الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الثاني : أن يقصد القيام في صنعته ، أو تجارته ، بفرض من فروض الكفايات ، فإن الصناعات والتجارات لو تركت ، بطلت المعايش وهلك أكثر الخلق .

فانتظام أمر الكل بتعاون الكل ، وتكفل كل فريق بعمل ولو أقبل كلهم على صنعة واحدة لتعطلت البواقي وهلكوا ، وعلى هذا حمل بعض الناس قوله صلى الله عليه وسلم : اختلاف أمتي رحمة . أي اختلاف همهم في الصناعات والحرف .

ومن الصناعات ما هي مهمة ومنها ما يستغنى عنها لرجوعها ; إلى طلب النعم ، والتزين في الدنيا فليشتغل بصناعة مهمة ; ليكون في قيامه بها كافيا عن المسلمين ، مهما في الدين وليجتنب صناعة النقش والصياغة وتشييد البنيان بالجص وجميع ما تزخرف به الدنيا ، فكل ذلك كرهه ذوو الدين فأما عمل الملاهي ، والآلات التي يحرم استعمالها ، فاجتناب ذلك من قبيل ترك الظلم ، ومن جملة ذلك : خياطة الخياط القباء من الإبر يسم للرجال وصياغة الصائغ مراكب الذهب أو خواتيم الذهب للرجال فكل ذلك من المعاصي ، والأجرة المأخوذة عليه حرام ولذلك أوجبنا الزكاة فيها وإن كنا لا نوجب الزكاة في الحلي لأنها إذا قصدت للرجال فهي محرمة ، وكونها مهيأة للنساء لا يلحقها بالحلي المباح ، ما لم يقصد ذلك بها ، فيكتسب حكمها من القصد .

وقد ذكرنا أن بيع الطعام ، وبيع الأكفان مكروه ; لأنه يوجب انتظار موت الناس وحاجتهم بغلاء السعر .

ويكره أن يكون جزارا ; لما فيه من قساوة القلب وأن يكون حجاما أو كناسا لما فيه من مخامرة النجاسة وكذا الدباغ وما في معناه وكره ابن سيرين الدلالة وكره قتادة أجرة الدلال ولعل السبب فيه ; قلة استغناء الدلال عن الكذب والإفراط في الثناء على السلعة ; لترويجها ولأن العمل فيه لا يتقدر فقد يقل وقد يكثر ، ولا ينظر في مقدار الأجرة ، إلى عمله ، بل إلى قدر قيمة الثوب هذا هو ، العادة وهو ظلم ، بل ينبغي أن ينظر إلى قدر التعب وكرهوا شراء الحيوان للتجارة لأن المشتري يكره قضاء الله فيه ، وهو الموت الذي بصدده لا محالة وحلوله .

، وقيل بع الحيوان واشتر الموتان وكرهوا الصرف لأن الاحتراز فيه عن دقائق الربا عسير ولأنه طلب لدقائق الصفات فيما لا يقصد أعيانها وإنما يقصد رواجها وقلما يتم للصيرفي ربح إلا باعتماد جهالة معامله بدقائق النقد ، فقلما يسلم الصيرفي وإن احتاط ويكره للصيرفي وغيره كسر الصحيح والدنانير ، إلا عند الشك في جودته ، أو عند ضرورة .

قال أحمد بن حنبل رحمه الله ورد نهي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وعن أصحابه ، في الصياغة من الصحاح ، وأنا أكره الكسر وقال : يشتري بالدنانير دراهم ، ثم يشتري بالدرهم ذهبا ، ويصوغه واستحبوا تجارة البز .

قال سعيد بن المسيب ما من تجارة أحب إلي من البز ما لم يكن فيها أيمان .

وقد روي : خير تجارتكم البز ، وخير صنائعكم الخرز .

وفي حديث آخر : لو اتجر أهل الجنة لاتجروا في البز ، ولو اتجر أهل النار لاتجروا في الصرف .

وقد كان غالب أعمال الأخيار من السلف عشر صنائع : الخرز والتجارة والحمل والخياطة ، والحذو والقصارة وعمل الخفاف ، وعمل الحديد ، وعمل المغازل ومعالجة صيد البر والبحر والوراقة قال عبد الوهاب الوراق .

قال لي أحمد بن حنبل ، ما صنعتك ؟ قلت : الوراقة ، قال : كسب طيب ، ولو كنت صانعا بيدي لصنعت صنعتك ، ثم قال لي : لا تكتب إلا مواسطة واستبق الحواشي وظهور الأجزاء .

وأربعة من الصناع موسومون عند الناس بضعف الرأي الحاكة والقطانون ، والمغازليون ، والمعلمون .

ولعل ذلك لأن أكثر مخالطتهم مع النساء والصبيان ومخالطة ضعفاء العقول تضعف العقل ، كما أن مخالطة العقلاء تزيد في العقل .

وعن مجاهد أن مريم عليها السلام مرت في طلبها لعيسى عليه السلام بحاكة فطلبت الطريق فأرشدوها غير الطريق فقالت : اللهم انزع البركة من كسبهم ، وأمتهم فقراء ، وحقرهم في أعين الناس ، فاستجيب دعاؤها .

وكره السلف أخذ الأجرة على كل ما هو من قبيل العبادات ، وفروض الكفايات كغسل الموتى ودفنهم ، وكذا الأذان ، وصلاة التراويح ، وإن حكم بصحة الاستئجار عليه وكذا تعليم القرآن ، وتعليم علم الشرع فإن هذه أعمال حقها أن يتجر فيها للآخرة وأخذ الأجرة ، عليها استبدال بالدنيا عن الآخرة ولا ، يستحب ذلك .

التالي السابق


(الثاني: أن يقصد القيام في صنعته، أو تجارته، بفرض من فروض الكفايات، فإن الصناعات والتجارات لو تركت، بطلت المعايش) على الناس (وهلك الخلق) لاحتياجهم إليها (فانتظام أمر الكل بتعاون الكل، وتكفل كل فريق بعمله) الذي سخر له (ولو أقبل كلهم على صنعة واحدة لتعطلت البواقي) من الصنائع (وهلكوا، وعلى هذا) المعنى (جعل بعض الناس) من العلماء (قوله صلى الله عليه وسلم: اختلاف أمتي رحمة. أي اختلاف همومهم) وعزائمهم (فى الصناعات) المختلطة (والحرف) المتنوعة، وهذا الوجه مع الكلام على تخريج الحديث مضى في كتاب العلم مفصلا، فراجعه .

(ومن الصناعات [ ص: 507 ] ما هو مهم) مقصود حصوله من غير نظر بالذات إلى الفاعل (ومنها ما يستغنى عنه; لرجوعه إلى طلب التنعم، والتزين في الدنيا) وليست مما يهتم لها (فليشتغل) الكامل (بصناعة مهمة; ليكون في قيامه بها كافيا عن المسلمين، مهما في الدين) .

وفي القوت: وليتجنب الصنائع المحدثة من غير المعروف، والمعايش المبتدعة في زماننا هذا، فإن ذلك بدعة، ومكروه; إذ لم يكن فيما مضى من السلف (وليتجنب صناعة النقش) أي: لا يكون نقاشا، وهو على عمومه في كل نقش (والصياغة) أي: لا يكون صائغا، وهو أيضا على عمومه في كل صياغة (وتشييد البنيان بالجص) والنورة (وجميع ما وضع لتزخرف به الدنيا، فكل ذلك كرهه ذوو الدين) .

ولفظ القوت: وليتجنب الصانع عمل الزخرف من الأشياء، وما يكون فيه لهو، وزينة مشغلة، من التصاوير، والنقوش، والتشييد من الجص، وفضول الشهوات، فإن ذلك كله مكروه، وأخذ الأجر عليه شبهة (فأما عمل الملاهي، والآلات التي يحرم استعمالها، فاجتناب ذلك من قبيل ترك الظلم، ومن ذلك: خياطة القباء) وما في معناه (من الإبريسم للرجال) الإبريسم: هو الحرير الخام (وصياغة الصائغ مراكب الذهب والفضة) أي: السروج المتخذة منها (و) صياغة (خواتم الذهب) كل ذلك (للرجال) وأما النساء فقد أبيح لهم ما ذكر (وكل ذلك من المعاصي، والأجرة المأخوذة عليه حرام) .

ولفظ القوت: وكل ما كان سببا لمعصية، من آلة، وأداة، فهو معصية، فلا يصنعه، ولا يبيعه، فإنه من المعاونة على الإثم، والعدوان، وكل ما أخذ من المال على عمل بدعة، أو منكر، فهو بدعة، ومنكر، وكل معين لمبتدع أو عاص فهو شريكه في بدعته، ومعصيته، وأخذ العوض على جميع ذلك من أكل المال بالباطل; (ولذلك أوجبنا الزكاة فيها) أي: خواتم الذهب للرجال (وإن كنا لا نوجب الزكاة في الحلي) وقد تقدم بيان ذلك في كتاب الزكاة; (لأنها إذا قصدت للرجال فهي محرمة، وكونها مهيأة للنساء لا تلحقها بالحلي المباح، ما لم يقصد ذلك بها، فيكتسب حكمها من القصد) وتقدمت الإشارة إليه في كتاب الزكاة .

(وقد ذكرنا) قريبا (أن بيع الطعام، وبيع الأكفان مكروه; لأنه يحب موت الناس) أي: يتمنى موتهم ليتفق بيع الأكفان (وحاجتهم لغلاء الأسعار) ففيه لف ونشر غير مرتب، وذلك قوله: أوصى بعض التابعين رجلا فقال: لا تسلم ولدك في بيعتين، بيع الطعام، وبيع الأكفان .

(ويكره أن يكون جزارا; لما فيه من قساوة القلب) وهذا أيضا قد تقدم في وصية بعض التابعين: ولا تسلمه في صنعتين، أن يكون جزارا; فإنها صنعة تقسي القلب، أو صواغا; فإنه يزخرف الدنيا بالفضة والذهب .

(وأن يكون حجاما) وهو الذي يأخذ الدم بالمشرط (أو كناسا) وهو الذي يكنس الزبالات بالأجرة; (لما فيه) أي: في كل منهما (من مخاطر النجاسة) أما الحجام فظاهر، فإنه يمصه بفمه مصا، ويمسحه بيده، فلا يخلو من مخامرته، وأما الكناس فإنه ربما تقع يده في النجاسات، وينتشر منها على جسده وهو لا يدري (وكذا الدباغ) الذي يدبغ الجلود (وما في معناه) فهذه كلها صنائع خسيسة .

(وكره) محمد (بن سيرين) التابعي المشهور (الدلالة) أي: صنعتها، وهو: أن يكون سفيرا بين البيعين (وكره) أبو الخاطب (قتادة) بن دعامة بن قتادة البصري، ثقة، ثبت (أجرة الدلالة) والذي في نسخ القوت: وروى عثمان الشحام، عن ابن سيرين: أنه كره أجرة الدلالة .

قلت: وعثمان الشحام، هو أبو سلمة العدوي البصري، يقال: اسم أبيه ميمون، أو عبد الله، لا بأس به، روى له مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي (ولعل السبب في ذلك; قلة استغناء الدلال عن الكذب) في مقالته; ولذا قيل: رأس مال الدلال: الكذب (والإفراط في الثناء على السلعة; لترويجها) في عين المشتري; (ولأن العمل فيها لا يتقدر) أي: ليس له مقدار معلوم (فقد يقل وقد يكثر، ولا ينظر في مقدار الأجرة، ولا إلى عمله، بل إلى قدر قيمة الثوب، وهذه هي العادة) بين الناس (وهو ظلم، بل ينبغي أن ينظر إلى قدر التعب) وتكون الأجرة على قدره .

(وكرهوا) أيضا (شراء الحيوان للتجارة) والمراد به هنا: ذو الروح; (لأن المشتري يكره قضاء الله) المحتوم (فيه، وهو الموت الذي هو بصدده لا محالة، وخلق له) كما قال الشاعر:*

لدوا للموت وابنوا للخراب

* .

واستحبوا شراء [ ص: 508 ] الموات، ما لا روح فيه; لأجل ذلك (وقيل) : ولفظ القوت: وكانت العرب تقول (بع الحيوان واشتر الموتان) كأنهم كرهوا رد الثمن في الحيوان; لما يخاف من تلفه .

(وكرهوا الصرف) ولفظ القوت: وقد كره الحسن، وابن سيرين، التجارة في الصرف; (لأن الاحتراز فيه عن دقائق الربا) وخفاياه (عسير) جدا; (ولأنه طلب لدقائق الصفات فيما لا يقصد أعيانها) بالذات (وإنما يقصد رواجها) على الناس (وقلما يتم للصيرفي ربح إلا باعتماد جهالة معاملة بدقائق النقد، فقلما يسلم الصيرفي وإن احتاط) ; ولذا قال الحسن لما سئل عن الصيرفي، فقال: الفاسق لا تستظلن بظله، ولا تصلين خلفه. وروى يحيى بن أبان، عن بسام الصيرفي، عن عكرمة، قال: أشهد أن الصيارفة من أهل النار .

والحاصل مما سبق: أن الصنائع المكروهة التي ينبغي اجتنابها على أنواع: فمنها ما يضر الناس كالاحتكار، ومنها ما يلوث الباطن دون الظاهر كالجزارة، والصياغة، ومنها ما يلوث الظاهر دون الباطن كالحجامة، والدباغة، وفي معناها الكناسة، ومنها ما يعسر فيه الاحتياط كالصيارفة، والدلالة، ومنها ما يكره فيه قضاؤه كشراء الحيوان، ومنها ما يكره فيه سلامة الناس، كبيع الأكفان، ومنها ما يحرم استعماله كقباء الإبريسم، وآنية النقدين، والمزامير، ورفع البناء عن قدر الحاجة، والتشييد بالجص، والتزيين به .

(ويكره للصيرفي وغيره) كالصائغ (كسر الدرهم الصحيح) الذي لا بأس به (وكذا) كسر (الدينار أيضا، إلا عند الشك في جودته، أو عند الضرورة) اشتدت، ألجئ إليها (قال) أبو عبد الله (أحمد بن حنبل) رحمه الله تعالى: (ورد نهي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن أصحابه، في الصياغة من الصحاح، وأنا أكره الكسر) .

وفي القوت: وحدثنا عن أبي بكر المروزي، قال: سألت أبا عبد الله عن الرجل يدفع الدراهم الصحاح يصوغها؟ قال: فيها نهي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن أصحابه، وأنا أكره كسر الدراهم، والقطعة .

(وقال: يشتري بالدينار دراهم، ثم يشتري بالدراهم ذهبا، ويصوغه) ; حتى لا يكون ربا .

ولفظ القوت: المروزي، قلت: فإن أعطيت دينارا أصوغه، كيف أصنع؟ قال: تشتري به دراهم، ثم تشتري به ذهبا، قلت: فإن كانت الدراهم من الفيء، ويشتهي صاحبها أن تكون بأعيانها؟ قال: إذا أخذت بحذائها فهو مثلها .

وروى أبو عبد الله، حديث علقمة بن عبد الله، عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كسر سكة المسلمين الجائزة بينهم إلا من بأس. قال أبو عبد الله: البأس: أن يختلف في الدراهم، فيقول الواحد: جيد، ويقول الآخر: رديء، فيكسر هو لهذا المعنى، اهـ .

قال العراقي: رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم في رواية علقمة بن عبد الله، عن أبيه، ثم ساق كسياق القوت، قال: وزاد الحاكم: أن يكسر الدرهم، فيجعل فضة، ويكسر الدينار فيجعل ذهبا، وضعفه ابن حبان، اهـ .

قلت: وفي الميزان: ضعفه ابن معين. وفي المهذب: فيه محمد بن مضاد، وهو ضعيف، وقال: العقيلي لا يتابع على حديثه، وعلقمة بصري، ثقة، روى له الأربعة، ووالده عبد الله بن سنان بن نبيشة بن سلمة المزني، صحابي، نزل البصرة، وكان أحد البكائين .

(واستحب تجارة البز) ولفظ القوت: وكانوا يستحبون التجارة في البز (وقال سعيد بن المسيب) بن حزن القرشي، المدني، التابعي: (ما من تجارة أحب إلي من البزات لم تكن فيها أيمان) نقله صاحب القوت (وقد روي: خير تجارتكم البز، وخير صنائعكم الخرز) . نقله صاحب القوت .

وقال العراقي: لم أقف له على إسناده، وذكره صاحب الفردوس من حديث علي بن أبي طالب، أي تعليقا (وفي حديث آخر: لو اتجر أهل الجنة لاتجروا في البز، ولو اتجر أهل النار لاتجروا في الصرف) هكذا في القوت .

وقال العراقي: رواه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس، من حديث أبي سعيد، بسند ضعيف، وروى أبو يعلى، والعقيلي في الضعيف، الشطر الأول من حديث أبي بكر الصديق، اهـ .

قلت: وروى الطبراني في الكبير، وأبو نعيم في الحلية، وابن عساكر من حديث ابن عمر: لو أذن الله في التجارة لأهل الجنة لاتجروا في البز، والعطر. قال الهيثمي: فيه عبد الرحمن بن أيوب السكوني، قال: العقيلي لا يتابع على هذا الحديث، وقال ابن الجوزي، وشيخه القطان بن خالد، عن نافع، عن ابن عمر: لا يجوز أن يحتج به .

(وقد كان غالب أعمال الأخيار من السلف عشر صنائع: الخرز) بفتح الخاء المعجمة، وسكون الراء، [ ص: 509 ] وآخره زاي: الأديم (والتجارة) في البضائع (والحمل) أي: حمل الأمتعة بالأجرة (والخياطة، والحذو) أي: حذو النعال (والقصارة) أي: قصارة الثياب، ودقها، وغسلها، ومنه الحواريون (وعمل الخفاف، وعمل الحديد، وعمل المغازل) جمع مغزل، وهو ما تغزل عليه النساء (ومعالجة صيد البر والبحر) بالرمي، والشبك (والوراقة) أي: نساخة الكتب بالأجرة، لا سيما كتابة المصاحف، وكتب الأحاديث، ففيها بقاء الدين، وإعانة المؤمنين، فهذه الصنائع العشر كانت أعمال الأخيار، وحرفة الأبرار، كذا في القوت .

قلت: وبقي عليه من أصول الصنائع المشهورة: الحراثة، والنجارة، بالنون، ورعي الغنم، والإبل، وقد ورد في كل ذلك ما يدل على فضله، فالحراثة صنعة آدم عليه السلام، وكان زكريا -عليه السلام- نجارا، ورعاية الغنم، والإبل من صنعة الأنبياء، عليهم السلام، والأولياء الكرام .

(قال عبد الوهاب الوراق) ولفظ القوت: حدثنا عبد الوهاب الوراق، قلت: هو عبد الوهاب بن عبد الحكم بن نافع بن الحسن البغدادي، ويقال له: ابن الحكم، ويعرف بالوراق، ثقة، مات سنة خمسين، وقيل: بعدها، روى له أبو داود، والترمذي، والنسائي: (قال لي أحمد بن حنبل، ما صنعتك؟ قلت: الوراقة، قال: كسب طيب، ولو كنت صانعا بيدي) شيئا (لصنعت صنعتك، ثم قال لي: لا تكتب إلا بواسطة) هكذا في نسخ الكتاب، أي وسط الكتاب، وفي بعض نسخ القوت: إلا مواضعة (واستبق الحواشي) أي: لا تكتب فيها، وفي القوت: واستثن الحواشي (وظهور الأجزاء) وهذا من النصح في الصنعة، فإن الحواشي هي زينة الكتاب، وظهور الأجزاء قابلة للتلف، فالكتابة فيها ضائعة، وهذا يؤكد أن المراد بالوراقة النساخة، لا صنعة الورق الذي يتوقف عليه صنعة النساخة .

(وأربعة من الصناع موسومون) أي: معلومون (عند الناس بضعف الرأي) ورقاعة العقل، وقلة العلم (الحاكة) جمع حائك (والقطانون، والمغازليون، والمعلمون) أي: معلمو الصبيان في المكاتب، كذا في القوت، زاد: وقد تكلموا في الحمامي، والمزين، وقد كان فيهم صالحون (ولعل ذلك) أي: ضعف عقل هؤلاء; (لأن أكثر مخالطتهم مع النساء) وهم الثلاثة الأولى (والصبيان) وهم المعلمون (ومخالطة ضعفاء العقول تضعف العقل، كما أن مخالطة العقلاء تزيد في العقل) وهذا صحيح، فقد ورد: المرء على دين خليله فلينظر بمن يخالل.

(وعن مجاهد) بن جبر المخزومي مولاهم المكي، تابعي جليل، روى له الجماعة: (أن مريم) بنت عمران، عليها السلام، ولفظ القوت: وحدثونا عن بشر، عن الفضيل بن عياض، عن ليث، عن مجاهد، أن مريم عليها السلام (مرت في طلبها لعيسى -عليه السلام- بحاكة) قعود على ظهر طريق (فطلبت الطريق) ولفظ القوت: فقالت: كيف طريق موضع كذا وكذا؟ (فأرشدوها) إلى (غير الطريق) التي أرادت، فضلت، فدعت الله تعالى عليهم (فقالت: اللهم انزع البركة من كسبهم، وأمتهم فقراء، وحقرهم في أعين الناس، فاستجيب دعاؤها) ولفظ القوت: قال بشر: أحسب أن الله عز وجل استجاب دعاءها فيهم .

(وكره السلف أخذ الأجرة على كل ما هو من قبيل العبادات، وفروض الكفايات) ولفظ القوت: وكل عمل يتقرب به إلى الله عز وجل، ويكون من أعمال الآخرة، ومن البر، والمعروف، فأخذ الأجر عليه مكروه (كغسل الأموات، وكذا الأذان، وصلاة التراويح، وإن حكم بصحة الاستئجار على ذلك) عند المتأخرين، على ما تقدم تفصيله في أول هذا الكتاب .

(وكذا تعليم القرآن، وتعليم علم الشرع) ولفظ القوت: مثل تعليم القرآن، وتعليم العلم، ومجالس الذكر، والصلاة بالناس في شهر رمضان، وغسل الموتى، وما كان من هذا المعنى .

(فإن هذه أعمال حقها أن يتجر فيها للآخرة، وإن أخذ الأجر عليها استبدال بالدنيا عن الآخرة، فلا يستحب ذلك) ولفظ القوت: لأن هذه تجارات الآخرة، وقد خسر من أخذ أجرها اليوم في الدنيا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم، لعثمان بن أبي العاص: واتخذ مؤذنا لا يأخذ على الأذان أجرا. وقال في حديث أبي، أو عبادة، وقد أهدي إليه قوس، وكان قد علم رجلا سورة من القرآن، أتحب أن يقوسك الله عز وجل قوسا من نار؟ فردها.




الخدمات العلمية