الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
مسألة .

المواضع التي بناها الظلمة كالقناطر والرباطات والمساجد والسقايات ينبغي أن يحتاط فيها وينظر ، أما القنطرة فيجوز العبور عليها للحاجة والورع الاحتراز ما أمكن وإن وجد عنه معدلا تأكد الورع .

وإنما جوزنا العبور وإن وجد معدلا لأنه إذا لم يعرف للأعيان مالك كان حكمها أن ترصد للخيرات ، وهذا خير ، فأما إذا عرف أن الآجر والحجر قد نقل من دار معلومة أو مقبرة ، أو مسجد معين ، فهذا لا يحل العبور عليه أصلا إلا لضرورة يحل بها مثل ذلك من مال الغير ، ثم يجب عليه الاستحلال من المالك الذي يعرفه .

وأما المسجد فإن بني في أرض مغصوبة أو بخشب مغصوب من مسجد آخر أو ملك معين فلا يجوز دخوله أصلا ولا للجمعة بل لو وقف الإمام فيه فليصل هو خلف الإمام ، وليقف خارج المسجد فإن الصلاة في الأرض المغصوبة تسقط الفرض ، وتنعقد في حق الاقتداء ، فلذلك جوزنا للمقتدي الاقتداء بمن صلى في الأرض المغصوبة ، وإن عصى صاحبه بالوقوف في الغصب .

وإن كان من مال لا يعرف مالكه ، فالورع العدول إلى مسجد آخر إن وجد فإن لم يجد غيره فلا يترك الجمعة والجماعة به ; لأنه يحتمل أن يكون من الملك الذي بناه ولو على بعد وإن لم يكن له مالك معين فهو لمصالح المسلمين .

ومهما كان في المسجد الكبير بناء لسلطان ظالم فلا عذر لمن يصلي فيه مع اتساع المسجد أعني في الورع ، قيل لأحمد بن حنبل ما حجتك في ترك الخروج إلى الصلاة في جماعة ونحن بالعسكر فقال :

حجتي أن الحسن وإبراهيم التيمي خافا أن يفتنهما الحجاج وأنا أخاف أن أفتن أيضا .

وأما الخلوق والتجصيص فلا يمنع من الدخول لأنه ، غير منتفع به في الصلاة ، وإنما هو زينة والأولى أنه لا ينظر إليه وأما البواري التي فرشوها فإن كان لها مالك معين فيحرم الجلوس عليها وإلا فبعد أن أرصدت لمصلحة عامة جاز افتراشها ولكن الورع العدول عنها فإنها محل شبهة .

وأما ، السقاية فحكمها ما ذكرناه وليس عن الورع الوضوء والشرب منها والدخول إليها إذا كان يخاف فوات الصلاة فيتوضأ وكذا مصانع طريق مكة .

وأما الرباطات والمدارس ، فإن كانت رقبة الأرض مغصوبة أو الآجر منقولا من موضع معين يمكن الرد إلى مستحقه فلا رخصة للدخول فيه وإن التبس المالك فقد أرصد ، لجهة من الخير والورع اجتنابه ، ولكن لا يلزم الفسق بدخوله .

، وهذه الأبنية إن أرصدت من خدم السلاطين فالأمر فيها أشد إذ ليس لهم صرف الأموال الضائعة إلى المصالح ولأن الحرام أغلب على أموالهم إذ ليس لهم أخذ مال المصالح ، وإنما يجوز ذلك للولاة وأرباب الأمر .

التالي السابق


(مسألة) أخرى ( المراصد التي بناها الظلمة في الطرق كالقناطر ) على الأنهار، (والرباطات) للصوفية، (والمساجد) لإقامة الصلوات، (والسقايات) لشرب الماء وللوضوء أيضا، (ينبغي أن يحتاط فيها وينظر، أما القنطرة فيجوز العبور عليها للحاجة) الضرورية [ ص: 153 ] (والورع الاحتراز ما أمكن وإن وجد عنه) أي: عن العبور (معدلا تأكد الورع) اقتداء ببشر الحافي رحمه الله تعالى، فإنه كان لا يعبر الجسر الغربي ببغداد الذي بناه عبد الله بن طاهر ، (وإنما جوزنا العبور وإن وجدنا معدلا لأنه إذا لم يعرف لتلك الأعيان مالكا فإن حكمه أن يرصد للخيرات، وهذا خير، فأما إذا عرف أن الآجر) وهو الطوب المطبوخ، (والحجر قد نقل من دار معلومة أو) من (مقبرة، أو) من (مسجد معين، فهذا لا يحل العبور به أصلا إلا بضرورة يحل بها مثل ذلك من مال الغير، ثم يجب عليه الاستحلال من المالك الذي يعرفه) ; لأن حقه باق ما زال، (وأما المسجد فإن بني في أرض مغصوبة أو) بني (بخشب مغصوب من مسجد آخر له مالك معين) ، وكذا العمدان والصواري، (فلا يجوز دخوله أصلا ولا للجمعة) ، أي: لصلاتها، (بل لو وقف الإمام فيه فليصل هو) مقتديا (خلف الإمام، وليقف خارج المسجد) ، ولو انقطع عن الصفوف، (فإن الصلاة في الأرض المغصوبة تسقط الفرض، وتنعقد في حق الاقتداء، فلذلك جوزنا للمقتدي الاقتداء بمن صلى في الأرض المغصوبة، وإن عصى صاحبه بالوقوف في الغصب وإن كان) بني (من مال لا يعرف مالكه، فالورع العدول) عنه (إلى مسجد آخر إن وجد) قريبا أو بعيدا، (فإن لم يجد غيره فلا يترك الجمعة والجماعة به; لأنه يحتمل أن يكون من ملك الذي بناه ولو على بعد) ، أي: ولو كان هذا الاحتمال بعيدا، (وإن لم يكن له مالك معين فهو لمصالح المسلمين) أي: حكمه حكمها، (ومهما كان في المسجد الكبير بناء لسلطان ظالم) مفروز أو غير مفروز، (فلا عذر لمن يصلي فيه مع اتساع المسجد) أي: لا يقبل عذره، ففي المحل سعة، (أعني في الورع، قيل لأحمد بن حنبل ) رحمه الله تعالى (ما حجتك) ، ولفظ القوت: قال أبو بكر المروزي قيل لأبي عبد الله : أي شيء حجتك (في ترك الخروج إلى الصلاة ونحن بالعسكر) ، وهو الموضع الذي بنى فيه المعتصم، وسماه سر من رأى، وقد نسب إليه هكذا جماعة من المحدثين وغيرهم منهم علي بن محمد بن موسى الكاظم ، يعرف هو وابنه الحسن بالعسكري، (فقال: حجتي أن الحسن) البصري ( وإبراهيم التيمي خافا أن يفتنهم الحجاج) بن يوسف الثقفي، (وأنا أخاف أن أفتن أيضا) ، لفظ القوت: وأنا أخاف أن يفتنني هذا بدنياه يعني الخليفة، (وأما الخلوق) وهو ما يتخلق به من الطيب، وقال بعض الفقهاء هو مائع في صفرة، (والتجصيص فلا يمنع من الدخول فيه، فإنه غير منتفع بها في الصلاة، وإنما هو زينة) للمسجد، (والأولى أن لا ينظر إليه) ، ولا يلتفت نحوه، (وأما البواري) جمع بوريا وهو الحصير (التي فرشوها) فيه، وكذا غيرها من الفرش، (فإن كان لها مالك معين فيحرم الجلوس عليها) إلا بعد الاستحلال; (وإلا فبعد أن أرصدت لمصالح عامة) للمسلمين (جاز افتراشها) والجلوس عليها، (ولكن الورع العدول عنها) إلى غيرها، (فإنها محل شبهة، فأما السقاية فحكمها ما ذكرنا) آنفا، (فليس من الورع الوضوء والشرب منها إلا إذا) اضطر إلى الشرب منها بأن خاف على نفسه الهلاك من العطش أو لإساغة اللقمة فيشرب منها، أو (كان يخشى فوت الصلاة فيتوضأ) منها، (وكذلك مصانع طريق مكة ) حرسها الله تعالى وهي التي بناها الظلمة من أموالهم، (فأما الرباطات والمدارس، فإن كانت الرقبة مغصوبة أو الآجر) أو الحجر أو الخشب (منقولا من موضع معين يمكن الرد على مستحقه فلا رخصة في الدخول فيها) شرعا، (فإن التبس المالك، وقد أرصدت لجهة من الخير، فالورع اجتنابها، ولكن لا يلزم الفسق بدخولها، وهذه [ ص: 154 ] الأبنية إن أرصدت من خدم السلطان) وأتباعه، (فالأمر فيها أشد إذ ليس لهم صرف الأموال الضائعة) التي ليس لها ملاك إلى المصالح، وإنما هو للسلطان، (ولأن الحرام أغلب على أموالهم إذ ليس لهم أخذ مال المصالح، وإنما يجوز ذلك للولاة وأرباب الأمر) كالسلاطين .




الخدمات العلمية