الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : لا يقيم أمر الناس إلا حصيف العقل، أريب العقد، لا يطلع منه على عورة ولا يخاف منه على حرة ولا تأخذه في الله لومة لائم .

وقال الأمراء أربعة : فأمير قوي ظلف نفسه وعماله ، فذلك كالمجاهد في سبيل الله ، يد الله باسطة عليه بالرحمة ، وأمير فيه ضعف ظلف نفسه وأرتع عماله لضعفه فهو على شفا هلاك إلا أن يرحمه الله وأمير ظلف عماله وأرتع نفسه فذلك الحطمة الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : شر الرعاة الحطمة فهو الهالك وحده، وأمير أرتع نفسه وعماله فهلكوا جميعا .

وقد بلغني يا أمير المؤمنين أن جبرائيل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أتيتك حين أمر الله بمنافخ النار فوضعت على النار تسعر ليوم القيامة فقال له : يا جبريل صف لي النار ، فقال : إن الله تعالى أمر بها فأوقد عليها ألف عام حتى احمرت ثم أوقد عليها ألف عام حتى اصفرت ثم أوقد عليها ألف عام حتى اسودت فهي سوداء مظلمة لا يضيء جمرها ولا يطفأ لهبها والذي بعثك بالحق لو أن ثوبا من ثياب أهل النار أظهر لأهل الأرض لماتوا جميعا ولو أن ذنوبا من شرابها صب في مياه الأرض جميعا لقتل من ذاقه ، ولو أن ذراعا من السلسلة التي ذكرها الله وضع على جبال الأرض جميعا لذابت وما استقلت ولو أن رجلا أدخل النار ثم أخرج منها لمات أهل الأرض من نتن ريحه وتشويه خلقه وعظمه ، فبكى النبي صلى الله عليه وسلم وبكى جبريل عليه السلام لبكائه، فقال: أتبكي يا محمد وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، فقال : أفلا أكون عبدا شكورا ولم بكيت يا جبريل وأنت الروح الأمين ، أمين الله على وحيه ، قال : أخاف أن أبتلى بما ابتلي به هاروت وماروت ، فهو الذي منعني من اتكالي على منزلتي عند ربي فأكون قد أمنت مكره ، فلم يزالا يبكيان حتى نوديا من السماء : يا جبريل ويا محمد إن الله قد أمنكما أن تعصياه فيعذبكما ، وفضل محمد على سائر الأنبياء كفضل جبريل على سائر الملائكة وقد بلغني يا أمير المؤمنين أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : اللهم إن كنت تعلم أني أبالي إذا قعد الخصمان بين يدي على من مال الحق من قريب أو بعيد ، فلا تمهلني طرفة عين .

يا أمير المؤمنين إن أشد الشدة القيام لله بحقه، وإن أكرم الكرم عند الله التقوى وإنه ، من طلب العز بطاعة الله رفعه الله وأعزه ومن طلبه بمعصية الله أذله الله ووضعه .

فهذه نصيحتي إليك والسلام عليك .

ثم نهضت فقال لي إلى أين ؟ فقلت : إلى الولد والوطن بإذن أمير المؤمنين إن شاء الله فقال : قد أذنت لك وشكرت لك نصيحتك وقبلتها ، والله الموفق للخير والمعين عليه وبه أستعين وعليه أتوكل وهو حسبي ونعم الوكيل فلا تخلني من مطالعتك إياي بمثل هذا فإنك المقبول القول غير المتهم في النصيحة ، قلت : أفعل إن شاء الله .

قال محمد بن مصعب فأمر له بمال يستعين به على خروجه فلم يقبله ، وقال : أنا في غنى عنه ، وما كنت لأبيع نصيحتي بعرض من الدنيا .

وعرف المنصور مذهبه فلم يجد عليه في ذلك .

التالي السابق


(وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا يقيم أمر الناس إلا حصيف العقل) أي محكمه (أريب العقد) أي شديده (لا يطلع منه على عورة) أي قبيحة، (ولا يخنو على حرة) هكذا في النسخ وفي بعضها، ولا يخف منه على حرمة، وفي أخرى ولا يحنو، (ولا تأخذه في الله لومة لائم وقال) أيضا: (الأمراء أربعة: فأمير قوي ظلف) أي منع (نفسه وعماله، فذلك كالمجاهد في سبيل الله، يد الله باسطة عليه بالرحمة، وأمير فيه ضعف ظلف نفسه) أي منعها، (وأرتع عماله) أي خلاهم يرتعون (لضعفه فهو على شفا هلاك إلا أن يرحمه الله) تعالى، (وأمير ظلف عماله) أي منعهم من الرتع، (وأرتع نفسه فذلك الحطمة الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: شر الرعاء رعاء الحطمة فهو الهالك وحده، وأمير أرتع نفسه وعماله فهلكوا جميعا) .

قال العراقي: هكذا رواه ابن أبي الدنيا عن الأوزاعي معضلا، ورواه مسلم من حديث عائذ بن عمرو المزني متصلا اهـ .

قلت: ورواه معضلا كذلك البيهقي وأبو نعيم وابن عساكر ورواه متصلا أيضا أحمد وأبو عوانة وابن حبان والطبراني في الكبير .

(وقد بلغني يا أمير المؤمنين أن جبريل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أتيتك حين أمر الله بمنافخ النار) وفي نسخة: بمنافيخ، وفي نسخة العراقي: بمسالح النار، (فوضعت على النار تسعر) أي تسجر وتقاد (ليوم القيامة) أي لأجله (فقال: يا جبريل صف لي النار، فقال: إن الله تعالى أمر بها فأوقد عليها ألف عام حتى احمرت ثم أوقد عليها [ ص: 78 ] ألف عام حتى اصفرت ثم أوقد عليها ألف عام حتى اسودت فهي سوداء مظلمة لا يضيء جمرها ولا يطفأ لهيبها) كذا في النسخ، وفي بعضها: لا يضيء لهبها ولا جمرها، وفي أخرى: ولا يطفأ جمرها ولا لهبها، (والذي بعثك بالحق لو أن ثوبا من ثياب أهل النار أظهر لأهل الأرض لماتوا جميعا ولو أن ذنوبا) أي دلوا (من شرابها صب في مياه الأرض جميعا لقتل من ذاقه، ولو أن ذراعا من السلسلة التي ذكرها الله) عز وجل (وضع على جبال الأرض لذابت وما استقلت) أي ما احتملت، (ولو أن رجلا دخل النار ثم أخرج منها لمات أهل الأرض من نتن ريحه وتشوه خلقه وعظمه، فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبكى جبريل لبكائه، فقال: أتبكي يا محمد وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال: أفلا أكون عبدا شكورا ولم بكيت يا جبريل أنت وأنت الروح الأمين، أمين الله على وحيه، قال: أخاف أن أبتلى بما ابتلي به هاروت وماروت، فهو الذي منعني من اتكالي على منزلتي عند ربي فأكون قد أمنت مكره، فلم يزالا يبكيان حتى نوديا من السماء: يا جبريل ويا محمد إن الله قد أمنكما أن تعصياه فيعذبكما، وفضل محمد على سائر الأنبياء كفضل جبريل على سائر ملائكة السماء) .

قال العراقي: رواه بطوله ابن أبي الدنيا في أخبار الخلفاء هكذا معضلا بغير إسناد اهـ .

قلت: وكذلك البيهقي وأبو نعيم وابن عساكر، (وقد بلغني يا أمير المؤمنين أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: اللهم إن كنت تعلم أني أبالي إذا قعد الخصمان بين يدي على من مال الحق من قريب أو بعيد، فلا تمهلني طرفة عين، يا أمير المؤمنين إن أشد الشدة القيام لله بحقه، وإن أكرم الكرم عند الله تعالى التقوى، وإنه من طلب العز بطاعة الله رفعه الله وأعزه ومن طلبه بمعصية الله أذله الله ووضعه) ، فقد روى ابن لال والخرائطي في مساوئ الأخلاق من حديث عائشة: من التمس محامد الناس بمعاصي الله عاد حامده من الناس ذاما، (فهذه نصيحتي والسلام عليك ثم نهضت) أي تحركت للقيام، (فقال) أبو جعفر: (إلى أين؟ فقلت: إلى الولد) كذا في النسخ، ولفظ الحلية: إلى البار، (والوطن بإذن أمير المؤمنين إن شاء الله تعالى، قال: قد أذنت لك وشكرت لك نصيحتك وقبلتها بقبولها، والله الموفق للخير والمعين عليه وبه أستعين وعليه أتوكل وهو حسبي ونعم الوكيل فلا تخلني من مطالعتك إياي بمثل هذا) وفي نسخة: بمثلها (فإنك المقبول القول غير المتهم في النصيحة، قلت: أفعل إن شاء الله تعالى .

قال محمد بن مصعب) بن صدقة القرقساوي بقافين ومهملة وهو راوي هذا الحديث عن الأوزاعي، وقد روى أيضا عن أبي بكر بن أبي مريم وروى عنه يعقوب الدورقي والرمادي والحارث، فيه ضعف، مات سنة ثمان ومائتين، روى له الترمذي وابن ماجه، (فأمر له بمال يستعين به على خروجه فلم يقبله، وقال: أنا في غنى عنه، وما كنت لأبيع نصيحتي بعرض من الدنيا، وعرف) أبو جعفر (المنصور مذهبه فلم يجد عليه في ذلك) .

وفي الحلية في رده قال العراقي: قصة الأوزاعي هذه مع المنصور وموعظته له وفيه عشرة أحاديث مرفوعة وهي بجملتها رواها ابن أبي الدنيا في مواعظ الخلفاء، ورويناها في مشيخة الخفاف ومشيخة ابن طبرزد، وفي إسنادها أحمد بن عبيد بن ناصح، قال ابن عدي: يحدث بمناكير وهو عندي من أهل الصدق اهـ .

قلت: وقد أورد هذه القصة بتمامها البيهقي في الشعب، وأبو نعيم في الحلية، وابن عساكر في التاريخ كلاهما في ترجمة الأوزاعي.

ولفظ الحلية حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا أحمد بن يزيد الحوطي فيما أرى حدثنا محمد بن مصعب القرقساوي ح وحدثنا عبد الله بن محمد بن عثمان الواسطي، واللفظ له حدثنا محمد بن محمد بن سليمان ومحمد بن مخلد قالا: حدثنا أحمد بن عبيد بن ناصح عن محمد بن مصعب القرقساوي عن الأوزاعي قال: بعث إلي أبو جعفر أمير المؤمنين فساقها إلى آخرها كسياق المصنف حرفا [ ص: 79 ] بحرف .




الخدمات العلمية