الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
السادس : أن لا يقتصر على اجتناب الحرام ، بل يتقي مواقع الشبهات ، ومظان الريب ولا ينظر إلى الفتاوى بل يستفتي قلبه فإذا وجد فيه حزازة اجتنبه وإذا حمل إليه سلعة رابه أمرها سأل عنها حتى يعرف وإلا أكل الشبهة وقد حمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لبن ، فقال : من أين لكم هذا فقالوا ؟ : من الشاة فقال : ومن أين لكم هذه الشاة ؟ فقيل : من موضع كذا ، فشرب منه ثم قال : إنا معاشر الأنبياء ، أمرنا أن لا نأكل إلا طيبا ، ولا نعمل إلا صالحا .

وقال : إن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ، فقال يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أصل الشيء ، وأصل أصله ، ولم يزد ; لأن ما وراء ذلك يتعذر .

وسنبين في كتاب الحلال والحرام ، موضع وجوب هذا السؤال ، فإنه كان عليه السلام ، لا يسأل عن كل ما يحمل إليه .

وإنما الواجب أن ينظر التاجر إلى من يعامله ، فكل منسوب إلى ظلم ، أو خيانة أو سرقة أو ربا فلا يعامله وكذا الأجناد والظلمة ، لا يعاملهم البتة ، ولا يعامل أصحابهم ، وأعوانهم ; لأنه معين بذلك على الظلم .

وحكي عن رجل : أنه تولى عمارة سور لثغر من الثغور .

قال : فوقع في نفسي من ذلك شيء ، وإن كان ذلك العمل من الخيرات ، بل من فرائض الإسلام ، ولكن كان الأمير الذي تولى في محلته من الظلمة .

قال فسألت سفيان رضي الله عنه فقال : لا تكن عونا لهم على قليل ولا كثير ، فقلت هذا سور في سبيل الله للمسلمين فقال : نعم ، ولكن أقل ما يدخل عليك ، أن تحب بقاءهم ليوفوك أجرك ، فتكون قد أحببت بقاء من يعصي الله .

وقد جاء في الخبر : من دعا لظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصى الله في أرضه .

وفي الحديث : إن الله ليغضب إذا مدح الفاسق .

وفي حديث آخر : من أكرم فاسقا فقد أعان على هدم الإسلام .

ودخل
سفيان على المهدي وبيده درج أبيض فقال يا سفيان أعطني الدواة حتى أكتب ، فقال أخبرني أي شيء تكتب ، فإن كان حقا أعطيتك .

وطلب بعض الأمراء من بعض العلماء المحبوسين عنده ، أن يناوله طينا ليختم به الكتاب فقال ناولني الكتاب أولا ، حتى أنظر ما فيه فهكذا كانوا يحترزون عن معاونة الظلمة ومعاملتهم أشد أنواع الإعانة ، فينبغي أن يجتنبها ذوو الدين ما وجدوا إليه سبيلا .

وبالجملة : فينبغي أن ينقسم الناس عنده إلى : من يعامل ، ومن لا يعامل ، وليكن من يعامله أقل ممن لا يعامله في هذا الزمان ، قال بعضهم أتى على الناس زمان ، كان الرجل يدخل السوق ، ويقول من ترون لي أن أعامل من الناس ؟ فيقال له : عامل من شئت .

ثم أتى زمان آخر كانوا يقولون : عامل من شئت إلا فلانا ، وفلانا ، ثم أتى زمان آخر ، فكان يقال لا تعامل أحدا إلا فلانا وفلانا ، وأخشى أن يأتي زمان ، يذهب هذا أيضا .

وكأنه قد كان الذي كان يحذر أن يكون إنا ، لله وإنا إليه راجعون .

التالي السابق


(السادس: أن لا يقتصر على اجتناب الحرام، بل) يتورع، و (يتقي مواقع الشبهات، ومظان الريب) على اختلاف الأحوال والأزمنة (ولا ينظر إلى الفتاوى) الظاهرة من العلماء (بل يستفتي قلبه) وقد ورد: استفت قلبك ولو أفتاك المفتون. كما تقدم في كتاب العلم (فما وجد فيه حزازة اجتنبه) وامتنع عنه (وإذا حمل إليه سلعة رابه أمرها) وخفي عليه حالها (سأل عنها حتى يعرفها) ولا يستعجل على شرائها (وإلا أكل الشبهة) لا محالة .

وفي القوت: ويكون متورعا في عين الدرهم المعتاض به، أن لا يكون من خيانة، أو سرقة، أو فساد، أو غصب، أو حيلة، أو غيلة، فهذه وجوه الحرام التي تحرم بها المكاسب المباحة، فإذا كان مجتنبا لهذه المعاني لم يشهد أحدها بعينه، أو لم يعلمه من عدل، فكسبه حينئذ شبهة، ولا يكون مع ذلك حلالا; لإمكان دخول أحد في هذه الأسباب فيه; ولأنه على غير يقين معاينة منه لصحة أصله، وأصل أصله; لقلة المتقين، وذهاب الورعين، إلا أنه [ ص: 515 ] شبهة .

(وقد) جاء في الخبر: أنه (حمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لبن، فقال: من أين لكم هذا؟ فقيل: من الشاة) ولفظ القوت: من شاة كذا (فقال: ومن أين لكم هذه الشاة؟ فقيل: من موضع كذا، فشرب منه، وقال: إنا معاشر الأنبياء، أمرنا أن لا نأكل إلا طيبا، ولا نعمل إلا صالحا) . كذا في القوت .

قال العراقي: رواه الطبراني من حديث أم عبد الله، أخت شداد بن أوس، بسند ضعيف (وقال: إن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال) عز من قائل: ( يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم ) ، كذا في القوت .

قال العراقي: رواه مسلم من حديث أبي هريرة، ثم قال صاحب القوت: (فسأل صلى الله عليه وسلم عن أصل الشيء، وأصل أصله، ولم يزد; لأن ما دون ذلك يتعذر) . ولفظ القوت: ولم يسأل عما سوى ذلك; لأنه قد يتعذر، ولا يوفق على حقيقته (وسنبين) إن شاء الله تعالى (فى) الكتاب الذي يليه، وهو (كتاب الحلال والحرام، موضع وجوب هذا السؤال، فإنه عليه السلام، كان لا يسأل عن كل ما يحمل إليه) بل يقبل مأكولا كان أو مشروبا، أو غير ذلك .

قال العراقي: روى أحمد من حديث جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مروا بامرأة فذبحت لهم شاة... الحديث. وفيه: فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم لقمة فلم يستطع أن يسيغها، فقال: هذه شاة ذبحت بغير إذن أهلها... الحديث .

وله من حديث أبي هريرة: كان إذا أتي بطعام من غير أهله سأل عنه... الحديث، وفي هذا: أنه كان لا يسأل عما أتي به من عند أهله، والله أعلم .

(وإنما الواجب أن ينظر التاجر إلى من يعامله، فكل منسوب إلى ظلم، أو خيانة) أو غصب (أو سرقة) أو فساد (أو ربا) أو حيلة، أو غيلة (فلا يعامله) ألبتة .

(وكذا الأجناد والظلمة، لا يعاملهم ألبتة، ولا يعامل أصحابهم، وأعوانهم; لأنه معين بذلك على الظلم) .

ولفظ القوت: بعد أن أورد حديث السؤال عن اللبن; فلذلك قلنا أولا: إن أموال التجار، والصناع، قد اختلطت بأموال الأجناد، وهم يأخذون ذلك بغير استحقاق، فكان من أكل المال بالباطل، إذ قد وقفوا نفوسهم، وارتبطوا لدوابهم، في سبيل الغصب، فصاروا يأخذون العطاء بغير حق، فلا يملكون ذلك، ثم ينتشرون في أملاك التجار، والصناع، وهم لا يميزون بين ذلك، ولا يرغبون عنه; لقلة التقوى، وعدم الورع; فلذلك غلب الحرام; لأن الحلال إنما هو فرع التقوى .

(وحكي عن رجل: أنه تولى عمارة سور ثغر من الثغور) ولفظ القوت: وكان بمكة أمير، قد أمر رجلا أن يقوم له على الصناع في عمارة ثغر من الثغور (قال: فوقع في نفسي من ذلك شيء، فتركته، وإن كان ذلك العمل من الخيرات، بل من فرائض الإسلام، ولكن كان الأمير الذي تولى في محلته من الظلمة) قال: (فسألت سفيان) الثوري (فقال: لا تكن عونا لهم على قليل ولا كثير، فقلت) : يا أبا عبد الله (هذا سور في سبيل الله للمسلمين) ؟ أي: فهو من وجوه الخير (قال: نعم، ولكن أقل ما يدخل عليك، أن تحب بقاءهم ليوفوك أجرك، فتكون قد أحببت بقاء من يعصي الله تعالى) كذا في القوت .

(وقد جاء في الخبر: من دعا الله تعالى لظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصى الله في أرضه) كذا في القوت، وأورده الزمخشري في تفسير هود، وقد ذكره المصنف في ثلاثة مواضع: أحدها هنا، والثاني في الباب الخامس من كتاب الحلال والحرام، والثالث في آفات اللسان .

قال العراقي: لم أجده مرفوعا، وإنما أورده ابن أبي الدنيا في كتاب الصمت، من قول الحسن، وقد ذكره المصنف هكذا على الصواب في آفات اللسان، اهـ .

قلت: وكذا هو في السادس والستين، من الشعب للبيهقي، من قول الحسن، كما سيأتي للمصنف، في آفات اللسان، وهو في ترجمة الثوري من الحلية لأبي نعيم، من قوله: (وفي الحديث: إن الله تعالى يغضب) كذا في النسخ، والرواية: ليغضب (إذا مدح الفاسق) كذا في القوت .

قال العراقي: رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الصمت، وابن عدي في الكامل، وأبو يعلى، والبيهقي في الشعب من حديث أنس، بسند ضعيف .

(وفي خبر آخر: من أكرم فاسقا فقد أعان على هدم الإسلام) كذا في القوت .

قال العراقي: غريب بهذا اللفظ، والمعروف: من وقر صاحب بدعة... الحديث، رواه ابن عدي، من حديث عائشة، والطبراني في الأوسط، وأبو نعيم في الحلية، من حديث عبد الله بن بشر، بأسانيد ضعيفة، [ ص: 516 ] قال ابن الجوزي: كلها موضوعة، اهـ .

قلت: رواه أبو نعيم، من طريق الطبراني، عن الحسن بن هلال الوراق، وعن محمد بن محمد الواسطي، عن أحمد بن معاوية، عن عيسى بن يونس، عن ثور، عن ابن معدان، عن عبد الله بن بسر، ورواه ابن عدي أيضا، وأبو نصر السجزي أيضا، عن ابن عمر، وابن عباس، موقوفا، ورواه البيهقي، عن إبراهيم بن ميسرة، مرسلا، وإيراد ابن الجوزي إياه في الموضوعات غير سديد، غايته: أن طرقه ضعيفة، وأحمد بن معاوية، من سند الطبراني، حدث بالأباطيل، وقال الذهبي: ليس بثقة، ومعنى الحديث: أن المبتدع، أو الفاسق، مخالف للسنة، مائل عن الاستقامة، فمن وقره حاول اعوجاج الاستقامة; لأن معاونة نقيض الشيء، معاونة لدفع ذلك الشيء، وهذا من باب التغليظ، والزجر الشديد .

(وقد أدخل سفيان) الثوري (على المهدي) لدين الله، محمد بن عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس (وبيده) أي: المهدي (درج أبيض) وهو بالضم: طاقة ورق، يكتب عليها، والجمع: أدراج (فقال) له (يا سفيان) ولفظ القوت: فقال للثوري، يا أبا عبد الله: (أعطني الدواة حتى أكتب، فقال) سفيان: (أخبرني أي شيء تكتب، فإن كان حقا أعطيتك) . وهذا من الورع، وكان الثوري يقول: يقال يوم القيامة: ليقم ولاة السوء وأعوانهم، قال: فمن لاق لهم دواة، أو برى لهم قلما، أو حمل إليهم مدادا، أو أعانهم على أمر فهو معهم .

(وطلب بعض الأمراء من بعض العلماء المحبوسين عنده، أن يناوله طينا ليختم به كتابا) ولفظ القوت: وكان بعض العلماء قد حبس في ديوان بعض الأمراء، فكتب الأمير كتابا، فقال له الأمير: ناولني الطين حتى أختم به الكتاب (فقال) ذلك العالم: (ناولني الكتاب أولا، حتى أنظر فيه) وليس في القوت: أولا، قال: ولم يناوله .

(فهكذا كانوا يحترزون من معاونة الظلمة) ويفرون منها، وقد قيل في تفسير قوله تعالى: احشروا الذين ظلموا وأزواجهم ، أي أشباههم، وأعوانهم (ومعاملتهم أشد أنواع الإعانة، فينبغي أن يجتنبه ذوو الدين ما وجدوا إليه سبيلا) ومما يلحق بمعاونتهم معاونة من يعاملهم، كالخياط، والجزار، والحداد، وغيرهم، فمن باع لهم شيئا فقد أعانهم، وقد تقدم أن رجلا جاء إلى ابن المبارك، فقال: إني خياط فربما خطت شيئا لبعض وكلاء السلطان، فماذا ترى، أكون من أعوان الظلمة؟ فقال: لست من أعوان الظلمة، بل أنت من الظلمة، إنما أعوان الظلمة من يبيع منك الإبر، والخيوط .

وفي القوت: واستحب له أن يتوخى في البيع والشراء، ويتحرى أهل التقوى والدين، ويسأل عمن يريد أن يبايعه، ويشاريه، وأكره له معاملة من لا يتورع من الحرام، أو من الغالب على ماله الشبهات .

وحدثنا عن محمد بن شيبة، قال: كتب غلام ابن المبارك إليه: إنا نبايع أقواما يبايعون السلطان، فكتب إليه ابن المبارك: إذا كان الرجل يبايع السلطان، وغيره، فبايعه، وإذا قضاك شيئا فاقبض منه، إلا أن يقضيك شيئا تعرفه بعينه حراما، فلا تأخذه، وإذا كان لا يبايع إلا السلطان فلا تبايعه .

(وبالجملة: فينبغي أن ينقسم الناس عنده إلى: من يعامل، ومن لا يعامل، وليكن من يعامله أقل ممن لا يعامله في هذا الزمان، قال بعضهم) ولفظ القوت: وحدثنا بعض الشيوخ، عن شيخ له من الخلف الصالح، قال: (أتى على الناس زمان، كان الرجل يدخل السوق، ويقول) ولفظ القوت: يأتي على مشيخة الأسواق، فيقول: (من ترون لي أن أعامل من الناس؟ فيقال له: عامل من شئت، ثم أتى على الناس زمان آخر، كان يقال: عامل من شئت إلا فلانا، وفلانا، ثم أتى وقت آخر، فكان يقال) ولفظ القوت: قال: ونحن في زمان، إذا قيل لنا: من نعامل من الناس؟ فيقال: (لا تعامل) أحدا (إلا فلانا، وأخشى أن يأتي زمان، يذهب هذا أيضا) زاد المصنف: (وكأنه قد كان الذي خاف أن يكون، فإنا لله وإنا إليه راجعون) .

قلت: وهذا في زمن المصنف، في آخر القرن الخامس، وقد مضى نحو ستمائة سنة الآن، وأما في زماننا، فالمصيبة أعظم مما ذكر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، اللهم اختم لنا بخير، آمين .




الخدمات العلمية