الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الثاني : في احتمال الغبن والمشتري إن اشترى طعاما من ضعيف ، أو شيئا من فقير ، فلا بأس أن يحتمل الغبن ، ويتساهل ، ويكون به محسنا وداخلا في قوله صلى الله عليه وسلم : رحم الله امرءا سهل البيع ، سهل الشراء فأما إذا اشترى من غني تاجر يطلب الربح زيادة على حاجته ، فاحتمال الغبن منه ليس محمودا بل هو تضييع مال من غير أجر ولا حمد فقد ورد في حديث ، من طريق أهل البيت : المغبون في الشراء لا محمود ولا مأجور .

وكان إياس ابن معاوية بن قرة قاضي البصرة وكان من عقلاء التابعين يقول : لست بخب ، والخب لا يغبنني ، ولا يغبن ابن سيرين ، ولكن يغبن الحسن ، ويغبن أبي ، يعني معاوية بن قرة والكمال في أن لا يغبن ولا يغبن كما وصف بعضهم عمر ، رضي الله عنه ، فقال : كان أكرم من أن يخدع وأعقل من أن يخدع .

وكان الحسن والحسين وغيرهما من خيار السلف يستقصون في الشراء ، ثم يهبون مع ذلك الجزيل من المال ، فقيل لبعضهم تستقصي في شرائك على اليسير ثم تهب الكثير ، ولا تبالي ، فقال : إن الواهب يعطي فضله ، وإن المغبون يغبن عقله .

وقال بعضهم إنما أغبن عقلي وبصري فلا أمكن الغابن منه ، وإذا وهبت أعطي لله ولا أستكثر منه شيئا .

التالي السابق


(الثاني: في احتمال الغبن، فالمشتري إن اشترى من ضعيف، أو فقير، طعاما، أو شيئا) خلافه (فلا بأس أن يحتمل الغبن، ويتساهل، ويكون بذلك محسنا) أي: يعد من المحسنين (وداخلا في قوله صلى الله عليه وسلم: رحم الله امرأ سهل البيع، سهل الشراء) . تقدم تخريجه قريبا .

(فأما إذا اشترى من غني تاجر يطلب الربح زيادة على حاجته، فاحتمال الغبن ليس محمودا) ولا مشكورا (بل هو تضييع مال من غير أجر) عند الله تعالى (ولأحد) من الناس (فقد ورد في حديث، من طريق أهل البيت: المغبون لا محمود ولا مأجور) . أي: لكونه لم يحتسب بما زاد على قيمته، فيؤجر، ولم يتحمد إلى بائعه، فيحمد، لكنه استرسل في وقت المبايعة، فاستغبن، فغبن، فلم يقع عند البائع موقع المعروف فيحمد، بل رجع لنفسه، فقال: خدعته فذهب الحمد، ولم يحتسب فذهب الأجر .

قال العراقي: رواه الترمذي الحكيم في النوادر، ومن رواية عبد الله بن الحسن، عن أبيه، عن جده، ورواه أبو يعلى من حديث الحسين بن علي، يرفعه، قال الذهبي: هو منكر، اهـ .

قلت: في مسند أبي يعلى، قال أبو هاشم: كنت أحمل متاعا إلى الحسين فيماكسني فيه، فلعلي لا أقوم من عنده حتى يهب عامته، فقلت له في ذلك، فقال: حدثني أبي، يرفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكره، قال الذهبي: وأبو هاشم لا يعرف، وقد اضطرب، فمرة عن الحسن، ومرة عن الحسين، اهـ .

ورواه الطبراني في الكبير، عن الحسن بن علي، قال [ ص: 498 ] الهيثمي فيه: محمد بن هشام ضعيف، ورواه الخطيب في تاريخه، عن علي، وفيه أحمد بن طاهر البغدادي ضعيف، وأورده الديلمي في الفردوس، بلفظ: أتاني جبريل فقال: يا محمد، ماكسني عن درهمك، فإن المغبون لا محمود ولا مأجور.

والحاصل: أن طرق هذا الحديث كلها ترجع إلى أهل البيت، ووقع في بعض نسخ الكتاب: المغبون في الشراء. وهذه الزيادة ليست في نسخة العراقي، ولا في القوت، ولا عند المخرجين المذكورين .

(وكان إياس بن معاوية) بن قرة بن إياس بن هلال بن ريان المزني، أبو وائلة البصري (قاضي البصرة) وجده صحابي، قال ابن سعد: ثقة، وله أحاديث (وكان من عقلاء التابعين) فقيها، عفيفا، وقال عبد الله بن شوذب: كان يقال: يولد في كل مائة سنة رجل تام العقل، وكانوا يرون أن إياسا منهم، مات بواسط، سنة 144 ، ذكره البخاري في الإجارات، والأحكام، وروى له مسلم في مقدمة كتابه (وكان يقول: لست بخب، والخب لا يغتبن، ولا يغبن ابن سيرين، ولكن يغبن الحسن، ويغبن أبي، يعني معاوية) بن قرة، هكذا هو في القوت .

وأورده المزني في تهذيب الكمال بسنده، إلى حبيب بن الشهيد، قال: سمعت إياسا يقول: لست بخب، والخب لا يخدعني، ولا يخدع محمد بن سيرين، ولكنه يخدع أبي، ويخدع الحسن، ويخدع عمر بن عبد العزيز. وأصل الخب بالكسر: الخداع، ورجل خب بالفتح: تسمية بالمصدر، وابن سيرين هو محمد، والحسن هو البصري، ومعاوية بن قرة هو والد إياس، ثقة، وله أحاديث، كان يقول: ولقيت من الصحابة كثيرا منهم، خمسة وعشرون من ... ، وروي: أدركت الصحابة، لو خرجوا فيكم اليوم ما عرفوا شيئا مما أنتم فيه، إلا الأذان. قيل: إنه ولد يوم الجمل، ومات سنة ثلاث عشرة ومائة، عن ست وتسعين سنة، روى له الجماعة .

(والكمال في أن لا يغبن) غيره (ولا يغبن) هو، أي: لا يخدعه غيره (كما وصف بعضهم عمر، رضي الله عنه، فقال: كان أكرم من أن يخدع) أي: غيره (وأعقل من أن يخدع) فالخادع ليس بكريم، والمخدوع ليس بعاقل .

(وكان الحسن والحسين، رضي الله عنهما، من خيار الصحابة) ولفظ القوت: وكان الحسن والحسين، وغيرهما، من خيار السلف (يستقصون في الشراء، ثم يهبون مع ذلك الجزيل من المال، فقيل لبعضهم) أي: من هؤلاء، عجبا منك (تستقصي في شرائك على اليسير) أي: القليل، أي: تدقق عليه (ثم تهب الكثير، ولا تبالي، فقال: إن الواهب يعطي فضله، وإن المغبون يغبن عقله) هكذا هو في القوت، أما الحسين فقد تقدم قريبا، عن مسند أبي يعلى الموصلي، بسنده إلى أبي هاشم [الغناء] ، قال: كنت أحمل متاعا إلى الحسين فيماكسني فيه، فلعلي لا أقوم من عنده حتى يهب عامته.

(وقال بعضهم) أي: من هؤلاء: (إنما أغبن عقلي وبصيرتي) أو قال ... (فلا أمكن الغابن منه، وإذا وهبت فأعطي لله) عز وجل (ولا نستكثر له شيئا) . ولفظ القوت: فلا أستكثر له شيئا .




الخدمات العلمية