الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وتفاوت درجات الصداقة لا يخفى بحكم المشاهدة والتجربة ، فأما كون الخلة فوق الأخوة فمعناه أن لفظ الخلة عبارة عن حالة هي أتم من الأخوة وتعرفه ، من قوله صلى الله عليه وسلم : لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن صاحبكم خليل الله .

إذا الخليل هو الذي يتخلل الحب جميع أجزاء قلبه ظاهرا وباطنا ويستوعبه ولم يستوعب قلبه عليه السلام سوى حب الله وقد منعته الخلة عن الاشتراك فيه مع أنه اتخذ عليا رضي الله عنه أخا ، فقال : علي مني بمنزلة هارون من موسى إلا النبوة .

فعدل بعلي عن النبوة كما عدل بأبي بكر عن الخلة فشارك أبو بكر عليا رضي الله عنهما في الأخوة وزاد عليه بمقاربة الخلة وأهليته لها لو كان للشركة في الخلة مجال فإنه نبه عليه بقوله : لاتخذت أبا بكر خليلا وكان صلى الله عليه وسلم حبيب الله وخليله وقد روي أنه صعد المنبر يوما مستبشرا فرحا فقال : إن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا فأنا ؛ حبيب الله وأنا خليل الله تعالى .

فإذن ليس قبل المعرفة رابطة ولا بعد الخلة درجة وما سواهما من الدرجات بينهما .

التالي السابق


(وتفاوت درجات الصداقة لا تخفى بحكم المشاهدة والتجربة، فأما كون الخلة فوق الأخوة فمعناه أن لفظ الخلة عبارة عن حالة هي أتم من الأخوة، ويعرفه من قوله صلى الله عليه وسلم: لو كنت متخذا) من الخلق (خليلا) أرجع إليه في الحاجات وأعتمد عليه في المهمات (لاتخذت أبا بكر خليلا) لكن الذي ألجأ إليه وأعتمد عليه في جملة الأمور هو الله تعالى (ولكن صاحبكم خليل الله) وهو فعيل من الخلة بالفتح وهي الخصلة، فإنه تخلل بخصال حسنة اختصت به، أو من التخلل فإن الحب تخلل شغاف قلبه واستولى عليه أو من الخلة وهي الحاجة من حيث أنه -عليه السلام- ما كان يفتقر إلا إليه ولا يتوكل إلا عليه، فيكون بمعنى فاعل أو بمعنى مفعول .

قال العراقي: متفق عليه من حديث أبي سعيد. اهـ .

قلت: الحديث متواتر وقد رواه زهاء خمسة عشر من الصحابة: أبو سعيد وابن عباس والزبير وابن مسعود وجندب البجلي وأبو المعلى وأبو هريرة وأبو واقد وعائشة وأنس وابن عمر والبراء وجابر وسعد. فحديث أبي سعيد رواه البخاري في الصلاة ومسلم في المناقب كما ذكره العراقي، وحديث ابن عباس رواه البخاري في الصلاة والطبراني في الكبير بلفظ: "لو كنت متخذا من أمتي خليلا دون ربي لاتخذت أبا بكر ولكن أخي وصاحبي" وحديث الزبير رواه أحمد والبخاري وفي بعض ألفاظه زيادة: في الغار، وأما حديث ابن مسعود وجندب البجلي فرواه مسلم في المناقب بلفظ: "لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن أخي وصاحبي، وقد اتخذ الله صاحبكم خليلا" وفي بعض ألفاظه: "لاتخذت ابن أبي قحافة خليلا ولكن صاحبكم خليل الله" وفي بعض ألفاظه: "إلا أني أبرأ إلى كل خل من خلته، ولو كنت متخذا" إلخ. وأما حديث أبي المعلى وأبي هريرة وأبي واقد وعائشة فرواه الترمذي بلفظ حديث ابن مسعود عند مسلم وهو اللفظ الثاني، وقد رواه الطبراني وابن عساكر من حديث أبي واقد، وأما حديث أنس فرواه البزار، وأما حديث ابن عمر فرواه الطبراني في الكبير، وأما حديث البراء فلفظه لفظ المصنف وقد سقط ذكر مخرجه في نسختين من الجامع الكبير، وأما حديث جابر فرواه ابن عساكر بلفظ: "ولكن قولوا كما قال الله: صاحبي" وأما حديث سعد فرواه الشرازي في الألقاب بلفظ: "ولكن أخي في الدين وصاحبي في الغار" وفي القوت: وقد رفع الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- في مقام المحبة فأعطاه الخلة ليلحقه بمقام أبيه إبراهيم -عليه السلام- فكانت الخلة مزيد المحبة ومنه [ ص: 251 ] ما روي عنه -صلى الله عليه وسلم- "لو كنت متخذا من الخلق خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن صاحبكم خليل الله" (إذ الخليل هو الذي يتخلل الحب جميع أجزاء قلبه ظاهرا أو باطنا ويستوعبه ولم يكن يستوعب قلبه -صلى الله عليه وسلم- سوى حب الله تعالى وقد منعته الخلة الاشتراك فيه) أي: لما اتخذه خليلا لم يصلح أن يشترك في خلة الخلق، ثم قال: ولكن أخوة الإسلام فأوقفه الأخوة؛ لأن فيها مشاركة في الحال وإليه أشار بقوله (مع أنه) -صلى الله عليه وسلم- (اتخذ عليا -رضي الله عنه- أخا، فقال: علي مني بمنزلة هارون من موسى إلا النبوة) .

قال العراقي: متفق عليه من حديث سعد بن أبي وقاص. اهـ. قلت: ولكن لفظه: يا علي، أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي. وهكذا رواه الطيالسي وأحمد والترمذي وابن ماجه، ورواه الطبراني من حديث البراء وزيد بن أرقم معا، والطبراني أيضا من حديث أم سلمة أخرجه أبو بكر محمد بن جعفر المغيري في جزئه من حديث أبي سعيد بلفظ المصنف، وفيه: "إلا أنه لا نبي بعدي" ورواه أيضا الطبراني من حديث أسماء بنت عميس وابن عباس وحبشي بن جنادة وابن عمر وعلي وجابر بن سمرة رضي الله عنهم .

(فعدل بعلي) -رضي الله عنه- (من النبوة) في استثنائه (كما عدل بأبي بكر) -رضي الله عنه- (عن الخلة فشارك أبو بكر عليا -رضي الله عنهما- في الأخوة وزاد عليه بمقاربة الخلة وأهليته لها) ولفظ القوت بعد قوله الخلة؛ لأنه معرض لها وأهل لها (لو كان للشركة في الخلة مجال فإنه نبه عليه بقوله: لاتخذت أبا بكر خليلا) ولفظ القوت بعد إلا أن غيرة الله تعالى على خليله منعته من الشرك لخلقه في خلته إيثارا للتوحيد وقياما بشاهد الوحدانية بمعنى مقتضى صفة الربوبية. اهـ .

لكن ذكر الحافظ في فتح الباري أنه ورد من طريق أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أذن له قبل وفاته بثلاثة أيام أن يتخذ أبا بكر خليلا كما سيأتي من حديث أبي أمامة (وكان -صلى الله عليه وسلم- حبيب الله وخليله فقد روي أنه) -صلى الله عليه وسلم- (صعد المنبر يوما مستبشرا فرحا فقال:) ألا (إن الله) تبارك وتعالى (قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا؛ فإنه حبيب الله وأنا خليل الله) هكذا هو في القوت، قال العراقي: رواه الطبراني من حديث أبي أمامة بسند ضعيف دون قوله: فإنه حبيب الله وأنا خليل الله. اهـ. قلت: في سنده عبيد الله بن زهير، قال الذهبي: له صحيبة واهية ثم إن لفظ الطبراني: "إن الله تبارك وتعالى اتخذني خليلا وإن خليلي أبو بكر" والجمع بينه وبين الحديث الذي سبق أن ذلك كان قبل العلم به، ورواه ابن ماجه بعد قوله خليلا "فمنزلي ومنزل إبراهيم يوم القيامة في الجنة تجاهان والعباس بيننا مؤمن بين خليلين" وفي رواية للحاكم "علي" بدل "العباس" وفي الكل مقال .

(فإذا ليس قبل المعرفة رابطة ولا بعد الخلة درجة وما سواهما من الدرجات بينهما) ولفظ القوت: وليس قبل المعرفة اسم يوجب حكما ولا بعد الخليل وصف يعرف إلا نعت حبيب ثم تتزايد الحرمات في الأحوال ما بين المعرفة والخلة .




الخدمات العلمية