الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وفي الخبر أنه ذكر عنده رجل ينام كل الليل حتى يصبح فقال ذاك رجل بال الشيطان في أذنه وفي الخبر إن للشيطان سعوطا ولعوقا وذرورا فإذا أسعط العبد ساء خلقه ، وإذا ألعقه ذرب لسانه بالشر وإذا ذره نام الليل حتى يصبح وقال صلى الله عليه وسلم : ركعتان يركعهما العبد في جوف الليل خير له من الدنيا وما فيها ولولا أن أشق على أمتي لفرضتهما عليهم وفي الصحيح عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن من الليل ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله تعالى خيرا إلا أعطاه إياه وفي رواية يسأل الله تعالى خيرا من الدنيا والآخرة وذلك في كل ليلة وقال المغيرة بن شعبة قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تفطرت قدماه فقيل له أما : قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال : أفلا أكون عبدا شكورا

التالي السابق


(وفي خبر آخر أنه ذكر عنده -صلى الله عليه وسلم- رجل نام الليل) كله (حتى أصبح فقال ذاك) رجل (بال الشيطان في أذنه) رواه أحمد والشيخان والنسائي وابن ماجه عن ابن مسعود -رضي الله عنه-، وظاهر هذا الحديث في حق من لم يقم لصلاة الليل، كما يدل عليه سياق المصنف، وحمله الطحاوي على من نام عن صلاة العشاء حتى انقضى الليل كله، وهذا يؤيد قول من ذهب إلى أن المراد بالصلاة في الحديث الذي قبله صلاة العشاء .

قال ابن عبد البر: ويدل على ذلك أن السلف كانوا ينامون قبل العشاء ويصلونها في وقتها، كما تقدمت الإشارة إليه قريبا .

(وفي الخبر أن للشيطان سعوطا) بالفتح وهو ما يسعطه الإنسان في أنفه (ولعوقا) بالفتح وهو ما يلعق بالملعقة (وذرورا) بالفتح وهو ما يذر على العين (فإذا أسعط العبد ساء خلقه، وإذا ألعقه ذرب) كفرح أي: فحش (لسانه بالشر) حتى لا يبالي بما قال، (وإذا ذره نام الليل كله) ففاته القيام بالليل (حتى يصبح) . قال العراقي: رواه الطبراني من حديث أنس: أن للشيطان لعوقا وكحلا، فإذا لعق الإنسان من لعوقه ذرب لسانه بالشر، وإذا كحله من كحله نامت عيناه عن الذكر. ورواه البزار من حديث سمرة بن جندب، وسندهما ضعيف. اهـ .

قلت: حديث أنس رواه البيهقي أيضا، ولفظه: " إن للشيطان كحلا ولعوقا ونوشقا، أما لعوقه فالكذب، وأما نشوقه فالغضب، وأما كحله فالنوم "، وفيه عاصم بن علي شيخ البخاري، قال يحيى: لا شيء، وضعفه ابن معين، قال الذهبي: وذكر له ابن عدي أحاديث مناكير، والربيع بن صبيح ضعفه النسائي وقواه أبو زرعة ويزيد الرقاشي، قال النسائي: وغيره متروك .

وأما حديث سمرة فأخرجه أبو بكر بن أبي الدنيا في " مكايد الشيطان " والبيهقي أيضا: " إن للشيطان كحلا ولعوقا، فإذا كحل الإنسان من كحله نامت عيناه عن الذكر، وإذا لعقه من لعوقه ذرب لسانه بالشر ". وفيه الحكم بن عبد الملك القرشي ضعيف، وفيه أيضا أبو أمية الطرسوسي متهم أي: بالوضع، وفيه أيضا الحسن بن بشر الكوفي، أورده الذهبي في " الضعفاء "، وقال ابن خراش: منكر الحديث، إشعار بأن لزوم الذكر يطرد الشيطان، ويجلو مرآة القلب، وينور البصيرة، ولا يتمكن منه إلا الذين اتقوا، فالتقوى باب الذكر، والذكر باب الكشف، والكـشف باب الفوز الأكبر، وهو الفوز بلقاء الله عز وجل .

(وقال -صلى الله عليه وسلم-: ركعتان يركعهما العبد في جوف الليل الأخير) وهو ثلثه (خير له من الدنيا وما فيها) من النعيم، لو فرض أنه حصل له وحده وتنعم به وحده (ولولا أني أشق على أمتي لفرضتها) أي: أوجبتها (عليهم) ، وهذا صريح في عدم وجوب التهجد على الأمة، قال العراقي: رواه آدم ابن أبي إياس في " الثواب "، ومحمد بن نصر المروزي في كتاب " قيام الليل " من رواية حسان بن عطية مرسلا، ووصله الديلمي في " مسند الفردوس " من حديث ابن عمر، ولا يصح. اهـ .

قلت: حسان بن عطية أبو بكر المحاربي عن أبي أمامة وسعيد بن المسيب وعنه الأوزاعي، وأبو غسان ثقة عابد نبيل لكنه قدري، روى له الجماعة، قاله الذهبي في " الكاشف " (وفي الصحيح عن جابر) بن عبد الله الأنصاري -رضي الله عنه- (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: إن من الليل ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله خيرا إلا أعطاه إياه) ، وفي رواية: يسأل الله تعالى خيرا من الدنيا والآخرة (وذلك كل ليلة) رواه مسلم.

(وقال المغيرة بن شعبة) -رضي الله عنه- (قال النبي صلى الله عليه وسلم) أي: يصلي بالليل (حتى تفطرت) أي: تشققت (قدماه) . وفي رواية: تورمت، وفي رواية: انتفخت، أي: اجتهد في الصلاة حتى حصل له ذلك، (فقيل له: يا رسول الله) أتتكلف هذا و (قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر) أتوا به على طبق ما في الآية (قال: أفلا) الفاء للسببية عن محذوف أي: أترك تلك المشقة نظرا لتلك المغفرة فلا (أكون عبدا شكورا) لا، بل ألزمها وإن غفر لي لأكون عبدا شكورا، فالمعنى: أن المغفرة سبب ذلك التكلف شكرا، فكيف أتركه، بل أفعله لأكون مبالغا في الشكر بحسب الإمكان البشري ولحظ تلك النعمة العظيمة، ومن ثم أتى بلفظ العبودية لأنها أخص أوصافه -صلى الله عليه وسلم-، ولذا ذكرها الله تعالى في أعلى المقامات، وأفضل [ ص: 186 ] الأحوال، إذ هي مقتضى صحة النسبة المستلزمة لأعلى الخدمة وهو الشكر، إذ العبد إذا لاحظ كونه عبدا وأن مالكه مع ذلك أنعم عليه بما لم يكن في حسابه علم تأكد وجوب الشكر، والمبالغة فيه عليه، ولحيازة سائر أنواع الشرف، وما ذكر من التقرير في معنى " أفلا " واضح جلي، وإن زعم بعضهم أنه متكلف، وأن التقدير الأولى إذا أنعم علي بالإنعام الواسع أفلا أكون عبدا شكورا ؟ أي: أيصير هذا الإنعام سببا لخروجي عن دائرة المبالغين في الشكر، والاستفهام لإنكار سببيه مثل هذا الإنعام لعدم كونه عبدا شكورا. اهـ .

وأنت خبير بأن هذا هو الذي فيه التكلف، ويصح أن يكون التقدير أيضا: غفر لي ما تقدم وما تأخر لعلمه بأني سأكون مبالغا في عبادته، فأكون عبدا شكورا، أفلا أكون كذلك؟ وهذا قريب من الأول، وقد ظن من سأله -صلى الله عليه وسلم- في سبب تحمله المشقة في العبادة أن سببها: إما خوف الذنب أو رجاء المغفرة، فأفادهم أن لها سببا آخر أتم وأكمل هو الشكر على التأهل مع المغفرة وإجزال النعمة، وهو -أعني الشكر- الاعتراف بالنعمة، والقيام في الخدمة ببذل المجهود، فمن أدام ذلك كان شكورا .




الخدمات العلمية