الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الباب الأول : .

في نقل المذاهب والأقاويل وذكر حجج الفريقين في ذلك .

أما المذاهب فقد اختلف فيها وظهر هذا الاختلاف بين التابعين .

فذهب إلى اختيار العزلة وتفضيلها على المخالطة : سفيان الثوري وإبراهيم بن أدهم وداود الطائي وفضيل بن عياض وسليمان الخواص ويوسف بن أسباط وحذيفة المرعشي وبشر الحافي .

وقال أكثر التابعين باستحباب المخالطة واستكثار المعارف والإخوان والتآلف والتحبب إلى المؤمنين والاستعانة بهم في الدين تعاونا على البر والتقوى ومال إلى هذا سعيد بن المسيب والشعبي وابن أبي ليلى وهشام بن عروة وابن شبرمة وشريح وشريك بن عبد الله وابن عيينة وابن المبارك والشافعي وأحمد بن حنبل وجماعة .

التالي السابق


(الباب الأول: في نقل المذاهب والأقاويل) [ ص: 330 ]

جمع قول خلاف القياس أو هو جمع الجمع (وذكر حجج الفريقين في ذلك، أما المذاهب فقد اختلف الناس فيها وظهر هذا الاختلاف بين التابعين) ولفظ القوت: وقد كانت المؤاخاة في حق الله تعالى والصحبة لأجله والمحبة له في الحضر والسفر طرائق للعاملين في كل طريق فريق لما في ذلك من الفضل، ولما جاء فيه من الأمر والندب؛ إذ كان الحب في الله -عز وجل- من أوثق عرى الإيمان وكانت الألفة والصحبة والتزاور من أحسن أسباب المتقين وقد كثرت الأخبار في تفضيل ذلك والحث عليه، على أن رأي التابعين قد اختلف في التعرف (فذهب إلى اختيار العزلة وتفضيلها على المخالطة: سفيان) بن سعيد (الثوري وإبراهيم بن أدهم) البلخي (وداود) بن نصير (الطائي والفضيل بن عياض) التميمي (وسليمان الخواص ويوسف بن أسباط) الشيباني (وحذيفة) بن قتادة (المرعشي وبشر) بن الحارث (الحافي -رضي الله عنهم-) وهؤلاء ليسوا من طبقة التابعين وإنما وافق رأيهم رأي التابعين، ويدل لذلك سياق صاحب القوت، فإنه قال بعد قوله: على أن رأي التابعين قد اختلف في التعرف، فمنهم من كان يقول: أقلل من المعارف فإنه أسلم لدينك، وأقل غدا لفضيحتك، وأخف لسقوط الحق عنك؛ لأنه يقال: كلما كثرت المعارف كثرت الحقوق، وكلما طالت الصحبة توكدت المراعاة .

وقال بعضهم: هل رأيت شرا إلا ممن تعرف فكل ما نقص من هذا فهو خير، وقال بعضهم: أنكر من تعرف ولا تتعرف إلى من لا تعرف، وممن مال إلى هذا الرأي سفيان الثوري ثم ساق ما ذكره المصنف إلى آخره ثم قال:

(وقال أكثر التابعين باستحباب المخالطة واستكثار المعارف والإخوان) في الله -عز وجل- (للتأليف والتحبب إلى المؤمنين والاستعانة بهم في الدين تعاونا على البر والتقوى) ، ولأن ذلك زين في الرخاء وعون في الشدائد، وتقدم قول بعضهم: استكثروا من الإخوان فإن لكل مؤمن شفاعة، فلعلك تدخل في شفاعة أخيك، إلى غير ذلك من الأقوال التي تقدم ذكرها في كتاب الصحبة (و) ممن (مال إلى هذا) الطريق (سعيد بن المسيب) بن حزن القرشي (وعامر) بن شراحيل (الشعبي و) عبد الرحمن (بن أبي ليلى) الأنصاري المدني ثم الكوفي (وهشام بن عروة) بن الزبير بن العوام القرشي المدني (و) عبد الله (بن شبرمة) الضبي قاضي الكوفة وعاملها (وشريح) بن الحارث القاضي أبو أمية الكندي (وشريك بن عبد الله) بن أبي عمر وهؤلاء كلهم من التابعين .

(و) ممن جاء بعدهم كسفيان (بن عيينة) الهلالي (و) عبد الله (بن المبارك) المروزي (و) محمد بن إدريس (الشافعي وأحمد بن) محمد بن (حنبل وجماعة) آخرون ممن وافقهم هكذا ساقهم صاحب القوت، وقال الشهاب السهروردي في عوارف المعارف: المقتضي للصحبة وجود الجنسية وقد يدعو إليها أعم الأوصاف وقد يدعو إليها أخص الأوصاف، فالدعاء بأعم الأوصاف كميل جنس البشر بعضهم إلى بعض، والدعاء بأخص الأوصاف كميل كل ملة بعضهم إلى بعض، ثم أخص من ذلك كميل أهل الطاعة بعضهم إلى بعض، وكميل أهل المعصية بعضهم إلى بعض، فإذا علم هذا الأصل وأن الجاذب إلى الصحبة وجود الجنسية بالأعم تارة وبالأخص أخرى فليتفقد الإنسان نفسه عند الميل إلى صحبة شخص وينظر ما الذي يميل به إلى صحبته ويزن أحوال من يميل إليه بميزان الشرع، فإن رأى أحواله مسددة فليبشر نفسه بحسن الحال فقد جعله مرآته يلوح في مرآة أخيه جمال حسن الحال، وإن رأى أفعاله غير مسددة فليرجع إلى نفسه باللوم والاتهام فقد لاح له في مرآة أخيه سوء حاله، فبالجدير أن يفر منه كفراره من الأسد فإنهما ما إذا اصطحبا ازدادا ظلمة واعوجاجا، ثم إذا علم من صاحبه الذي مال إليه حسن الحال وحكم لنفسه بحسن الحال وطالع ذلك في مرآة أخيه فليعلم أن الميل بالوصف الأعم مركوز في جبلته، والميل بطريقه واقع، وله بحسبه أحكام وللنفس بسببه سكون وركون فليستلب الميل بالوصف الأعم جدوى الميل بالوصف الأخص، ويصير بين المصاحبين استردادات طبيعية وتلذذات جبلية لا يفرق بينها وبين الصحبة لله -عز وجل- إلا العلماء الزاهدون، وقد ينفسد المريد الصادق بأهل الصلاح أكثر مما ينفسد بأهل الفساد، ووجه ذلك أن أهل الفساد علم فساد طريقتهم فأخذ حذره منهم، وأهل الصلاح غره [ ص: 331 ] صلاحهم فمال إليهم بجنسية الصلاحية ثم حصل بينهم استرواحات طبيعية جبلية حالت بينهم وبين حقيقة الصحبة لله تعالى، فاكتسب من طريقتهم الفتور والتخلف عن بلوغ الأرب، فليتنبه الصادق لهذه الدقيقة، ويأخذ من الصحبة أخص الأقسام، ويذر منها ما يسد في وجهه المرام .

ولهذا المعنى أنكرت طائفة من السلف الصحبة ورأوا فضيلة العزلة والوحدة كإبراهيم بن أدهم وداود الطائي وفضيل بن عياض وسليمان الخواص، وحكي عنه أنه قيل له: جاء إبراهيم بن أدهم، أما تلقاه؟ قال: لأن ألقى سبعا ضاريا أحب إلي من أن ألقى إبراهيم، قيل: ولم؟ قال: لأني إذا رأيته أحسن له كلامي فتظهر نفسي بإظهار أحسن أحوالها وفي ذلك الفتنة، وهذا كلام عالم بالنفس وأخلاقها، وهذا واقع بين المتصاحبين إلا من عصم الله تعالى.

ثم قال: وقد رغب جمع من السلف في الصحبة والأخوة في الله تعالى ورأوا أن الله تعالى من على أهل الإيمان حيث جعلهم إخوانا ثم ساق الآية هو الذي أيدك بنصره إلى قوله: "بينهم" ثم قال: وقد اختار الأخوة والصحبة في الله سعيد بن المسيب وعبد الله بن المبارك وغيرهما .



وفائدة الصحبة أنها تفتح مسام الباطن ويكتسب الإنسان بها علم الحوادث والعوارض، ويتصلب الباطن برزين العلم، ويتمكن الصدق بطرو وهبوب الآفات، ثم التخلص منها بالإيمان، ويقع بطريق الصحبة والأخوة التعاضد والتعاون وتتقوى جنود القلب وتتروح الأرواح بالتشام، ويتفق في التوجه إلى الرفيق الأعلى، ويصير مثالها في الشاهد كالأصوات إذا أجمعت خرقت الأجرام، وإذا انفردت قصرت عن بلوغ المرام اهـ .

وقال النووي: اختلف العلماء في العزلة والاختلاط أيهما أفضل: فمذهب الشافعي والأكثرين تفضيل الخلطة لما فيها من اكتساب الفوائد وشهود شعائر الإسلام وتكثير سواد المسلمين وإيصال الخير إليهم والتعاون على البر والتقوى وإغاثة المحتاج، فإن كان صاحب علم أو زهد تأكد فضل اختلاطه. وذهب آخرون إلى تفضيل العزلة لما فيها من السلامة المحققة لكن بشرط أن يكون عارفا بوظائف العبادة التي تلزمه، وقال الكرماني في شرح البخاري: المختار في عصرنا تفضيل الاعتزال لندور خلو المحافل من المعاصي، وقال البدر العيني: أنا موافق له فيما قال؛ فإن الاختلاط مع الناس في هذا الزمان لا يجلب إلا الشرور، وقال أبو البقاء الأحمدي: وأنا أقول بأفضلية العزلة لبعدها عن الرياء في العمل وخلو الخاطر وشهود سر الوجدانية في الأزل .

قلت: وأنا موافق لما قالوا من تفضيل العزلة لفساد الزمان والإخوان والله المستعان .




الخدمات العلمية