الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الخامس السماع : في أوقات السرور تأكيدا للسرور وتهييجا له وهو مباح إن كان ذلك السرور مباحا كالغناء في أيام العيد ، وفي العرس وفي وقت قدوم الغائب وفي وقت الوليمة والعقيقة وعند ، ولادة المولود وعند ختانه ، وعند حفظه القرآن العزيز .

، وكل ذلك مباح لأجل إظهار السرور به .

، ووجه جوازه أن من الألحان ما يثير الفرح والسرور والطرب ، فكل ما جاز السرور به جاز إثارة السرور فيه .

ويدل على هذا من النقل إنشاد النساء على السطوح بالدف والألحان عند قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم .


طلع البدر علينا من ثنيات الوداع     وجب الشكر علينا
ما دعا لله داع

فهذا إظهار السرور لقدومه صلى الله عليه وسلم وهو سرور محمود ، فإظهاره بالشعر والنغمات والرقص والحركات أيضا محمود .

فقد نقل عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم أنهم حجلوا في سرور أصابهم .

كما سيأتي في أحكام الرقص وهو جائز في قدوم كل قادم يجوز الفرح به ، وفي كل سبب مباح من أسباب السرور .

ويدل ، على هذا ما روي في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لقد : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد حتى أكون أنا الذي أسأمه .

فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو إشارة إلى طول مدة وقوفها .

وروى البخاري ومسلم أيضا في صحيحهما حديث عقيل عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن أبا بكر رضي الله عنه دخل عليها وعندها جاريتان في أيام منى تدففان وتضربان والنبي صلى الله عليه وسلم متغش بثوبه فانتهرهما أبو بكر رضي الله عنه فكشف النبي صلى الله عليه وسلم عن وجهه وقال : دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد وقالت عائشة رضي الله عنها رأيت صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة وهم يلعبون في المسجد ، فزجرهم عمر رضي الله عنه فقال النبي صلى الله عليه وسلم أمنا يا بني أرفدة .

يعني من الأمن ومن حديث عمرو بن الحارث عن ابن شهاب نحوه وفيه تغنيان وتضربان .

وفي حديث أبي طاهر .

عن ابن وهب والله لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم على باب حجرتي والحبشة يلعبون بحرابهم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسترني بثوبه أو بردائه لكي أنظر إلى لعبهم ثم يقوم من أجلي حتى أكون أنا الذي انصرف .

وروي عن عائشة رضي الله عنها قالت : كنت ألعب بالبنات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: وكان يأتيني صواحب لي فكن يتقنعن من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسر لمجيئهن إلي فيلعبن معي .

وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها يوما ما هذا قالت بناتي : قال : فما هذا الذي أرى في وسطهن ? قالت : فرس ، قال : ما هذا الذي عليه ? قالت جناحان قال : فرس له جناحان ؟! قالت أوما : سمعت أنه كان لسليمان بن داود عليه السلام خيل لها أجنحة ? قالت : فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه والحديث محمول عندنا على عادة الصبيان في اتخاذ الصورة من الخزف والرقاع من غير تكميل صورته ، بدليل ما روي في بعض الروايات أن الفرس كان له جناحان من رقاع .

وقالت عائشة رضي الله عنها دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث فاضطجع على الفراش وحول وجهه فدخل أبو بكر رضي الله عنه فانتهرني وقال مزمار الشيطان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : دعهما ، فلما غفل غمزتهما فخرجتا .

وكان يوم عيد يلعب فيه السودان بالدرق والحراب فإما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما قال تشتهين تنظرين فقلت : نعم فأقامني وراءه وخدي على خده ويقول دونكم يا بني أرفدة حتى إذا مللت قال : حسبك قلت : نعم ، قال : فاذهبي وفي صحيح مسلم فوضعت رأسي على منكبه فجعلت أنظر إلى لعبهم حتى كنت أنا الذي انصرفت .

فهذه الأحاديث كلها في الصحيحين وهو نص صريح في أن الغناء واللعب ليس بحرام .

التالي السابق


(الخامس: في أوقات السرور تأكيدا للسرور وتهييجا له وهو مباح إن كان ذلك السرور مباحا كالغناء في أيام العيد، وفي العرس) أي: الدخول بالمرأة، (وفي وقت قدوم الغائب) من سفره (و) في (وقت الوليمة والعقيقة، وكذلك عند ولادة المولود وعند ختانه، وعند حفظ القرآن، وكل ذلك معتاد لإظهار السرور، ووجه جوازه أن من الألحان ما يثير الفرح والسرور والطرب، فكل ما جاز السرور به جاز إنارة السرور فيه، ويدل على هذا من النقل إنشاد النساء بالدف والألحان عند قدوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم-) المدينة:


(طلع البدر علينا من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا
ما دعا لله داع)



قال العراقي: رواه البيهقي في الدلائل من حديث ابن عائشة معضلا وليس فيه ذكر الدف والألحان. اهـ .

قلت: هو في الخلفيات، وفيه ذكر الدف ويروى بزيادة:

أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع



(فهذا إظهار السرور بقدومه) وكانوا ينتظرونه (وهو سرور محمود، فإظهاره بالشعر والنغمات والرقص والحركات أيضا محمود، فقد نقل عن جماعة من الصحابة أنهم حجلوا في سرور أصابهم) . ورواه أبو داود من حديث علي (كما سيأتي) في الباب الثاني (في أحكام الرقص) قريبا، (وهو جائز في قدوم كل غائب قادم يجوز الفرح به، وفي كل سبب مباح من أسباب السرور، يدل على هذا ما روي في الصحيحين) البخاري ومسلم (عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة [ ص: 490 ] يلعبون) أي: بالحراب والدرق (في المسجد حتى أكون أنا التي أسامه فاقدروا) بضم الدال وكسرها لغتان حكاهما الجوهري وغيره، وهو من التقدير أي: قدروا في أنفسكم (قدر) رغبتهن تكون بهذه الصفة، وهي (الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو) أي: حداثة السن والحرص على اللهو ولا مانع لها من ذلك متى تشتهي (إشارة إلى طول مدة وقوفها) لذلك، ومن المعلوم أن من كانت بهذه الصفة تحب اللهو والتفرج والنظر إلى لعب حبا بليغا وتحرص على إدامته ما أمكنها ولا تمل ذلك إلا بعد زمن طويل .

قال العراقي: هو كما ذكره المصنف في الصحيحين. اهـ .

قلت: أخرجه البخاري من طريق معمر، وفيه بعد قوله: الحديثة السن تسمع اللهو، وأخرجه أيضا من طريق صالح بن كيسان، وفيه: والحبشة يلعبون في المسجد ولم يذكر ما بعده، وأخرجه أيضا تعليقا، ومسلم مسندا من طريق يونس بن زيد، وفيه: حريصة على اللهو. وذلك عند مسلم وليس عند البخاري، فإنه إنما ساق الرواية المعلقة مختصرة، وأخرجه البخاري أيضا من طريق الأوزاعي مثل سياق المصنف، وأخرجه مسلم والنسائي من طريق عمرو بن الحارث، وفيه: فاقدروا قدر الجارية العربية الحديثة السن. خمستهم عن الزهري عن عروة عن عائشة، وله طرق أخرى تركتها اختصارا، ورواه أحمد بلفظ: فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو، وسيأتي قريبا .

(وروى مسلم والبخاري في حديث عقيل) بالتصغير هو ابن خالد بن عقيل كأمير- الأيلي يكنى أبا خالد الأموي مولى عثمان بن عفان، قال أحمد والنسائي: ثقة، وقال ابن معين: أثبت من روى عن الزهري مالك ثم معمر ثم عقيل، وعنه أيضا: أثبت الناس في الزهري مالك ومعمر ويونس وعقيل وشعيب بن أبي حمزة وسفيان بن عيينة، وقال أبو زرعة: عقيل صدوق ثقة، مات بمصر سنة إحدى وأربعين ومائة .

روى له الجماعة (عن الزهري) هو أبو بكر محمد بن مسلم بن عبيد بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة المدني تقدمت ترجمته مرارا (عن عروة) بن الزبير بن العوام القرشي تقدمت ترجمته مرارا (عن عائشة -رضي الله عنها- أن أبا بكر -رضي الله عنه- دخل وعندها جاريتان في أيام منى تدففان وتضربان والنبي -صلى الله عليه وسلم- متغش بثوبه) أي: مخمر وجهه (فانتهرهما) أي: زجرهما (أبو بكر فكشف النبي -صلى الله عليه وسلم- عن وجهه فقال: دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد) .

قال العراقي: هو كما ذكر المصنف في الصحيحين لكن قوله: إنه فيهما من رواية عقيل عن الزهري ليس كما ذكر بل هو عند البخاري كما ذكر عند مسلم من رواية عمرو بن الحارث عنه. اهـ .

قلت: أخرجه البخاري في سنة العيد، وفي أبواب متفرقة من طرق، وفي بعضها ما سيأتي للمصنف قريبا، وأخرجه مسلم في العيد وأخرجه النسائي في عشرة النساء، ووجه التمسك بهما أنهما غنتا بحضرته الشريفة، وزجر أبا بكر عن الإنكار عليهما ولم ينهه عن سماعهما، فدل ذلك على جوازه وإباحته، (وقالت عائشة -رضي الله عنها- رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسترني وأنا أنظر إلى الحبشة وهم يلعبون في المسجد، فزجرهم عمر -رضي الله عنه- فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- أمنا يا بني أرفدة) يعني: من الأمن، قال العراقي: تقدم قبله بحديث دون زجر عمر لهم إلى آخره، فرواه مسلم من حديث أبي هريرة دون قوله: أمنا يا بني أرفدة بل قال: دعهم يا عمر. زاد النسائي: فإنما هم بنو أرفدة، ولهما من حديث عائشة: دونكم يا بني أرفدة، وقد ذكره المصنف بعد هذا .

(وفي حديث عمرو بن الحارث) بن يعقوب بن عبد الله الأنصاري أبي أمية المصري المدني الأصل مولى قيس بن سعد بن عبادة كان قارئا فقيها مفتيا، روى (عن) بكر بن سوادة وبكير بن الأشجع وثمامة بن شقي، وجعفر بن ربيعة وأبيه الحارث وحيان بن واسع وربيعة الرأي، وسالم أبي النضر وسعيد بن الحارث الأنصاري وسعيد بن أبي هلال وعامر بن يحيى المعافري وعبد ربه بن سعيد وعبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وعبيد الله بن أبي جعفر، وعمارة بن غزية وقتادة وكعب بن علقمة، وأبي الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل، ومحمد بن مسلم (بن شهاب) الزهري وهشام بن عروة ويحيى الأنصاري، ويزيد بن أبي حبيب ويونس بن يزيد الأيلي وأبي حمزة بن سليم، وأبي الزبير المكي وأبي يونس مولى أبي هريرة روى عنه بكر وعبد الله بن وهب وهو راويته وموسى بن أعين الجزري ذكره [ ص: 491 ] خليفة في الطبقة الثالثة من التابعين من أهل مصر وابن سعد في الرابعة، وقال: كان ثقة إن شاء الله .

وقال أبو داود: سمعت أحمد يقول: ليس فيهم -يعني أهل مصر- أصح حديثا من الليث، وعمرو بن الحارث يقاربه، وثقه ابن معين وأبو زرعة والعجلي والنسائي وغيرهم، مات سنة ثمان وأربعين ومائة عن ثمان وخمسين سنة، روى له الجماعة (نحوه) يريد المساواة في أصل المعنى مع اختلاف اللفظ، فإذا اتفق اللفظان قالوا مثله، (وفيه تغنيان وتضربان) .

قال العراقي: رواه مسلم وهو عند البخاري من رواية الأوزاعي عن ابن شهاب قلت: أخرجه صاحب العوارف من طريق عمر بن الخطاب عن الأوزاعي وفيه: تغنيان وتضربان بدفين، ولمسلم في العيد: تغنيان وتدففان وتضربان.

(وفي حديث أبي الطاهر) أحمد بن عمرو بن عبد الله بن عمرو بن الصرح القرشي الأموي المصري مولى نهيك مولى عتبة بن أبي سفيان قال النسائي: ثقة، قال ابن يونس: كان فقيها من الصالحين الأثبات، توفي سنة خمسين ومائتين روى عنه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه (عن ابن وهب) هو أبو محمد عبد الله بن وهب بن مسلم القرشي الفهري مولاهم المصري، وثقه ابن معين وأبو زرعة، وقال ابن حبان جمع وصنف وحفظ على أهل الحجاز ومصر حديثهم وعني بجمع ما رواه من المسانيد والمقاطيع، وكان من العباد، وقال ابن عدي: من أجلة الناس ومن ثقاتهم، وقال يونس بن عبد الأعلى: عرض على ابن وهب القضاء فجفا نفسه ولزم البيت فاطلع عليه رشدين بن سعد وهو يتوضأ في صحن داره فقال له: يا أبا محمد لم لا تخرج إلى الناس تقضي بينهم بكتاب الله وسنة رسوله؟ فرفع رأسه إليه وقال: إلى هنا انتهى عقلك، أما علمت العلماء يحشرون مع الأنبياء - عليهم السلام- وإن القضاة يحشرون مع السلاطين؟ وقال خالد بن خداش: قرئ على ابن وهب كتاب أهوال القيامة - يعني من تصنيفه- فخر مغشيا عليه فلم يتكلم بكلمة حتى مات بعد أيام سنة سبع وتسعين ومائة روى له الجماعة .

(والله لقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) فيه الحلف لتوكيد الأمر وتقويته (يقوم على باب حجرتي) أرادت بها منزلها، وكلام بعضهم يقتضي أن أصلها حظيرة الإبل (والحبشة) بالتحريك ويقال: فيهم حبش بغير هاء، وقال صاحب الحكم وقالوا: الحبشة وليس بصحيح في القياس; لأنه لا واحد له، على مثال فاعل فيكون مكسرا على فعلة (يلعبون بحرابهم) ودرقهم (في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) فيه جواز اللعب بالسلاح ونحوه من آلات الحرب في المسجد كما سيأتي، (وهو يسترني بردائه لكي أنظر إلى لعبهم) ، وفيه جواز نظر النساء إلى لعب الرجال.

قال ابن بطال: وقد يمكن أن يكون تركه إياها لتنظر إلى اللعب بالحراب لتضبط السنة في ذلك وتنقل تلك الحركات المحكمة إلى بعض من يأتي من أبناء المسلمين وتعرفهم بذلك، واستدل به على جواز نظر المرأة للرجل، وفيه لأصحاب الشافعي أوجه أحدها: وهو الذي صححه الرافعي جوازه فتنظر جميع بدنه إلا ما بين السرة والركبة، والثاني: لها أن تنظر ما يبدو في المهنة فقط، وهذا الحديث محتمل للوجهين، والثالث: وهو الذي صححه النووي تبعا لجماعة تحريم نظرها إليه كما يحرم نظره إليها، واستدل هؤلاء بقوله تعالى: وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن وبقوله -صلى الله عليه وسلم- لأم سلمة وأم حبيبة -رضي الله عنهما- احتجبا عنه أي: عن ابن أم مكتوم، فقالتا: إنه أعمى لا يبصرنا فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه. رواه الترمذي، وغيره وحسنه هو وغيره وأجابوا عن حديث عائشة هذا بجوابين: أحدهما: أنه ليس فيه أنها نظرت إلى وجوههم وأبدانهم وإنما نظرت إلى لعبهم وحرابهم، ولا يلزم من ذلك تعمد النظر إلى البدن، وإن وقع بلا قصد صرفته في الحال، والثاني: لعل هذا كان قبل نزول الآية في تحريم النظر أو أنها كانت صغيرة قبل بلوغها لم تكن مكلفة على قول من يقول: الصغير المراهق لا يمنع النظر، ولا يخفى أن محل الخلاف فيما إذا كان النظر بغير شهوة ولا خوف فتنة، فإن كان كذلك حرم قطعا .

(ثم يقوم من أجلي حتى أكون أنا التي انصرف) فيه بيان ما كان عليه -صلى الله عليه وسلم- من الرأفة والرحمة وحسن الخلق ومعاشرة الأهل بالمعروف. وذلك من أوجه سيأتي ذكر بعضها في سياق المصنف قريبا .

قال العراقي: هذا الحديث رواه مسلم أيضا. انتهى .

قلت: ورواه [ ص: 492 ] أيضا أحمد والنسائي ولفظهما بعد قوله: لأنظر إلى لعبهم بين أذنه وعاتقه. وزادا بعد قوله: انصرف فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن الحريصة للهوى، وعند الشيخين: الحريصة على اللهو، وفي رواية لمسلم: الجارية العربة وهي المشتهية للعب المحبة له، ومعنى الحريصة للهوى أنها حريصة على تحصيل ما تهواه نفسها من اللعب واللهو، ولم تتصف بالحرص لأجل محبة المال كما يعهد من غيرها، فإنها لم تكن بتلك الصفة وما كان حرصها إلا كحرص الصغار على تحصيل ما تهوى نفسها من النظر إلى اللعب .

ورواية الصحيحين: الحريصة على اللهو أظهر توجيها وهو منصوب على الحال، وفي رواية البخاري: الحديثة السن تسمع اللهو يعني أن حداثة سنها مع سماع اللهو ويوجب ملازمتها له، فما ظنك برؤية اللهو التي هي أبلغ من سماعه .

(وروي عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: كنت ألعب عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان تأتيني صواحبات لي فكن يستحيين) ، وفي نسخة: ينقمعن (من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يسربهن إلي فيلعبن معي) .

قال العراقي: هو في الصحيحين كما ذكر المصنف ولكن مختصرا. اهـ .

قلت: روياه من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، وفي لفظ لمسلم: وهي اللعب، ورواه أحمد بلفظ: كنت ألعب بالبنات فتأتيني صواحبي فإذا دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فررن منه فيأخذهن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيردهن إلي.

قال القرطبي في شرح مسلم: البنات جمع بنت وهن الجواري وأضيفت اللعب وهي جمع لعبة وهو ما يلعب به البنات; لأنهن اللواتي يصنعنها ويلعبن بها، وقال الولي العراقي: المراد بالبنات هنا نفس اللعب وتسميتهن بذلك من مجاز التشبيه الصوري كتسمية المنقوش في الحائط أسدا، والله أعلم، وقال القاضي عياض في شرح مسلم: فيه جواز اللعب بهن، قال: وهن مخصوصات من الصور المنهي عنها لهذا الحديث، ولما فيه من تدريب النساء في صغرهن لأمر أنفسهن وبيوتهن وأولادهن، (وفي رواية) أخرى (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لها) يوما: (ما هذا) يا عائشة؟ (قالت: بنياتي) بالتصغير وفي نسخة: "بناتي"، (قال: فما هذا الذي أرى في وسطهن؟ قالت: فرس، قال: ما هذا الذي عليه؟ قالت: جناحات، فقال: فرس له جناحات؟! قالت: أوما سمعت أنه كان لسليمان بن داود) -عليهما السلام- (خيل لها أجنحة؟ قالت: فضحك النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى بدت نواجذه) .

قال العراقي: وهذه ليست في الصحيحين، وإنما رواها أبو داود بإسناد صحيح. انتهى .

(والحديث محمول عندنا) معاشر الشافعية (على عادة الصبيان في اتخاذ اللعب من الخرق والرقاع من غير تكميل صورة، بدليل ما روي في بعض الروايات أن الفرس كان له جناحان من رقاع) . وقال القاضي عياض: وقد أجاز العلماء بيعهن وشراءهن، وروي عن مالك كراهة شرائهن، وهذا محمول على كراهة الاكتساب بها وتنزيه ذوي المروءات من تولي بيع ذلك لا كراهة اللعب. قال: ومذهب جمهور العلماء جواز اللعب بهن، وقال طائفة: هو منسوخ بالنهي عن الصور . اهـ .

قال الولي العراقي في شرح التقريب: ومقتضاه استثناء ذلك من امتناع الملائكة من دخول البيت الذي فيه صورة وقد يقال: فيه مثل الخلاف الذي بين الخطابي والنووي في الكلب المأذون في اتخاذه هل تمتنع الملائكة من دخول البيت الذي هو فيه؟ فقال الخطابي: لا، وقال النووي: نعم، وفي اطراد مثل ذلك هنا نظر، إذ لو كان كذلك لمنع النبي -صلى الله عليه وسلم- دخول مثل هذه الصور في بيته، وإن كان اللعب بها مباحا ... كرهه على دخول الملائكة البيوت ذلك وإن ذلك لا بد لهم منه والله أعلم .

( وقالت عائشة - رضي الله عنها- دخل علي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث) وفي رواية: من جواري الأنصار تغنيان بما تناولت به الأنصار يوم بعاث، وبعاث كغراب موضع بالمدينة، قال البكري: على ليلتين منها، وتأنيثها أكثر، ويوم بعاث من أيام الأوس والخزرج بين البعثة والهجرة، وكان الظفر للأوس، قال الأزهري: هكذا ذكره بالعين المهملة الواقدي ومحمد بن إسحاق وصححه الليث فجعله بالغين المعجمة، وقال القالي في باب العين المهملة: يوم بعاث في الجاهلية للأوس والخزرج بضم الباء، قال: هكذا سمعنا من مشايخنا، وهذه عبارة ابن دريد أيضا، (فاضطجع على الفراش وحول وجهه) عنهما (ودخل أبو بكر) -رضي الله عنه- (فانتهرني) أي: زجرني (وقال [ ص: 493 ] مزمارة الشياطين عند النبي -صلى الله عليه وسلم-؟) وهو استفهام إنكاري .

(فأقبل عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: دعهما، فلما غفل غمزتهما فخرجتا وكان يوم عيد) وفي لفظ: أمزامير الشيطان في بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يا أبا بكر إن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا.

أخرجه البخاري في أبواب متفرقة، وفي بعضها: أنه دخل عليها في يوم عيد فطر أو أضحى، وعندها قينتان تغنيان وتدففان، وفي هذه الطريق: فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: دعهما. وأخرجه مسلم في العيد والنسائي في عشرة النساء (يلعب فيه السودان) وهم الحبشة (بالحراب والدراق فإما سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإما قال) ابتداء (تشتهي) يا عائشة (تنظرين) إلى لعبهم (فقلت: نعم فأقامني وراءه وخدي على خده) ، وفي رواية أحمد والنسائي: بين أذنه وعاتقه، (ويقول دونكم يا بني أرفدة) وهو لفظ الصحيحين كما تقدمت الإشارة إليه (حتى إذا مللت قال: حسبك) أي: كفاك، (قلت: نعم، قال: فاذهبي) رواه البخاري ومسلم، وفي صحيح مسلم خاصة: فوضعت رأسي على منكبه فجعلت أنظر إلى لعبهم حتى كنت أنا التي انصرفت. ولا تنافي بين الروايتين المذكورتين وبين رواية أحمد والنسائي المذكورة أيضا، فإنها إذا وضعت رأسها على منكبه صارت بين أذنه وعاتقه، فإن تمسكت في ذلك صار خدها على خده .

(فهذه الأحاديث كلها في الصحيحين) سوى بعض الذي أشرنا إليه أنه ليس فيهما، (وهي نص صريح في أن الغناء واللعب ليسا بحرام) ، وقد بقي على المصنف ذكر أحاديث أخر تمسك بها القائلون بإباحة الغناء واللعب، منها ما أخرجه البخاري في باب الضرب بالدف في النكاح من حديث الربيع بنت معوذ -رضي الله عنها- قالت: جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- فدخل حين بنى علي فجلس على فراشي كمجلسك مني، فجعلت جويريات لنا يضربن بالدف ويندبن مم قتل من آبائي إذ قالت إحداهن:

وفينا نبي يعلم ما في غد

فقال -صلى الله عليه وسلم-: دعي هذا وقولي التي كنت تقولين.
وأخرجه الترمذي عن حميد بن مسعدة البصري عن بشر بن الفضل عن خالد عن ذكوان عن الربيع بنت معوذ قال: حديث حسن صحيح. وأخرجه أبو داود عن بشر بن المفضل، وأخرجه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن يزيد بن هارون عن حماد بن سلمة عن أبي الحسن المدائني قال: كنا بالمدينة يوم عاشوراء والجواري يندبن بالدف ويغنين، فدخلنا على الربيع بنت معوذ فذكرنا ذلك لها فقالت: دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صبيحة عرسي وعندي جاريتان تغنيان وتندبان آبائي الذين قتلوا يوم بدر وتقولان فيما تقولان:

وفينا نبي يعلم ما في غد

فقال: أما هذا فلا تقولا، لا يعلم ما في غد إلا الله،
وقد تقدم للمصنف في كتاب النكاح وسيأتي في آخر هذا الكتاب .

ومنها ما أخرجه البخاري في الصحيح من حديث عائشة -رضي الله عنها- أنها زفت امرأة إلى رجل من الأنصار فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- : يا عائشة ما كان معكم من اللهو؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو. وأخرجه ابن ماجه من حديث ابن عباس قال: أنكحت عائشة قرابة لها من الأنصار فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: أهديتم الفتاة؟ قالوا: نعم، قال: أرسلتم معها من يغني؟ قالت: لا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن الأنصار فيهم غزل فلو بعثتم معها من يقول:


أتيناكم أتيناكم فحيانا وحياكم



وقال ابن دقيق العيد في اقتناص السوانح بسنده إلى عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال لها: ما فعلت فلانة ليتيمة كانت عندها، فقالت: أهديتها إلى زوجها، قال: فهلا بعثتم معها بجارية تضرب الدف وتغني؟ قالت: تقول ماذا؟ قال تقول:


أتيناكم أتيناكم فحيانا وحياكم



وقال الحافظ أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي: أخبرنا أبو إسحاق وإبراهيم بن محمد الأصفهاني بها حدثنا إبراهيم بن عبد الله التاجر، حدثنا الحسين بن إسماعيل المحاملي، حدثنا أبو حمزة الزبير بن خالد، حدثنا صفوان بن فهيرة أبو عبد الرحمن البصير عن ابن جريج قال: أخبرني أبو الأصبغ أن جميلة أخبرته أنها سألت جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- عن الغناء فقال: نكح بعض الأنصار بعض أهل عائشة -رضي الله عنها- وأهدتها إلى فتى، فقال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أهديت عروسك؟ قالت: نعم، قال: فأرسلت معها بغناء؟ فإن [ ص: 494 ] الأنصار يحبونه؟ قالت: لا، قال: فأدركيها يا زينب -امرأة كانت تغني بالمدينة-.

ورواه أبو الزبير عن جابر كذلك، ومنها أخرجه النسائي في باب إطلاق الرجل لزوجته سماع الغناء والضرب بالدف فقال: أخبرنا هارون بن عبد الله، حدثنا مكي بن إبراهيم، حدثنا الجعيد هو ابن عبد الرحمن عن يزيد بن خصيفة عن السائب بن زيد أن امرأة جاءت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا عائشة أتعرفين هذه؟ فقالت: لا يا نبي الله، قال: هذه قينة بني فلان تحبين أن تغنيك فغنتها، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: قد نفخ الشيطان في منخريها. وإسناده صحيح .

وأخرجه الطبراني في الكبير عن أحمد بن داود المكي عن علي بن حجر عن المكي عن الجعيد بلفظ: تحبين أن تغنيك؟ فقالت: نعم، فغنتها. ومنها ما أخرجه الحافظ أبو ذر الهروي فقال: أخبرنا أحمد بن إبراهيم بن الحسن قراءة عليه حدثنا عبد الله بن سليمان، حدثنا هارون بن إسحاق، حدثنا محمد وهو ابن عبد الوهاب عن سفيان عن أبي إسحاق عن عامر بن سعد أنه أتى أبا مسعود وقرظة بن كعب وثابت بن يزيد وعندهم غناء، فقلت لهم: ما هذا وأنتم أصحاب محمد؟! قالوا: إنه رخص لنا الغناء في العرس، قال: وأخبرنا أيضا عبد الرحمن بن عمر الخلال، حدثنا الحسين بن إسماعيل المحاملي، حدثنا هارون بن إسحاق فذكره، وهذا الحديث من جملة الأحاديث التي ألزم الدارقطني الشيخين إخراجهما إياه في كليهما .

وأخرجه أبو بكر بن أبي شيبة في المصنف عن شريك عن أبي إسحاق عن عامر بن سعد، وأخرجه الحاكم في المستدرك وفيما أنه رخص لنا في الغناء في العرس والبكاء على الميت من غير نياحة، وقال: صحيح على شرطهما. ولم يخرجاه وأخرجه النسائي في السنن وفيه: فإن شئت فأقم وإن شئت فاذهب أنه رخص لنا في اللهو عند العرس، ورواه ابن قتيبة في كتاب الرخصة في السماع بسنده إلى عامر بن سعد قال: دخلت على أبي مسعود الأنصاري وقرظة بن كعب وجوار يغنين بدفوف لهن فقلت: تفعلون هذا وأنتم أصحاب محمد؟! فقالوا: نعم، رخص لنا في ذلك.

ومنها ما أخرجه ابن ماجه في السنن فقال: حدثنا هشام بن عمار، حدثنا عيسى بن يونس، حدثنا عوف عن ثمامة بن عبد الله عن أنس بن مالك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مر ببعض أزقة المدينة، فإذا هو بجوار يضربن بدفهن ويغنين ويقلن:


نحن جوار من بني النجار يا حبذا محمد من جار



فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- الله يعلم أني لأحبكن.


ومنها ما أخرجه الترمذي من رواية بريدة بن الحصيب -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما رجع من مغازيه جاءته جارية سوداء فقالت: يا رسول الله إني كنت نذرت إن ردك الله سالما أن أضرب بالدف بين يديك وأتغنى، فقال لها: إن كنت نذرت فاضربي وإلا فلا، فجعلت تضرب، فدخل أبو بكر وهي تضرب ثم دخل عثمان وهي تضرب، ثم عمر فألقت الدف تحت استها وقعدت عليه، فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: إن الشيطان يخاف منك يا عمر. الحديث، وقال: حسن صحيح، وأخرجه البيهقي كذلك من هذا الوجه، وأخرجه أبو داود فقال: حدثنا مسدد حدثنا الحارث بن عبيد عن عبد الله الأخنس عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن امرأة أتت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف، فقال: أوفي بنذرك، ومنها ما رواه الترمذي وابن ماجه، فقال الترمذي، حدثنا أحمد بن منيع وقال ابن ماجه، حدثنا عمرو بن رافع قالا: حدثنا هشيم، حدثنا أبو مليح عن محمد بن طالب الجمحي قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: فصل ما بين الحلال والحرام الدف والصوت. قال: وفي الباب عن عائشة وجابر والربيع بنت معوذ، وحديث محمد بن حاطب حديث حسن. وقد أخرجه كذلك أحمد والنسائي وصححه الحاكم، وهو من جملة الأحاديث التي ألزم الدارقطني مسلما إخراجه، وقال: هو صحيح، فهذه الأحاديث التي ذكرناها كذلك يستدل بها على الإباحة إما مطلقا وإما في النكاح، ونقيس عليه غيره ولا ينصرف عن ذلك إلا بدليل يمنع منه .




الخدمات العلمية