الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومدخل هذه الأخبار هو الباب الباطن .

فإذا الفرق بين علوم الأولياء والأنبياء وبين علوم العلماء والحكماء هذا وهو أن علومهم تأتي من داخل القلب من الباب المنفتح إلى عالم الملكوت ، وعلم الحكمة يتأتى من أبواب الحواس المفتوحة إلى عالم الملك وعجائب عالم القلب وتردده بين عالمي الشهادة والغيب لا يمكن أن يستقصى في علم المعاملة فهذا مثال يعلمك الفرق بين مدخل العالمين .

المثال الثاني يعرفك الفرق بين العملين أعني عمل العلماء وعمل الأولياء ، فإن العلماء يعملون في اكتساب نفس العلوم واجتلابها إلى القلب وأولياء الصوفية يعملون في جلاء القلوب وتطهيرها وتصفيتها وتصقيلها فقط فقد ، حكي أن أهل الصين وأهل الروم تباهوا بين يدي بعض الملوك بحسن صناعة النقش والصور فاستقر رأي الملك على أن يسلم إليهم صفة لينقش أهل الصين منها جانبا وأهل الروم جانبا ويرخي بينهما ، حجاب يمنع اطلاع كل فريق على الآخر ، ففعل ذلك فجمع ، أهل الروم من الأصباغ الغريبة ما لا ينحصر ودخل أهل الصين من غير صبغ وأقبلوا يجلون جانبهم ويصقلونه فلما فرغ أهل الروم ادعى أهل الصين أنهم قد فرغوا أيضا فعجب الملك من قولهم ، وأنهم كيف فرغوا من النقش من غير صبغ فقيل وكيف فرغتم من غير صبغ؟ ، فقالوا : ما عليكم ارفعوا الحجاب فرفعوا وإذا بجانبهم يتلألأ منه ، عجائب الصنائع الرومية مع زيادة إشراق وبريق إذ كان قد صار كالمرآة المجلوة لكثرة التصقيل فازداد حسن جانبهم بمزيد التصقيل ، فكذلك عناية الأولياء بتطهير القلب وجلائه وتزكيته وصفائه حتى يتلألأ فيه جلية الحق بنهاية الإشراق كفعل أهل الصين وعناية الحكماء والعلماء بالاكتساب ونقش العلوم وتحصيل نقشها في القلب كفعل أهل الروم فكيفما كان الأمر فقلب المؤمن لا يموت وعلمه عند الموت لا يمحى وصفاؤه لا يتكدر ، وإليه أشار الحسن رحمه الله عليه بقوله: التراب لا يأكل محل الإيمان بل يكون وسيلة وقربة إلى الله تعالى .

وأما ما حصله من نفس العلم وما حصله من الصفاء والاستعداد لقبول نفس العلم ، فلا غنى به عنه ، ولا سعادة لأحد إلا بالعلم والمعرفة وبعض السعادات أشرف من بعض ، كما أنه لا غنى إلا بالمال ، فصاحب الدرهم غني وصاحب الخزائن المترعة غني وتفاوت درجات السعداء بحسب تفاوت المعرفة والإيمان كما تتفاوت درجات الأغنياء بحسب قلة المال وكثرته فالمعارف ، أنوار ولا يسعى المؤمنون إلى لقاء الله تعالى إلا بأنوارهم ، قال الله تعالى : يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم وقد روي في الخبر أن بعضهم يعطى نورا مثل الجبل وبعضهم أصغر حتى يكون آخرهم رجلا يعطى نورا على إبهام قدميه ، فيضيء مرة وينطفئ أخرى ، فإذا أضاء قدم قدميه فمشى ، وإذا أطفئ قام ، ومرورهم على الصراط على قدر نورهم فمنهم من يمر كطرف العين ، ومنهم من يمر كالبرق ومنهم من يمر كالسحاب ومنه من يمر ، كانقضاض الكواكب ومنهم من يمر كالفرس إذا اشتد في ميدانه والذي أعطي نورا على إبهام قدمه يحبو حبوا على وجهه ويديه ورجليه يجر يدا ويعلق أخرى ويصيب ، جوانبه النار فلا يزال كذلك حتى يخلص الحديث .

فبهذا يظهر تفاوت الناس في الإيمان ، ولو وزن إيمان أبي بكر بإيمان العالمين سوى النبيين والمرسلين لرجح فهذا أيضا يضاهي قول القائل : لو وزن نور الشمس بنور السرج كلها لرجح فإنما أحاد ، العوام نوره مثل نور السراج ، وبعضهم نوره كنور الشمع وإيمان الصديقين نوره كنور القمر والنجوم ، وإيمان الأنبياء كالشمس وكما ينكشف في نور الشمس صورة الآفاق مع .

اتساع أقطارها ، ولا ينكشف في نور السراج إلا زاوية ضيقة من البيت ، فكذلك تفاوت انشراح الصدر بالمعارف ، وانكشاف سعة الملكوت لقلوب العارفين ولذلك جاء في الخبر أنه يقال يوم القيامة : أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان ، ونصف مثقال ، وربع مثقال وشعيرة وذرة ، وكل ذلك تنبيه على تفاوت درجات الإيمان، وأن هذه المقادير من الإيمان لا تمنع دخول النار، وفي مفهومه أن من إيمانه يزيد على مثقال فإنه لا يدخل النار؛ إذ لو دخل لأمر بإخراجه أولا ، وأن من في قلبه مثقال ذرة لا يستحق الخلود في النار وإن دخلها، وكذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: " ليس شيء خيرا من ألف مثله إلا الإنسان أو المؤمن" .

إشارة إلى تفضيل قلب العارف بالله تعالى الموقن فإنه خير من ألف قلب من العوام وقد قال تعالى : وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين تفضيلا للمؤمنين على المسلمين والمراد به المؤمن العارف دون المقلد وقال عز وجل يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات فأراد ههنا بالذين آمنوا الذين صدقوا من غير علم وميزهم عن الذين أوتوا العلم .

ويدل ذلك على أن اسم المؤمن يقع على المقلد وإن لم يكن تصديقه عن بصيرة وكشف .

وفسر ابن عباس رضي الله عنهما قوله تعالى : والذين أوتوا العلم درجات فقال : يرفع الله العالم فوق المؤمن بسبعمائة درجة ، بين كل درجتين كما بين السماء والأرض وقال صلى الله عليه وسلم - : أكثر أهل الجنة البله ، وعليون لذوي الألباب وقال صلى الله عليه وسلم : فضل العالم على العابد كفضلي على أدنى رجل من أصحابي ، وفي رواية : كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب " فبهذه الشواهد يتضح لك تفاوت درجات أهل الجنة بحسب تفاوت قلوبهم ومعارفهم ولهذا كان يوم القيامة يوم التغابن إذ المحروم من رحمة الله عظيم الغبن والخسران والمحروم يرى فوق درجته درجات عظيمة فيكون نظره إليها كنظر الغني الذي يملك عشرة دراهم إلى الغني الذي يملك الأرض من المشرق إلى المغرب ، وكل واحد منهما غني ولكن ما أعظم الفرق بينهما ، وما أعظم الغبن على من يخسر حظه من ذلك وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا .

التالي السابق


(ومدخل هذه الأخبار هو الباب الباطن) ونقل صاحب القول عن سهل التستري قال: للقلب تجويفان أحدهما فيه السمع والبصر ، وكان يسمى هذا القلب وفيه العقل ، ومثل العقل في القلب مثل النظر في العين هو صقال لموضع مخصوص فيه بمنزلة الصقال الذي في سواد العين (فإذا الفرق بين علوم الأنبياء والأولياء وبين علوم الحكماء والعلماء هذا وهو أن علومهم تتأتى من داخل القلب من الباب المنفتح إلى عالم الملكوت، وعلم الحكمة يأتي من أبواب الحواس المفتوحة إلى عالم الملك) وشتان بين العلمين (وعجائب عالم القلب تردد بين عالمي الشهادة والغيب) أي: الملك والملكوت، (لا يمكن أن يستقصي في علم المعاملة) لصعوبتها على أفهام الضعفاء ولكثرتها (فهذا مثال يعرفك الفرق بين مدخل العلمين) وأيهما أعلى درجة (المثال الثاني يعرفك الفرق بين العملين أعني عمل العلماء وعمل الأولياء ، فإن العلماء يعملون في اكتساب نفس العلوم واجتلابها إلى القلب) بمبلغ جهدهم (وأما الصوفية فيعملون في جلاء القلب وتطهيره وتصفيته) عن الكدورات (وتصقيله) بالذكر (فقط ، وقد حكي أن أهل الصين) إقليم معروف ، وقد قيل: الحكمة نزلت على ثلاثة أعضاء: أدمغة اليونان وأيادي أهل الصين ، وألسنة العرب (وأهل الروم تباهوا) أي: تفاخروا (بين يدي بعض الملوك بحسن صناعة النقش والصور) فقال كل منهم: نحن أحسن في هذه الصناعة (فاستقر رأي الملك على أن يسلم إليهم صفة) وهي بالضم من البيت معروفة والجمع صفف (لينقش أهل الصين منها جانبا وأهل الروم منها جانبا ، ويرخى بينهم حجاب يمنع اطلاع كل فريق على الآخر ، ففعل ذلك، وجمع أهل الروم من الأصباغ الغربية ما لا ينحصر) واعتنوا غاية الاعتناء ، (ودخل أهل الصين من غير صبغ وأقبلوا يجلون جانبهم ويصقلونه) بالمصاقل (فلما فرغ أهل الروم) من عملهم (ادعى أهل الصين أنهم أيضا قد فرغوا) من العمل (فتعجب الملك من قولهم، وأنهم كيف فرغوا من النقش من غير صبغ ، فقالوا: ما عليكم منا ارفعوا الحجاب فرفعوه ، فإذا جانبهم وقد تلألأت فيه عجائب الصنائع الرومية مع زيادة إشراق وبريق) أي: لمعان (إذ كان قد صار كالمرآة المجلوة لكثرة التصقيل) والجلاء (فازداد حسن جانبهم بمزيد الصفاء ، فكذلك

[ ص: 255 ] عناية الأولياء بتطهير القلب وجلائه وتزكيته وصفائه حتى تلألأ فيه جلية الحق بنهاية الإشراق) والإضاءة (كفعل أهل الصين) لما صقلوا الصنعة ظهرت فيه النقوش الظاهرية، وهم لما صقلوا صنعة القلب ظهرت فيها صور المعلومات الباطنية، (وعناية العلماء والحكماء باكتساب نفس العلوم وتحصيل نقشها في القلب) وشتان بينهما (وكيفما كان الأمر فقلب المؤمن لا يموت) حين يموت القلوب (وعمله عند الموت لا ينمحي) والمراد بالعلم ما يتعلق بمعرفة الله تعالى (وصفاؤه لا يتكدر، وإليه أشار الحسن) البصري رحمه الله تعالى بقوله: (التراب لا يأكل محل الإيمان) كما نقله صاحب القوت، ومعلوم أن محل الإيمان والتقوى القلب كما ورد في الخبر إلا أن التقوى ههنا وأشار إلى القلب ، (ويكون) العلم (وسيلة القرب له إلى الله تعالى أما ما حصله من نفس العلم أو ما حصله من نفس العلم أو ما حصله من الصفاء والاستعداد لقبول نقش العلم، فلا غنى به عنه، ولا سعادة لأحد إلا بالعلم) بالله (والمعرفة الصارفة عنان قلبه إليه) ولفظ القوت: : ولا يصل العبد إلى مشاهدة علم التوحيد إلا بعلم المعرفة وهو نور اليقين ، وقال في موضع آخر: فحقيقة العلم إنما هو بين العلم واليقين، وهذا هو علم المعرفة المخصوص به المقربون، (وبعض السعادات أشرف من بعض ، كما أنه لا غنى إلا بالمال، فصاحب الدراهم غني وصاحب الخزائن المترعة) أي: الملآنة (غني وتتفاوت درجات السعداء بحسب تفاوت المعرفة والإيمان كما تتفاوت درجات الأغنياء بحسب قلة المال وكثرته، والمعارف) الإلهية (أنوار) لأنها حصلت من أشعة النور الإلهي (ولا يسعى المؤمنون) يوم القيامة (إلى لقاء الله تعالى إلا بأنوارهم ، قال) الله (تعالى: يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم وقد ورد في الخبر بعضهم) أي: المؤمنين (يعطى نورا مثل الجبل وبعضهم يعطى أصغر) منه (حتى يكون رجل يعطى نوره على إبهام قدمه ، فيضيء مرة وينطفئ أخرى، فإذا أضاء قدم قدمه فمشى ، وإذا أطفئ قام، ومرورهم على الصراط على قدر نورهم فمنهم من يمر كطرف العين، ومنهم من يمر كالبرق) الخاطف، (ومنهم) من يمر (كالسحاب، ومنهم) من يمر (كانقضاض الكوكب) وهو سقوطه يشير إلى السرعة، (ومنهم من يمر كشد الفرس) أي: عدوه (والذي أعطي نوره على إبهام قدمه يحبو على وجهه ويديه ورجليه تخر منه يد) أي: تسقط (وتعلق أخرى، وتخر رجل وتعلق أخرى، وتصيب جوانبه النار ، قال: ولا يزال كذلك حتى يخلص الحديث) قال العراقي : رواه الطبراني والحاكم من حديث ابن مسعود وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين اهـ .

قلت: وكذا أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه بلفظ: " يؤتون نورهم على قدر أعمالهم يمرون على الصراط" . ورواه الحسن كذلك وزاد: " حتى يدخلوا الجنة " أخرجه ابن أبي شيبة. وعن قتادة قال: ذكر لنا أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- قال: " إن من المؤمنين من لا يضيء له نور إلا موضع قدميه ، والناس منازل بأعمالهم " (فبهذا يظهر تفاوت الناس في الإيمان، ولو وزن إيمان أبي بكر) رضي الله عنه (سوى النبيين والمرسلين لرجح) وإليه الإشارة بقوله في الخبر: " ما سبقكم أبو بكر بكثرة الصلاة ولا كثرة الصيام، ولكن بشيء وقر في صدره " ، وقد تقدم في كتاب العلم (وهذا يضاهي قول القائل: لو وزن نور الشمس بنور السرج كلها لرجح ، فإيمان آحاد العوام نوره مثل نور السراج ، وبعضهم نوره كنور الشمعة

[ ص: 256 ] وإيمان الصديقين نوره كنور النجوم والقمر ، وإيمان الأنبياء نوره كنور الشمس) على هذا الترتيب ، ومنبع النور الأكمل من هؤلاء الأنوار هو الشمس من نورها ، تفاض على سائر الأنوار (وكما ينكشف في نور الشمس صورة الآفاق مع اتساع أقطارها، ولا ينكشف في نور السراج إلا زاوية ضيقة من المنزل ، فكذلك يتفاوت انشراح الصدر بالمعارف، وانكشاف سعة الملكوت لقلوب العارفين) فالموقنون من المؤمنين أعلى إيمانا والعالمون من الموقنين أرفع مقاما ، فالمؤمنون في كمال الإيمان وحقائقه لا يستوون، وإن استووا بالدخول في الاسم والمعنى ، وكذلك تفاوتهم في الآخرة؛ (ولذلك جاء في الخبر أنه يقال يوم القيامة: أخرجوا من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان ، ونصف مثقال من إيمان ، وربع مثقال) من إيمان (وذرة) من إيمان ، وهكذا هو في القوت ، وقال العراقي : متفق عليه من حديث أبي سعيد ، وليس فيه قوله: ربع مثقال . ا هـ .

قلت: وأخرج الطيالسي وأحمد والشيخان وقال الترمذي : حسن صحيح. وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان كلهم من حديث أنس: " يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة ، ثم يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن برة ، ثم يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة ". وأخرج الترمذي، وقال: حسن صحيح من حديث أبي سعيد: " يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان ". (وكل ذلك تنبيه على تفاوت درجات الإيمان، وأن هذه المقادير من الإيمان لا تمنع دخول النار) ولفظ القوت: فقد حصلوا متفاوتين في الإيمان ما بين الذرة إلى المثقال ، وكلهم قد دخل النار إلا أنهم على مقامات فيها، (وفي مفهومه أن من إيمانه يزيد على مثقال فإنه لا يدخل النار؛ إذ لو دخل لأمر بإخراجه أولا ، وأن من في قلبه مثقال ذرة) من الإيمان (لا يستحق الخلود في النار وإن دخلها) ولفظ القوت ، وفيه دليل على أن من كان في قلبه مثقال من الإيمان لم يمنعه ذلك من دخول النار لعظيم ما اقترف من الأوزار ، وإن كان في قلبه وزن ذرة من الإيمان لم يحق عليه الخلود في دار الهوان لتعلقه بيسير الإيقان ، وأن من زاد إيمانه على زنة مثقال لم يكن للنار عليه سلطان ، وكان من الأبرار ، وأن من نقص إيمانه عن ذرة لم يخرج من النار ، وإن كانت سيماه وكان اسمه في الظاهر في المؤمنين؛ لأنه من المنافقين في علم الله تعالى الفجار ، وقد قال الله تبارك وتعالى في وصفهم: وإن الفجار لفي جحيم ثم قال: وما هم عنها بغائبين ثم صار صاحب المثقال والذرة في الجنة على تفاوت درجات ، وكان الزائد إيمانه على مثقال في أعلى عليين على هؤلاء ، وارتفع أهل الدرجات العلى على أعلى عليين ارتفاع الكوكب الدري في أفق السماء ، وكلهم قد اجتمع في الجنة على تفاوت مقامات (وكذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: " ليس شيء خيرا من ألف مثله إلا الإنسان أو المؤمن") هكذا هو في القوت، وقال العراقي : رواه الطبراني من حديث سلمان بلفظ " الإنسان " ولأحمد من حديث ابن عمر " لا نعلم شيئا خيرا من مائة مثله إلا الرجل المؤمن" وإسنادهما حسن ا هـ .

قلت: حديث سلمان أخرجه أيضا كذلك الضياء في المختارة بلفظ: " ليس شيء خيرا " ، وهو هكذا أيضا في بعض نسخ الكتاب ، واختلف قول الهيتمي فيه فقال مرة: مداره على أسامة بن زيد بن أسلم وهو ضعيف جدا ، وقال مرة في موضع آخر: رجاله رجال الصحيح غير إبراهيم بن محمد بن يوسف ، وهو ثقة .

وأما حديث ابن عمر فقد أخرجه أيضا الطبراني في الأوسط (أشار إلى تفضيل قلب العارف المؤمن وأنه خير من ألف من عوام الناس) أي: العارف الموقن قد يبلغ بقوة إيمانه وإيقانه إلى ثبوت في الدين وقيام بمصالح الإسلام والمسلمين بعلم يكسبه أو مال يبذله أو شجاعة يسد بها مسد ألف ، ولفظ القوت: : " فلعمري إن قلب المؤمن خير من ألف قلب مسلم " لأن إيمانه فوق إيمان مائة مؤمن، وعلمه بالله تعالى أضعاف علم مسلم ، ويقال: إن واحدا من الأبدال الثلاث مائة قيمته قيمة ثلاث مائة مؤمن ، وقال بعض علمائنا: يعطي الله عز وجل بعض المؤمنين من الإيمان بوزن جبل أحد ، ويعطي بعضهم ذرة، (وقد قال) الله سبحانه و (تعالى: وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين تفضيلا للمؤمن على المسلم) لأن وصف المؤمنين بالعلو، ولا نهاية لعلو الإيمان فصار علو كل مؤمن على قدر إيمانه، (والمراد به المؤمن العارف دون المقلد) الذي لم تتمكن

[ ص: 257 ] المعرفة في قلبه فهو بعد أسير ربقة التقليد، (وقال تعالى) في رفع العلماء على المؤمنين ( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات فأراد هنا بالذين آمنوا الذين صدقوا) تقليدا (من غير علم) صحيح (وميزهم عن الذين أوتوا العلم) فانكشفت به بصائرهم، فصدقوا وتحققوا (ويدل ذلك على أن اسم المؤمن يقع على المقلد وإن لم يكن تصديقه عن بصيرة وكشف) كما تقدم الكلام عليه قريبا، (وفسر ابن عباس) رضي الله عنه (قوله تعالى: والذين أوتوا العلم درجات فقال: يرفع العالم فوق المؤمن بسبع مائة درجة، بين كل درجتين ما بين السماء والأرض) ولفظ القوت: قال ابن عباس: الذين أوتوا العلم درجات فوق المؤمنين الذين لم يؤتوا العلم بسبع مائة درجة ، بين كل درجتين ما بين السماء والأرض ا هـ .

قلت: وقد روي ذلك مرفوعا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بلفظ: " فضل المؤمن العالم على المؤمن العابد سبعون درجة ما بين كل درجتين حضر الفرس السريع المضمر مائة عام " رواه ابن عدي في الكامل وابن عبد البر في كتاب العلم ، وسنده ضعيف. ورواه أبو يعلى من حديث عبد الرحمن بن عوف بسند لا بأس به، ولفظه: " فضل العالم على العابد سبعين درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض " (وقال -صلى الله عليه وسلم- : أكثر أهل الجنة البله ، وعليون لذوي الألباب) هكذا هو في القوت، وقال العراقي : تقدم دون هذه الزيادة ، ولم أجد لهذه الزيادة أصلا ، وهي مدرجة من كلام أحمد بن أبي الحواري، (وقال -صلى الله عليه وسلم- : فضل العالم على العابد كفضلي على أدنى رجل من أصحابي) رواه الترمذي من حديث أبي أمامة وصححه، وقد تقدم في كتاب العلم إلا أن لفظه " كفضلي على أدناكم " (وفي رواية: " كفضل القمر على سائر الكواكب") رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه وأبو نعيم في الحلية من حديث معاذ بزيادة " ليلة البدر " بعد " القمر " ، وقد تقدم أيضا في كتاب العلم (فبهذه الشواهد يتضح تفاوت درجات أهل الجنة بحسب تفاوت قلوبهم ومعارفهم) فالموقنون من المؤمنين أعلى إيمانا ، والعالمون من الموقنين أرفع مقاما (ولهذا كان يوم القيامة يوم التغابن) أي: يسمى بذلك؛ قال الله تعالى: ذلك يوم التغابن (إذ المحروم من رحمة الله عظيم الغبن والخسران) والتغابن تفاعل من الغبن وهو الخسارة في أصل المال، (والمرحوم) برحمته (يرى فوق درجته درجات عظيمة) يتأسف لفواتها (فيكون نظره إليها كنظر الغني الذي يملك عشرة دراهم إلى الغني الذي يملك الأرض من المشرق إلى المغرب، وكل واحد منهما غني) في حد ذاته، (ولكن ما أعظم الفرق بينهما ، وما أعظم الغبن على من يخسر حظه من ذلك) قال الله تعالى: ( وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا ) ... .




الخدمات العلمية