفجر منه الأنهار) وتنبجس منه العيون الغزار ( فما ذلك بأعجب من أصابعك) الكريمة ( حين نبع منها الماء) متفق عليه من حديث أنس وغيره .

( صلى الله عليك، بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لئن كان سليمان) عليه السلام ( أعطاه الله الريح) أي: سخرها له ( غدوها شهر ورواحها شهر) أي: مسيرة شهر ( فما ذلك بأعجب من البراق) وهي دابة نحو البغل تركبه الرسل عند العروج إلى السماء ( حين سرت عليه) راكبا إلى السماء الدنيا، ثم ( إلى السماء السابعة) ثم منها إلى الرفرف الأعلى؛ حيث يسمع صريف الأقلام ( ثم صليت الصبح من ليلتك) مع أهلك ( بالأبطح) وهو الموضع المعروف بالمحصب، قال العراقي: متفق عليه من حديث

أنس دون ذكر صلاة الصبح بالأبطح .

( صلى الله عليك، بأبي أنت وأمي يا رسول الله لئن كان عيسى ابن مريم -عليه السلام- أعطاه الله إحياء الموتى) معجزة له ( فما ذلك بأعجب من الشاه المسمومة) التي سمتها يهودية ( حين كلمتك) الشاة ( وهي مشوية وقالت: لا تأكلني؛ فإني مسمومة) رواه أبو داود من حديث جابر، وفيه انقطاع .

( بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد دعا نوح) عليه السلام ( على قومه فقال: رب لا تذر أي: لا تترك ( على الأرض من الكافرين ديارا أي: ساكن دار ( ولو دعوت علينا) دعوة ( مثلها لهلكنا كلنا، فلقد وطئ ظهرك) حين كان يصلي تحت الميزاب، فأتاه عقبة بن أبي معيط الشقي بسلى جزور ووضعه على ظهره [ ص: 54 ] ورقبته ( وأدمي وجهك) بسهم أصابه ( وكسرت رباعيتك) وهو على وزان الثمانية التي بين الثنية والناب، والجمع رباعيات بالتخفيف أيضا، والإدماء والكسر متفق عليه من حديث سهل بن سعد في غزوة أحد ( فأبيت أن تقول إلا خيرا، فقلت: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون") رواه البيهقي في دلائل النبوة، والحديث في الصحيح عن ابن مسعود أنه -صلى الله عليه وسلم- حكاه عن نبي من الأنبياء ضربه قومه .

( بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد اتبعك في قلة سنينك) يشير إلى المدة فإنها نحو عشر سنوات، كمل فيها الدين، وتم نظامه المتين ( وقصر عمرك) وهو ثلاثة وستون سنة ( ما لم يتبع نوحا في كثرة سنينه وطول عمره) وهو ألف سنة إلا خمسين عاما ( ولقد آمن بك) الكثير في هذه المدة القليلة، نحو مائة ألف وأربعة عشر ألفا، وهذا القدر هو الذي مات عنهم -صلى الله عليه وسلم- كما قاله أبو زرعة وغيره، وكان المراد به من حضر، وأما من غاب فلا يحصيهم إلا الذي خلقهم ( وما آمن معه) أي: مع نوح عليه السلام ( إلا قليل) .

( بأبي أنت وأمييا يا رسول الله لو لم تجالس إلا كفؤا لك) أي: نظيرا أو مشابها ( ما جالستنا، ولو لم تنكح إلا كفؤا لك ما نكحت إلينا، ولو لم تؤاكل إلا كفؤا لك ما واكلتنا، فلقد والله واكلتنا وجالستنا ونكحت إلينا) أي: كل ذلك تفضلا منه -صلى الله عليه وسلم- وكرما وحلما .

أما المجالسة: فهو -صلى الله عليه وسلم- كان يجالس أصحابه، ويؤانسهم في أغلب الأوقات .

وأما المواكلة: فكان يواكلهم، ويلاطف معهم في الأكل .

وأما المناكحة: فقد تزوج عائشة بنت الصديق، وحفصة ابنة عمر -رضي الله عنهم- وكل ذلك مشهور في الكتب .

( ولبست الصوف) رواه أبو داود من حديث سهل بن سعد، وابن عساكر من حديث أبي أيوب ( وركبت الحمار وأردفت خلفك) متفق عليه من حديث أسامة بن زيد ( ووضعت طعامك بالأرض) رواه أحمد في الزهد من حديث الحسن مرسلا .

وللبخاري من حديث أنس: "ما أكل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على خوان قط" قاله العراقي.

قلت: وروى ابن سعد في الطبقات، عن محمد بن مقاتل، عن ابن المبارك، عن سفيان، أن الحسن قال: "لما بعث الله محمدا -صلى الله عليه وسلم- قال: هذا نبيي، هذا خياري، ائتسوا به" ثم ذكر الحديث، وفيه: "يجلس بالأرض، ويأكل طعامه بالأرض، ويلبس الغليظ، ويركب الحمار، ويردف بعبده، ويلعق أصابعه، وكان يقول: من رغب عن سنتي فليس مني".

وروي أيضا من حديث أنس قال: "كان -صلى الله عليه وسلم- يقعد على الأرض، ويأكل على الأرض، ولقد رأيته يوم خيبر على حمار خطامه من ليف" وروي عنه من وجه آخر أنه -صلى الله عليه وسلم-: "يركب الحمار عريا ليس عليه شيء".

( ولعقت أصابعك تواضعا منك صلى الله عليك) رواه مسلم من حديث كعب بن مالك، وأنس بن مالك -رضي الله عنهما- قاله العراقي.

قلت: ورواه ابن سعد من مرسل الحسن، كما تقدم قريبا .




الخدمات العلمية