الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأشرف أنواع العلم هو العلم بالله وصفاته وأفعاله فبه كمال الإنسان وفي كماله سعادته وصلاحه لجوار حضرة الجلال والكمال فالبدن مركب للنفس ، والنفس محل للعلم ، والعلم هو مقصود الإنسان وخاصيته التي لأجله خلق .

وكما أن الفرس يشارك الحمار في قوة الحمل ويختص عنه بخاصية الكر والفر وحسن الهيئة فيكون الفرس مخلوقا لأجل تلك الخاصية ، فإن تعطلت منه نزل إلى حضيض رتبة الحمار وكذلك الإنسان يشارك الحمار والفرس في أمور ويفارقهما ، في أمور هي خاصيته ، وتلك الخاصية من صفات الملائكة المقربين من رب العالمين والإنسان على رتبة بين البهائم والملائكة فإن الإنسان من حيث يتغذى وينسل فنبات ومن حيث يحس ويتحرك بالاختيار فحيوان ، ومن حيث صورته وقامته فكالصورة المنقوشة على الحائط وإنما خاصيته معرفة حقائق الأشياء فمن استعمل جميع أعضائه وقواه على وجه الاستعانة بها على العلم والعمل فقد تشبه بالملائكة ، فحقيق بأن يلحق بهم وجدير بأن يسمى ملكا وربانيا كما أخبر الله تعالى عن صواحبات يوسف عليه السلام بقوله: ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم .

ومن صرف همته إلى اتباع اللذات البدنية يأكل كما تأكل الأنعام ، فقد انحط إلى حضيض أفق البهائم ، فيصير إما غمرا كثور وإما شرها كخنزير .

وإما ضرعا ككلب ، أو سنور أو حقودا كجمل .

أو متكبرا كنمر ، أو ذا روغان كثعلب أو يجمع ذلك كله كشيطان مريد .

وما من عضو من الأعضاء ولا حاسة من الحواس إلا ويمكن الاستعانة به على طريق الوصول إلى الله تعالى كما سيأتي بيان طرف منه في كتاب الشكر فمن استعمله فيه فقد فاز ومن عدل عنه فقد خسر وخاب وجملة السعادة في ذلك أن يجعل لقاء الله تعالى مقصده والدار الآخرة مستقره والدنيا منزله والبدن مركبه والأعضاء خدمه .

فيستقر هو أعني المدرك من الإنسان في القلب الذي هو وسط مملكته كالملك ويجري القوة الخيالية المودعة في مقدم الدماغ مجرى صاحب بريده إذ تجتمع أخبار المحسوسات عنده ويجري القوة الحافظة التي مسكنها مؤخر الدماغ مجرى خازنه ويجري اللسان مجرى ترجمانه ويجري الأعضاء المتحركة مجرى كتابه ويجري الحواس الخمس مجرى جواسيسه فيوكل كل واحد منها بأخبار صقع من الأصقاع فيوكل العين بعالم الألوان والسمع بعالم الأصوات والشم ، بعالم الروائح ، وكذلك سائرها فإنها أصحاب أخبار يلتقطونها من هذه العوالم ويؤدونها إلى القوة الخيالية التي هي كصاحب البريد ، ويسلمها صاحب البريد إلى الخازن وهي الحافظة ويعرضها الخازن على الملك فيقتبس الملك منها ما يحتاج إليه في تدبير مملكته وإتمام سفره الذي هو بصدده وقمع عدوه الذي هو مبتلى به ودفع قواطع الطريق عليه فإذا فعل ذلك كان موفقا سعيدا شاكرا نعمة الله وإذا عطل هذه الجملة أو استعملها لكن في مراعاة أعدائه وهي الشهوة والغضب وسائر الحظوظ العاجلة أو في ، عمارة طريقه دون منزله إذ الدنيا طريقه التي عليها عبوره ووطنه ومستقره الآخرة كان مخذولا شقيا كافرا بنعمة الله تعالى مضيعا لجنود الله تعالى ناصرا لأعداء الله مخذلا لحزب الله فيستحق المقت والإبعاد في المنقلب والمعاد نعوذ بالله من ذلك .

وإلى المثال الذي ضربناه أشار كعب الأحبار حيث قال : دخلت على عائشة رضي الله عنها فقلت : الإنسان عيناه هاد وأذناه قمع ولسانه ترجمان ويداه جناحان ، ورجلاه بريد والقلب منه ملك .

فإذا طاب الملك طابت جنوده فقالت : هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
وقال علي رضي الله عنه في تمثيل القلوب : إن لله تعالى في أرضه آنية وهي القلوب فأحبها إليه تعالى أرقها وأصفاها وأصلبها ثم فسره فقال : أصلبها في الدين وأصفاها في اليقين وأرقها على الإخوان وهو إشارة إلى قوله تعالى : أشداء على الكفار رحماء بينهم وقوله تعالى : مثل نوره كمشكاة فيها مصباح قال أبي بن كعب رضي الله عنه معناه : مثل نور المؤمن وقلبه ، وقوله تعالى : أو كظلمات في بحر لجي مثل قلب المنافق .

وقال زيد بن أسلم في قوله تعالى في لوح محفوظ وهو قلب المؤمن .

وقال سهل مثل القلب والصدر مثل العرش والكرسي فهذه أمثلة القلب .

التالي السابق


( وأشرف أنواع العلم هو العلم بالله وصفاته وأفعاله ) على ما ينبغي علمه بذلك فيه كمال الإنسان وفضله (وفي كماله سعادته وصلاحه لجوار حضرة الكمال والجلال) وإليه الإشارة بقوله: وأما الذين سعدوا ففي الجنة (فالبدن مركب للنفس ، والنفس محل للعلم ، والعلم هو مقصود الإنسان) وأقصى رغبته ، (وخاصيتها التي لأجلها خلق) قال تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون (وكما أن الفرس يشارك الحمار في قوة الحمل ويختص عنه بخاصية الكر والفر) أي: الحمل على العدو والفرار عنه عند المطالبة (وحسن الهيئة فيكون الفرس مخلوقا لأجل تلك الخاصية ، فإن تعطلت منه نزل إلى حضيض رتبة الحمار) فيكونان سواء في الرتبة ، (فكذلك الإنسان يشارك الحمار والفرس في أمور ، ويفارقه في أمور هي خاصيته ، وتلك الخاصية من صفات الملائكة المقربين من الله تعالى) .

وفي الذريعة: كل ما أوجد لفعل ما فشرفه بتمام ذلك الفعل منه

[ ص: 222 ] ودناءته بفقدان ذلك الفعل منه كالفرس للعدو ، والسيف للقطع ، والعمل المختص به في القتال ، ومتى لم يوجد فيه المعنى الذي لأجله أوجد كان ناقصا ، فإما أن يطرح طرحا ، وإما أن يرد إلى منزل النوع الذي هو دونه كالفرس إذا لم يصلح للعدو واتخذ حمولة أو أعد أكولة ، فمن لم يصلح لخلافة الله ولا لعبادته ولا لاستعمال أرضه فالبهيمة خير منه. وقال في المقصد الأسنى: إن الموجودات منقسمة بين كاملة وناقصة ، فالكامل أشرف من الناقص ، ومهما تتفاوت درجات الكمال ، واقتصر منتهى الكمال على واحد حتى لم يكن الكمال المطلق إلا له ، ولم يكن للموجودات الأخر كمال مطلق ، بل كانت لها كمالات متفاوتة بإضافة ، فأكملها أقرب لا محالة إلى الذي له الكمال المطلق أعني قربا بالمرتبة والدرجة لا بالمكان .

ثم الموجودات منقسمة بين حية وميتة ، وتعلم أن الحي أشرف وأكمل من الميت ، وأن درجات الإحياء ثلاث درجات: درجة الملائكة ، ودرجة الإنس ، ودرجة البهائم ، فأما درجة البهائم فهي أسفل في نفس الحياة التي بها شرفها؛ لأن الحي هو الدراك الفعال وفي إدراك البهيمة نقص ، وفي فعلها نقص ، أما إدراكها فنقصانه أنه مقصور على الحواس وإدراك الحس قاصر لا يدرك الأشياء إلا بمماسة أو قرب منها ، فالحس معذول من الإدراك إن لم يكن مماسة ولا قرب ؛ فإن اللمس والذوق يحتاجان إلى المماسة ، والسمع والبصر والشم يحتاجون إلى القرب ، وكل موجود لا يتصور فيه مماسة وقرب فالحس معزول من إدراكه في هذه الحالة ، وأما فعلها فهو أنه مقصور على مقتضى الشهوة والغضب لا باعث لها سواهما ، وليس لها عقل يدعو إلى أفعال مخالفة لمقتضى الشهوة والغضب ، وأما الملك فدرجته أعلى الدرجات ؛ لأنه عبارة عن موجود لا يؤثر القرب والبعد في إدراكه ، بل لا يقتصر إدراكه على ما يتصور فيه القرب والبعد ، إذ القرب والبعد يتصور على الأجسام ، والأجسام أخص أقسام الموجودات ، ثم هو مقدس عن الشهوة والغضب ، فليست أفعاله بمقتضاهما ، بل داعيه إلى الأفعال أمر هو أجل منهما وهو طلب القرب إلى الله تعالى (و) أما (الإنسان) فهو (على رتبة بين البهائم والملائكة) ودرجته متوسطة بين الدرجتين (فإن الإنسان من حيث) ما (يتغذى وينسل فنبات ومن حيث) ما (يحس ويتحرك بالاختيار فحيوان ، ومن حيث صورته) التخطيطية (وقامته فكالصورة المنقوشة على الحائط وإنما) فضيلته بالنطق وقواه ومقتضاه و (خاصيته معرفة حقائق الأشياء) بتلك القوى ، ولهذا قيل: ما الإنسان لولا اللسان إلا بهيمة مهملة أو صورة ممثلة ، فالإنسان يضارع الملك بقوة العلم والنطق والفهم ، ويضارع البهائم بقوة الغذاء والنكاح ، (فمن استعمل جميع أعضائه وقواه) وصرف همته كلها (على وجه الاستعانة بها على العلم) النافع (والعمل) المحكم (فقد تشبه بالملائكة ، فحقيق بأن يلحق بهم) أي: بأفقهم (وجدير بأن يسمى ملكا وربانيا كما قال تعالى: إن هذا إلا ملك كريم ) يعني به يوسف عليه السلام (ومن صرف همته) كلها (إلى) رتبة القوة الشهوية في (اتباع اللذات البدنية يأكل كما تأكل الأنعام ، فقد انحط إلى الحضيض أفق البهائم ، فيصير إما غمرا) بضم الغين وسكون الميم وهو الجاهل البليد المحض (كثور) ويضرب به المثل في البلادة حتى قالوا: وما علي إذا لم تفهم البقر (وإما شرها) أي: حريصا (كخنزير ، وإما ضرعا) أي: متملقا (ككلب ، أو حقودا كجمل ، أو متكبرا كنمر ، أو ذا روغان) محركة أي: حيلة (كثعلب) وفيه قال الشاعر:


يعطيك من طرف اللسان حلاوة * ويروغ عنك كما يروغ الثعلب



وهذه خواص الحيوانات المذكورة حتى قالوا: أبلد من الثور ، وأشره من خنزير ، وأضرع من كلب ، وأحقد من جمل ، وأروغ من ثعلب (أو يجمع ذلك كله) فيكون (كشيطان مريد) أي: متمرد ، وعلى ذلك قوله تعالى: وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت ولكون كثير من صورته صورة الإنسان وليس هو في الحقيقة إلا كبعض الحيوان ، قال الله تعالى في الذين لا يعقلون عن الله : إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل وقال: إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون وقال تعالى: إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون يبين أن الذين كفروا ولم يستعملوا القوة التي جعلها الله تعالى لهم هم شر من الدواب ، وقال تعالى:

[ ص: 223 ] ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء أي مثل واعظ الكافرين كمثل ناعق الأنعام تنبيها أنهم فيما يقال لهم كالبهائم ، وبهذا النظر عبر الشاعر عن بعض من ذمه فقال:


اللؤم أكبر من وبر ووالده * واللؤم أكبر من وبر وما ولدا



ولم يقل: " ومن ولدا" ، تنبيها أنه لا يستحق أن يقال له " من" لكونه بهيمة ، وعلى هذا المعنى قال المتنبي:


*تخطي إذا جئت في استفهامها بمن *



ولما ذكرنا لم يكن بين بعض هذه الأنواع وبعضها من التفاوت ما بين إنسان وإنسان فإنك قد ترى واحدا كعشرة ، بل واحدا كمائة ، وعشرة أخرى هدر دون واحد كما قال الشاعر:


ولم أر أمثال الرجال تفاوتت * لدى المجد حتى الألف منهم كواحد



بل قد ترى واحدا بعشرة آلاف وترى عشرة آلاف دون واحد، وقال الراغب في الذريعة: الإنسان لما ركب تركيبا بين بهيمة وملك فشبهه بالبهيمة بما فيه من الشهوات البدنية من المأكل والمشرب والمنكح ، وشبهه بالملك بما فيه من القوى الروحانية من الحكمة والعدالة والحور ، فصار واسطة بين جوهرين وضيع ورفيع ، ولهذا قال تعالى: وهديناه النجدين والنجدان من وجه: العقل والهدى، ومن وجه: الآخرة والدنيا ، ومن وجه: الإيمان والكفر ، ومن وجه: الهدى والضلال ، ومن وجه: موالاة الله تعالى وموالاة الشيطان ، ومن وجه: النور والظلمة ، ومن وجه: الحياة والموت ، فمن وفقه الله تعالى للهدى وأعطاه قوة لبلوغ الهدى فراعى نفسه وزكاها فقد أفلح ، ومن حرم التوفيق فأحرم نفسه ودسها فقد خاب وخسر (وما من عضو من الأعضاء ولا حاسة من الحواس إلا ويمكن الاستعانة به على طريق الوصول إلى الله تعالى) فإن الخيال يتصور المحسوس فتبقى فيه صورته الروحانية فينتقش بها تنقش الشمع بصورة الختم، ثم يأخذه الفكر فيميز بعضه من بعض بنور العقل ، فيبحث عن خواصها ومنافعها ومضارها ثم يؤديه إلى القوة الحافظة ، فإن أراد إبرازه قولا سلط عليه القوى الناطقة فتعبر عنه باللسان ، وإن أراد إبرازه فعلا سلط عليه القوى العاملة فتوجده بالجوارح (كما سيأتي بيان طرق منه في كتاب الشكر) إن شاء الله تعالى .

(فمن استعمله فيه) أي: في طريق الوصول إلى الله تعالى (فقد فاز) وأفلح ، (ومن عدل عنه فقد خاب وخسر) وإليه الإشارة بقوله: قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها .

وقد أشار المصنف إلى ضرب مثل لهذه القوى يعرف منه تصور تأثيرها ؛ فقال: (وجملة السعادة في ذلك أن يجعل لقاء الله تعالى مقصده والدار الآخرة مستقره والدنيا طريقه والبدن مركبه والأعضاء خدمه ، فيستقر هو أعني المدرك من الإنسان في القلب الذي هو وسط مملكته) أو القوى المفكرة أسكنها وسط الدماغ (كالملك) يسكن وسط المملكة (ويجري القوة الخيالية المودعة في مقدم الدماغ مجرى صاحب يريده إذ تجتمع أخبار المحسوسات عنه) فيبلغها الملك (ويجري القوة الحافظة التي مسكنها مؤخر الدماغ مجرى خازنه) الذي يجمع ما دخل ويحفظه (ويجري اللسان) وهي القوة الناطقة (مجرى ترجمانه) الذي يترجم له عن الغير (ويجري الأعضاء المتحركة) وهي القوة العاملة (مجرى كتابه) الذين يكتبون له ويردون منه ، (ويجري الحواس الخمس) الظاهرية (مجرى جواسيسه) الذين يتجسسون له الأخبار، ومجري أصحاب الأخيار الصادقي اللهجات فيما يرفعونه من الأخبار ، (فيوكل كل واحد بأخبار صقع من الأصقاع) من مملكته (فيوكل العين بعالم الألوان و) يوكل (السمع بعالم الأصوات ، و) يوكل (الشم بعالم الأراييح ، وكذلك سائرها فإنها أصحاب أخبار يلتقطونها من هذه العوالم ويؤدونها إلى القوة الخيالية التي هي كصاحب البريد ، ويسلمها صاحب البريد إلى الخازن وهي الحافظة ويعرضها الخازن) بعد أن يسقط منه ما يراه حشوا ويرفع الباقي صافيا فيعرضه (على الملك فيقتبس منها ما يحتاج إليه) مما ينفعه ويضره (في تدبير مملكته وإتمام سفره الذي هو بصدده وقمع عدوه الذي هو مبتلى به) وهي الشهوة؛ لأنها شديدة التثبت به وكثيرة التمكن منه ، وقد اقتضت الحكمة بابتلائه بها (ودفع قواطع الطريق عليه) أي: دفع ما يعوقه عن طريق الآخرة ويثبطه عنها ، ثم بعد اطلاعه عليها يسلمها للخازن

[ ص: 224 ] ثانيا إلى وقت حاجته فحينئذ يتقدم بإخراجها ، (فإذا فعل ذلك) وقهر ذلك العدو أمن من القواطع (وكان موفقا سعيدا شاكرا لنعمة الله تعالى) ، بل يصير المعيار بائنا (وإذا عطل هذه الجملة) بأن لم يستعملها كما ذكر (أو استعملها ولكن في مراعاة أعدائه وهي الشهوة والغضب وسائر الحظوظ العاجلة ، وفي عمارة طريقه دون منزله إذ الدنيا طريقه التي عليها عبوره ووطنه ومستقره الآخرة) ، وإليه الإشارة بما رواه الديلمي من حديث ابن عمر "الدنيا قنطرة الآخرة ، فاعبروها ولا تعمروها". (كان مخذولا شقيا كافرا لنعمة الله مضيعا لجنود الله) التي هي الأعضاء والجوارح والحواس ، (ناصرا لأعداء الله مخذلا لحزب الله فيستحق المقت والإبعاد في المنقلب والمعاد نعوذ بالله من ذلك) وكما أن للملك أفعالا يستعين فيها بغيره وأفعالا ينفرد فيها بنفسه ، والأفعال التي يتولاها بنفسه أشرف مما يفوضها- إلى غيره ، كذلك للقوة المفكرة أفعال تفوضها إلى غيرها ، وأفعال تختص هي بها ، وهي الرؤية والفكر والاعتبار والقياس والفراسة ، فبهذه الأشياء تدبير الأمور واستخراج الغوامض ، وتحصيل التجربة واستنباط المجهول بتوسط المعلوم والاطلاع على الأسرار ، (وإلى المثال الذي ضربناه أشار كعب الأحبار) رحمه الله تعالى ، تقدمت ترجمته في كتاب العلم (وقال: دخلت على عائشة رضي الله عنها فقلت: الإنسان عيناه هاد) وفي لفظ هاديتان (وأذناه قمع) وفي لفظ قمعان (ولسانه ترجمان ويداه جناحان ، ورجلاه بريد والقلب ملك ، فإذا طاب الملك طابت جنوده. قالت) عائشة رضي الله عنها: (هكذا سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) يقول: قال العراقي : رواه أبو نعيم في الطب النبوي ، والطبراني في مسند الشاميين ، والبيهقي في الشعب من حديث أبي هريرة نحوه ، وله ولأحمد من حديث أبي ذر: " أما الأذنان فقمع ، وأما العين فمقرة لما يدعي القلب" ولا يصح منه شيء اهـ .

قلت: أخرجه الطبراني في مسند الشاميين من طريق كعب قال: أتيت عائشة فقلت: هل سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينعت الإنسان؟ فانظري هل يوافق نعتي نعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فقالت: انعت. فقال: عيناه هاد فساقه ، وزاد بعد قوله : " بريد " : وكبده رحمة ورئته نفس وطحاله ضحك ، وكليته مكر ، والقلب ملك الحديث. فقالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينعت الإنسان هكذا .

وقول العراقي: وللبيهقي في الشعب. . . إلخ يشير إلى ما رواه من كلام أبي هريرة لا من حديثه ، ولفظه: " القلب ملك وله جنود ، فإذا صلح الملك صلحت جنوده ، وإذا فسد الملك فسدت جنوده ، والأذنان قمع ، والعينان مسلحة ، واللسان ترجمان ، واليدان جناحان ، والرجلان بريد ، والكبد رحمة ، والطحال ضحك ، والكليتان مكر ، والرئة نفس " هكذا رواه ، ثم قال أحمد: هكذا جاء موقوفا ، ومعناه في القلب جاء في حديث النعمان بن بشير مرفوعا اهـ .

وهذه في الميزان من المناكير .

وقول العراقي: رواه أبو نعيم في الطب ظاهر أنه من حديث عائشة ، وليس كذلك ، وإنما أخرجه فيه من حديث أبي سعيد الخدري ، وكذلك أخرجه أيضا أبو الشيخ في كتاب العظمة ، وابن عدي في الكامل ، ورواه الحكيم الترمذي من حديث عائشة ولفظهم جميعا: " العينان دليلان والأذنان قمعان واللسان ترجمان واليدان جناحان والكبد رحمة ، والطحال ضحك ، والرئة نفس ، والكليتان مكر ، والقلب ملك فإذا صلح الملك صلحت رعيته ، وإذا فسد الملك فسدت رعيته " .

(وقال علي رضي الله عنه في تمثيل القلوب: إن لله تعالى في أرضه آنية) جمع إناء وهو وعاء الشيء (وهي القلوب فأحبها إليه أرقها وأصفاها وأصلبها) هكذا في القوت من قول علي ، وروى الطبراني في الكبير من حديث أبي عنبة الخولاني مرفوعا " إن لله تعالى آنية من أهل الأرض، وآنية ربكم قلوب عباده الصالحين، وأحبها إليه ألينها وأرقها " وأبو عنبة قيل: له صحبة ، وقيل: بل ولد في عهده -صلى الله عليه وسلم- ولم يره ، وإنما صحب معاذ بن جبل ونزل دمشق. قال البيهقي : إسناده حسن ، وقال شيخه العراقي: فيه بقية بن الوليد وهو مدلس ، لكنه صرح بالتحديث فيه. قال صاحب القوت: (ثم فسره) أي: علي رضي الله عنه (فقال: أصلبها في الدين وأصفاها في اليقين وأرقها على الإخوان) إلى هنا نص القوت ، (وهو إشارة إلى قوله تعالى: أشداء على الكفار رحماء بينهم ) قال صاحب القوت: فمثل القلوب مثل الأواني في تفاوت جوهرها أرقها وأصفاها أعلاها يصلح للوجه

[ ص: 225 ] والملك والطيب ، وأكثفها وأدناها يصلح للأدناس ، وما بين ذلك يصلح لما بينهما ، ومثلها أيضا مثل الموازين ؛ الطيار اللطيف المعيار يصلح لوزن الذهب ، والكثيف الجافي يصلح للمقت ، وما بينهما يصلح لما بينهما ، فيوزن بكل ميزان ما يصلح له ، كما يلقى في كل إناء ما يليق به ، كذلك الحكمة ، والحكم في الملكوت الباطن كالحكمة ، والحكم في الملك الظاهر بتعديل الظاهر الباطن اهـ .

وقال بعض شراح الحديث عند قوله: " ألينها وأرقها " أي: فإن القلب إذا لان ورق انجلى وصار كالمرآة الصقيلة ، فإذا أشرقت عليه أنوار الملكوت أضاء الصدر وامتلأ من شعاعها فأبصرت عينا الفؤاد باطن أمر الله في خلقه ، فيؤديه ذلك إلى ملاحظة نور الله فإذا لاحظه فذلك قلب استكمل الزينة والبهاء بما رزق من الصفاء ، فصار محل نظر الله من بين خلقه ، فكلما نظر إلى قلبه زاد به فرحا وله حبا وعزا واكتنفه بالرحمة وأزاحه من الزحمة وملأه من أنوار العلوم اهـ .

وأشار إليه (قوله تعالى: مثل نوره كمشكاة فيها مصباح قال أبي بن كعب) رضي الله عنه في تفسيره (معناه: مثل نور المؤمن وقلبه ، وقوله: أو كظلمات في بحر لجي مثل قلب المنافق) ولفظ القوت فسره أبي بن كعب قال: مثل نور المؤمن وكذلك كان يقرؤه ؛ قال: فقلب المؤمن هو المشكاة فيها مصباح ، كلامه نور ، وعمله نور ، ويتقلب في نور ، ثم قال في قوله تعالى: أو كظلمات في بحر لجي قال: قلب المنافق ، فكلامه ظلمة وعمله ظلمة ويتقلب في ظلمة اهـ .

قلت: أخرجه عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والحاكم وصححه عن أبي بن كعب: الله نور السماوات والأرض مثل نوره قال: هو المؤمن الذي جعل الإيمان والقرآن في صدره ، فضرب الله مثله فقال: الله نور السماوات والأرض فبدأ بنور نفسه ثم ذكر نور المؤمن فقال: " مثل نوره من آمن به " ، فكان أبي بن كعب يقرؤها: مثل نور من آمن به فهو المؤمن ، جعل الإيمان والقرآن في صدره كمشكاة. قال: فصدر المؤمن المشكاة فيها مصباح ، المصباح النور ، وهو القرآن والإيمان الذي جعل في صدره ، والزجاجة قلبه ، فقلبه مما استنار فيه القرآن والإيمان ، فكأنها كوكب دري أي : مضيء ، والشجرة المباركة أصله المبارك الإخلاص لله وحده وعبادته. قال: فمثله كمثل شجرة التف بها الشجر فهي خضراء ناعمة لا تصيبها الشمس على أي حال كانت لا إذا طلعت ولا إذا غربت ، فكذلك هو المؤمن قد أجير من أن يضله شيء من الفتن ، وقد ابتلي فيثبته الله ، فهو بين أربع خلال: إن قال صدق ، وإن حكم عدل ، وإن أعطي شكر ، وإن ابتلي صبر ، فهو في سائر الناس كالرجل الحي يمشي بين قبور الأموات نور على نور ومصيره إلى نور فهو يتقلب في خمسة من النور ، فكلامه وعمله نور ، ومدخله نوره ، ومصيره إلى نور يوم القيامة إلى الجنة ، ثم ضرب مثل الكافر فقال: والذين كفروا أعمالهم كسراب الآية. قال: وكذلك الكافر يأتي يوم القيامة وهو يحسب أن له عند الله خيرا فلا يجده ، ويدخله الله النار ، قال: وضرب مثلا آخر للكافر فقال: أو كظلمات في بحر لجي الآية. فهو يتقلب في خمس من الظلم: فكلامه ظلمة ، وعمله ظلمة ، ومدخله ظلمة ، ومخرجه ظلمة ، ومصيره إلى يوم القيامة إلى الظلمات إلى النار ، فكذلك ميت الأحياء يمشي في الناس لا يدري ماذا له ، وماذا عليه .

وأخرج أبو عبيد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي العالية قال: هي في قراءة أبي بن كعب " مثل نور من آمن به " وفي لفظ له: " مثل نور المؤمن " أخرجه عبد بن حميد وابن الأنباري في المصاحف عن الشعبي عنه ، وقد روي مثله عن ابن عباس قال: " مثل نوره الذي أعطاه المؤمن كمشكاة " وقال في قوله: نور على نور فذلك مثل قلب المؤمن نور على نور ، وقال في قوله: أو كظلمات في بحر لجي ذلك مثل قلب الكافر ظلمة على ظلمة . أخرجه الفريابي .

وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: مثل نوره هي خطأ من الكاتب ، هو أعظم من أن يكون نوره مثل نور المشكاة ؛ قال: مثل نور المؤمنين ، وفي لفظ له ، مثل نوره مثل هواه في قلب المؤمن . هكذا أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات .

وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال: أو كظلمات في بحر لجي اللجي العميق القصير ، أي مثل عمر الكافر في ضلالات ليس له مخرج ولا منفذ أعمى فيها لا يبصر ، (وقال زيد بن أسلم) العدوي مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه. أبو عبد الله ويقال أبو أسامة المدني ثقة عالم مات سنة ست وثلاثين ، روى

[ ص: 226 ] الجماعة له . ( في لوح محفوظ هو قلب المؤمن) نقله صاحب القوت. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة قال: في لوح محفوظ في صدور المؤمنين. (وقال سهل) التستري رحمه الله تعالى: (مثل القلب والصدر مثل العرش والكرسي) نقله صاحب القوت، وقد تقدم قريبا (فهذه أمثلة القلب) .




الخدمات العلمية